الفضول والقراءة

منذ أيام قالت لي فتاة شابة التقيتها في سوق ضاج، إنها لم تقرأ رواية في حياتها، ولم تكن تعرف ماذا تعني الرواية حتى وقت قريب، وتحديدا بعد تعرض الكاتب البريطاني سلمان رشدي للطعن من قبل شاب في أمريكا، على خلفية فتوى أصدرها آية الله الخميني في حقه، منذ أكثر من ثلاثين عاما، بعد نشره رواية اعتبرت مسيئة للدين.
قالت الفتاة إنها الآن متحمسة وتريد أن تقرأ الروايات لكل الكتاب المعروفين، واشترت بالفعل مجموعة منها، وتريد أن أرشح لها شيئا تقرأه.
حادث رشدي في هذه الحالة، وفي حالات كثيرة جدا، حتى في العالم الغربي، أيقظ فضول الذين لم يقرأوا له من قبل، لقراءته، والذين لا يعرفون القراءة الأدبية، بالتوجه نحوها، وبالتالي ثمة تحرك ما، إنه بالضبط يشبه أي تحرك يحدث حين حصول حادث مفرح أو مبكٍ، الناس قد لا تملك دوافع أو إمكانات لشراء الكتب ومطالعتها، والركض خلف الجديد منها، وقد لا تملك أصلا مزاجا يتحمس لمعاشرة الكتب، لكن جميعنا يملك فضولا بدرجات متفاوتة لمعرفة شيء كان غامضا، وانكشف جزء منه فجأة.
هذه الفتاة قد تعجبها مسألة القراءة، وتندمج معها وتصبح من القراء المميزين لاحقا، أو القراء المندمجين في مجموعات تنتقي الكتب وتناقشها بانتظام، وقد تمل من أول كتاب تتصفحه، ولا تهتم بعد ذلك وتعود إلى عالم الوسائط الاجتماعية، الذي يسحب الناس من الكتب كما هو معروف، وأيضا قد يكون لقاؤها معي وحديثها عن الكتب والترشيحات، مجرد حديث إيجابي نظري، كونها التقت شخصا يعمل في الكتابة، وتعرفه صورةً، من دون أن تعرف ما أنتجه، وإن كان جديرا بقراءته أم لا؟
أيضا وفي السياق نفسه، طلب مني زميل من الهند يقرأ من حين لآخر باللغة الإنكليزية، أن أرشح له عملا لرشدي غير آياته تلك، لأنه لم يقرأ له من قبل، والآن يتملكه الفضول لمعرفة ماذا يكتب، وإن كان لأصله الهندي وجود في كتابته، وأعتقد أن سؤالا كهذا تكون إجابته السريعة هي رواية: «أطفال منتصف الليل» التي تتحدث عن تاريخ الهند وثقافتها بعيدا عن أي شيء آخر.
أوردت هذين المثالين لأتحدث عن الفضول الذي يتبع غير المألوف، ليحاول نحت مألوف جديد، الفضول الجائع، الذي يتحرك دائما وبسرعة شديدة باحثا عن الشبع، كلنا نتوقف في الطريق حين نلمح إسعافا واقفا وشخصا ملقى إلى جانبه، لنرى ماذا يحدث، وكلنا نركض سريعا نحو أي تجمع فيه صراخ ما، لنحاول معرفة من الذي يصرخ ولماذا؟

ستعمل الماكينة التجارية، على ترجمة الكثير من أعمال سلمان رشدي، وله بالفعل أعمال كثيرة وتستحق أن تقرأ بعيدا عن كتابه السيئ ذلك، وأعتقد لو حذف من منجزه الأدبي لن يؤثر أبدا.

