أيادي اللاعبين الدوليين تتقاذف الأزمة الليبية

رشيد خشانة
حجم الخط
0

عودة الحديث اليوم عن الحكومة التكنوقراطية، تزامنت مع تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة في هذا الشأن، ومع وصول نائبة رئيس البعثة الأممية ستيفاني خوري إلى طرابلس.

هل يحتمل الوضع الليبي تشكيل حكومة جديدة، تكون مؤلفة من تكنوقراطيين، أم أن هذه الخطوة ستزيد من المشاحنات، وتُعيد عقارب الساعة إلى لحظة تأليف حكومة الدبيبة، التي كانت تُعتبر مؤقتة، ولم تُعط أي دور في الاشراف على الانتخابات؟ التيار الذي يبدو سائدا اليوم هو رأي من يشددون على الطابع المؤقت للحكومة، ومن ثم على تنحيتها. ومن هؤلاء أستاذ القانون في الجامعة الليبية محمد زبيدة، الذي اعتبر، في تصريحات صحافية، أن فتح الباب الآن لتلقي ملفات الترشيح لرئاسة الحكومة «خطوة سابقة لأوانها، بسبب غياب التوافق حولها». وطرح الحديث عن هذه المسألة عدة أسئلة في شأن نقاط القوة التي يملكها مجلس النواب، لفرض حكومة وإقالة أخرى.
ومن المهم الإشارة هنا إلى أن إصرار رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة على رفض تسليم السلطة، وهو المُتوقع، ستصبح ليبيا في ظل ثلاث حكومات، هي حكومة الدبيبة والحكومة الموازية برئاسة أسامة حماد، بالإضافة إلى الحكومة التي يُزمع تشكيلُها. وكان رئيس المجلس الأعلى للدولة محمد تكالة، أعلن عن التوصل إلى حل في الاجتماع الذي تم في القاهرة، الشهر الماضي، من أجل تعديل بعض بنود اتفاق بوزنيقة (المغرب) وتم الاتفاق خلاله، حسب البيان الصادر عقب الاجتماع، على تشكيل لجنة لمراجعة القوانين الانتخابية. غير أن الكاتب الصحافي عبد الله الكبير رجح أن الأوضاع ستنتهي إلى طريق مسدود، وأن هذه اللجنة، حتى إن توصلت لبعض التفاهمات والتوافقات على تعديل القوانين، فإن مجلس النواب لن يعتمدها، إذا ما كانت تقصي القوة المسيطرة على مجلس النواب، والتي تريد ترشيح نفسها (عقيلة صالح وحفتر). واستطرادا فهي تريد إلغاء كل الشروط التي تقصيها من الانتخابات، استمراراً للهدف نفسه، وهو تقويض المسار الانتخابي، كي لا تفقد هي سلطتها، بعد الانتخابات. وبتعبير آخر فإن جميع المؤشرات تدل على أن الطريق المؤدية للانتخابات ستكون غير سالكة في المدى المنظور.
مع ذلك تعتقد مصادر حسنة الاطلاع أن مسألة تشكيل حكومة جديدة من عدمه يحسمها مجيء ضوء أخضر دولي، وخاصة أمريكي. لكن لا يخفى التعارض بين ما تريده القوى المسيطرة على مجلس النواب، وتلك المتحكمة في المجلس الأعلى للدولة، ولذا إن لم تستجب المُراجعة لمطالب مجلس الدولة، فالأرجح، حسب توقعات عبد الله الكبير، أن يستمر الانسداد الحالي. وإذا ما تُرك الأمر للأطراف المحلية، فإن التوافق سيكون مُتعذرا، نظراً لتعدد الأطراف المتداخلة في الأمر، وطموح الكثيرين إلى تقلُد منصب رئاسة الحكومة أو في الأقل، نيل حصة منها، على رأي الكبير، الذي يعتقد أن القوى السياسية المحلية غير قادرة على التوافق لتشكيل حكومة جديدة. مع ذلك أكد صالح وجود اتصالات جارية مع المجلس الأعلى للدولة للاتفاق على آلية تشكيل الحكومة. كما كان هناك انفتاح على هذه الخطوة، خلال الجلسة قبل الأخيرة لمجلس الأمن، التي تحدث فيها المندوب الأمريكي عن تشكيل حكومة تكنوقراط.
والمُلاحظ أن عودة الحديث اليوم عن هذه الحكومة التكنوقراطية، تزامنت مع تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة في هذا الشأن، وأيضا مع وصول نائبة رئيس البعثة الأممية ستيفاني خوري إلى طرابلس، ومباشرتها العمل مبعوثة أممية بالإنابة. وأماطت تصريحاتُ الأمين العام للأمم المتحدة أنطونو غوتيريش الأخيرة، اللثام عن مساعي الأمريكيين لتشكيل حكومة تكنوقراط. وبات مؤكدا أنه سيتم تفعيل هذه الخطة من خلال المبعوثة السابقة ستيفاني ويليامز، في الأوساط الأممية. أما رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، فأكد أن المجلس أعد القاعدة الدستورية للانتخابات الرئاسية والبرلمانية، ويمكن إجراؤها قبل نهاية العام، وهو تقدير غير واقعي بالنظر للأوضاع الأمنية والسياسية في البلد، والمنطقة عموما. وزاد صالح «هناك أناس لا يريدون ترك الكرسي» في انتقاد غير مباشر، لكنه واضح للدبيبة. وأكد أن هناك اتفاقا من حيث المبدأ مع مجلس الدولة، على أن يُزكي المُرشح لرئاسة الحكومة، عشرون عضوا من مجلس الدولة، وعشرة من مجلس النواب، على أن يُقدم كل مرشح برنامجه الانتخابي الخاص.

توحيد الجيش؟

وتحاول باريس من جهتها، الدفع نحو خطة لتشكيل وحدات عسكرية مشتركة، تقوم بتأمين الحدود الليبية. وكانت فرنسا استقبلت أعضاء اللجنة في وقت سابق بباريس، وجرى تكريمهم في تموز/يوليو 2023 لكن العملية لم تُثمر. ويعزو خبراء دوليون البطء الشديد في حلحلة الأزمة الليبية، إلى أن الدول التي جاءت من خلالها حكومة الوحدة الوطنية، لم تصل بعدُ إلى قناعة بضرورة تغيير تلك الحكومة الموجودة في طرابلس، عدا أمريكا. وعندما تناول الكلمة المندوب الأمريكي، خلال الجلسة قبل الأخيرة لمجلس الأمن، تحدث عن ضرورة تشكيل حكومة تكنوقراط. وفي سياق هذه الجهود الأمريكية المكثفة، أفادت السفارة الأمريكية أن المبعوث الخاص للولايات المتحدة إلى ليبيا السفير ريتشارد نورلاند، اجتمع مع رئيس المجلس الرئاسي المنفي، «من أجل استعادة العملية السياسية بقيادة الأمم المتحدة». وتطرقا إلى آليات كسر الجمود الحالي والوصول إلى توافقات تُفضي إلى إجراء الانتخابات.
وذهبت فرنسا إلى أبعد من ذلك، إذ كشفت مصادر استخبارية فرنسية أن باريس أبلغت الليبيين والدوائر الدولية المعنية بالملف الليبي، استعدادها لاستضافة قمة أمنية مصغرة، بمشاركة ممثلي بريطانيا والولايات المتحدة وإيطاليا، وسيكون على رأس جدول أعمالها وضع خطة لإنشاء وحدات عسكرية مشتركة لتأمين الحدود. وهناك عاملٌ آخر لا يقل أهمية عن العوامل السابقة، يتمثل في ترحيل المرتزقة الأجانب، بمن في ذلك مجموعة «فاغنر» الروسية شبه العسكرية، التي تملك نفوذا كبيرا في ليبيا، في منطقتي الشرق والجنوب الغربي، والتي يسيطر عليها جزئيا الجنرال المتقاعد حفتر. والظاهر أن الكرملين قرر «تأميم» المجموعة، وأسند زمام قيادتها مباشرة إلى ضباط الجيش الأحمر. وأفادت صحيفة «لوبوان» الفرنسية أن سفينتين حربيتين روسيتين، ظلتا «تناضلان» منذ بدء الحرب الروسية في أوكرانيا، لتوصيل معدات لوجستية ومدفعية إلى ميناء طبرق الليبي.
وفي الثاني عشر من نيسان/ابريل الماضي، قامت طائرات «إليوشن 2-76» بنقل قوات روسية طوال الليل إلى النيجر، الدولة المتاخمة لليبيا، وهي أحد مراكز الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا. ولوحظ وجود الأجهزة نفسها في بوركينا فاسو، قبل وقت قصير من الانقلاب الذي قاده الضابط إبراهيم تراوري. أكثر من ذلك أفادت وكالة الأنباء الإيطالية «نوفا» أن خمس شحنات عسكرية روسية وصلت إلى ميناء مدينة طبرق (شرق) في الفترة الأخيرة، من دون الكشف عن محتوى تلك الشحنات.
في هذه الأثناء حاولت فرنسا الدفع، مع رئيسي الأركان العامة في الشرق والغرب، بخطة لتشكيل وحدات مشتركة مهمتها تأمين الحدود، إلى جانب ضم ضباط من اللجنة العسكرية المشتركة «5+5» مثلما أسلفنا. في هذا الإطار تستعد باريس، التي خسرت مواقع استراتيجية في غرب أفريقيا، لاستقبال قمة أمنية مصغرة، مخصصة للملف الليبي. وسيكون الموضوع، حسب صحيفة «لوبوان» وضع خطة لتكوين وحدات عسكرية مشتركة لتأمين الحدود، الخاضعة حاليا لسيطرة المكونات القبلية في الغرب والجنوب، ولقوات خليفة حفتر في الشرق.
وفي خط مُواز يُنتظر أن يطرح المشاركون في اجتماع باريس خطة لنزع السلاح وتسريح عناصر من الأجسام المسلحة ومعاودة إدماج البعض الآخر في المؤسسات الأمنية والعسكرية للدولة. وإذا ما تم الاتفاق على هذه الخطة والشروع في تنفيذها، فإنها ستتعزز بمسار أمريكي مشابه، إذ ستُشرف شركة «أمنتوم» الأمريكية شبه العسكرية، على تدريب الجماعات المسلحة، التابعة لحكومة الوحدة، برئاسة الدبيبة. والهدف النهائي لهذه العملية هو دمج تلك العناصر في جيش نظامي موحد.
غير بعيد من هناك، تتحرك قوات روسية في بلدان الساحل والصحراء، استجابة لطلبات من الدول التي كانت مستعمرات فرنسية، وتمردت على الهيمنة الاستعمارية، عن طريق انقلابات عسكرية، أطاحت بالأنظمة التي كانت قائمة في النيجر ومالي وبوركينا فاسو. وتعارض أمريكا وفرنسا بشدة التمدُد العسكري الروسي في المنطقة، بما في ذلك العلاقات المتينة بين الحاكم العسكري للمنطقة الشرقية الجنرال خليفة حفتر وموسكو. وفي الثامن من نيسان/ابريل الماضي، رست سفينتان روسيتان في ميناء مدينة طبرق، آتيتين هذه المرة من قاعدة طرطوس البحرية الروسية في سوريا. وفي المقابل يُرجح أن يجتمع المبعوثون الغربيون إلى ليبيا لمناقشة مسائل تتعلق بالسيادة وتأمين الحدود، في غياب دول الجوار، وخاصة الجزائر وتونس ومصر. والأرجح أن الهيكلة الجديدة لمجموعة «فاغنر» ستستكمل مع حلول الصيف، وعندها ستصبح مرجعيتها «الفيلق الأفريقي». وستشمل دائرة نشاط الفيلق، إلى جانب شرق ليبيا، كلا من بوركينا فاسو ومالي وجمهورية أفريقيا الوسطى والنيجر، بإشراف الجنرال يونس بك يفكوروف، نائب وزير الدفاع الروسي.