وبالنسبة لمسألة الترشيحات الخاصة بالقراءة، أعتقد أنها ليست مهمة الكاتب، أن يرشح لك عملا، خاصة إن كنت من المبتدئين في القراءة الأدبية، وقد كنا في الماضي نعتمد على النقاد في فعل ذلك، الناقد كان يعثر على كتاب جيد أو رديء، لا فرق، يحاول إضاءته في مقال مبسط، وينشر ما يراه عنه في ملاحق ثقافية كانت تهتم بالثقافة بالفعل، ولا تنقل الأخبار من الإنترنت وتكررها كما يحدث الآن، وأذكر أن رواية «العطر» مثلا للألماني باتريك زوسكيند، روّج لها النقاد حين ترجمت للعربية، ثم انتقل الترويج لها إلى المقاهي، وسط المثقفين، واعتبرت عدم قراءتها نقصا فادحا في المعرفة، وأمرا يجب أن يخجل منه المرء، أيضا رواية «اسم الوردة» للإيطالي أمبرتو إيكو، التي تحدثت عن الرهبان والكنيسة والجريمة، ورواية «المخطوط القرمزي» للإسباني أنطونيو جالا، وكان أن التقاني مرة شخص يعرفني، ويعرف أنني أكتب وقال لي مباشرة: «أنت تبكي كالنساء ملكا لم تحافظ عليه كالرجال» تلك الجملة التي قيلت في حق أبي عبد الله الصغير، آخر ملوك الأندلس، ووردت في رواية «المخطوط القرمزي». لم أكن قد قرأت تلك الرواية بعد، وفي الحقيقة لم أكن سمعت عنها، وكما قلت في ذلك الوقت لم تكن هناك إنترنت ولا وسائط تنقل المعرفة، كانت المكتبات فقط، والمقاهي لرواد المقاهي، والمصادفات التي تحدث حين يلتقي بك شخص مثل هذا الذي ذكر تلك الجملة.
سألته: ماذا تعني؟
فرفع حاجبيه دهشة، قال: ألم تقرأ تاريح الأندلس؟ ألم تقرأ رواية «المخطوط القرمزي»؟ وهكذا كلفت صديقا كان مسافرا إلى سوريا أن يبحث لي عن تلك الرواية، وعثر عليها في طبعة بغلاف سميك، كانت رائعة فعلا، وفيها من المعرفة والمتعة الكثير. الشيء نفسه حدث عند ظهور البرازيلي باولو كويلهو وروايته «الخيميائي» التي لا أفهم بصراحة السبب الذي حولها إلى معجزة أو أسطورة، وحولها ومعها وبالقرب منها آلاف الروايات الجيدة، إنها قصة بسيطة، أو حكاية إن جاز التعبير، لكن أحيانا تصنع القراءة المتحمسة مثل هذه الأساطير، بينما تتقاعس عن صنع أساطير أخرى كانت جديرة بصناعتها.
أعتقد في مقبل الأيام، ستعمل الماكينة التجارية، على ترجمة الكثير من أعمال سلمان رشدي، وله بالفعل أعمال كثيرة وتستحق أن تقرأ بعيدا عن كتابه السيئ ذلك، وأعتقد لو حذف من منجزه الأدبي لن يؤثر أبدا. ولطالما اعتبرت الإساءة للمعتقدات، ليست من ضمن حرية الرأي، والكاتب نفسه حين يشرع في كتابة رواية أو قصة، يعرف ذلك، لكن بعض الكتاب يتعمدون إثارة النعرات، ربما بحثا عن كسب، وما زلت أتذكر رواية: جوهرة المدينة للكاتبة الأمريكية شيري جونز، التي أثار أمر نشرها لغطا كثيرا، لكن لحسن الحظ تم إهمالها، ولم تنل الكاتبة ما كانت تصبو إليه من وراء تأليفها ونشرها.

كاتب سوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول شهاب الدين:

    القصة الجيدة، أو الحكاية المستوفاة العناصر، هي كل ما يبحث عنه القارئ،..و إنّ هذا ال تقييم “جيدة”، قلّ ما نجده، بل يصعب أن نجده هذه الأيام..
    قد يرشح لي أحدهم اسما ل رواية أو قصيدة، فتخيب آمالي جدا عند لحظة القراءة، وألعن في سرّي ذلك الذي ضيّع من وقتي..!
    قد يكون الأصلح أن نقول، ليس هنالك اختلاف في الأذواق، بل هناك قارئ سيء وآخر جيد.. ،والكتابة الجيدة لا تخفي نفسها أبدا،وكذلك الجيدة..
    وقد أفتح كتابا يرشحه لي كاتب ذو صيت، فتصيبني الحيرة لو طلب مني رأيا حياله، كيف سأقول لجنابه فيما بعد أنّ ظنّه بالعمل ليس بمحلّه!
    وفي رواية “الخيميائي” ل باولو كويلهو، وغيرها من كتب مؤلفين نالوا شهرة واسعة، نجد ذلك الحسد عند بعض الأدباء لا خفيّا، بل واضحا تماما…
    ولسان حالهم يقول “لماذا ليس نحن؟! لقد بذلنا ما بوسعنا كي نشُدّ القراء إلينا ولم نفلح، ولم نترك طلاسم إلا ووضعناها، وتبحّرنا في أعمق أعماق الفلسفة، وبالكاد لنا بعض المعجبين هنا وهناك!”.
    لم يسألوا أنفسهم لماذا هذا الجيل يقبل بحفاوة وشغف على غيرهم، بببساطة لأنهم لا يخاطبوه بلغته..
    يكفي هذا الجيل أن تكون الحكاية جيدة بسيطة محفزة، وهذا كل ما يتمناه، وهذا ماوجده في الخيميائي وغيرها…

  2. يقول ع.الرحمن:

    منذ سنوات كانت مجلة (الناقد) تخصص حيزا للكتب والنقد والمراجعة تحت عنوان (دليل القارئ العربي إلى الكتاب الرديء)

إشترك في قائمتنا البريدية