سفارتان عائدتان

وفي إطار هذا السباق الضاري لتوسيع النفوذ، تحاول كل من روسيا وأمريكا تعزيز حضورهما الدبلوماسي في ليبيا، إذ ترغب واشنطن في معاودة فتح سفارتها في طرابلس التي أقفلتها بعد مغادرة الدبلوماسيين الأمريكيين ليبيا في العام 2014 في أعقاب اغتيال السفير  كريس ستيفنز، في القنصلية الأمريكية في بنغازي. وفي هذا السياق أفادت شبكة «سي إن إن» الأمريكية، أن وزارة الخارجية، طلبت تخصيص مبلغ 12.7 مليون دولار، من موازنة العام المقبل، لاستئناف أعمال السفارة في ليبيا وتوفير النفقات التشغيلية لعمليات السفر والدعم الدبلوماسي انطلاقا من تونس، وكذلك لزيادة استخدام الطائرات الخاصة المتمركزة في مالطا للقيام برحلات جوية إلى طرابلس.
أما موسكو فجددت طواقمها الدبلوماسية، واستكملت فتح سفارتها في طرابلس، وعينت في كانون الثاني/يناير الماضي على رأسها سفيرا يُعتبر من كبار المُستعربين في الخارجية الروسية، هو حيدر رشيدوفيتش أغانين. من هنا تتجه التوقعات إلى أن الساحة الدبلوماسية ستُبصر في الفترة المقبلة، تزاحما على ربط الصلات بالنخب الليبية المؤثرة، وفق خطة كل من موسكو وواشنطن لحل الأزمة السياسية في ليبيا. ويمكن القول إن إجراء الانتخابات الرئاسية يشكل حاليا القاسم المشترك بين الخارجية الأمريكية، التي تدعو إلى تشكيل حكومة تكنوقراطيين، تمهيدا للانتخابات، والخارجية الروسية، التي تتمسك بمطلب الانتخابات أيضا، لكن انطلاقا من مراهنتها على فوز حليفها سيف الإسلام القذافي… إذا ما سُمح له بالترشُح.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية