مع أنهم لم ينزعوا إلى الآن فتيلها بشكل كامل، إلا أن الإسلاميين التونسيين نجحوا على الأقل في تعطيل مفعول ما وصفته صحيفة «هآرتس» الاسرائيلية العام الماضي «بالقنبلة ذات الوزن الثقيل التي ألقيت في تونس»، في الوقت الذي كانت تحوم فيه الشكوك حول قدرتهم على القيام بذلك، خصوصا بعد الكم الهائل من التنازلات التي قدموها لشريكهم في السلطة، حفاظا على تحالفهم مع الرئيس وحزبه.
ولكن قيادات حركة النهضة كانت تعي جيدا أن انفجارها كان سيلحق الضرر بصورتهم، وسيفقدهم مبرر استمرارهم كحركة سياسية ذات مرجعية إسلامية. ولأجل ذلك فقد كان تعطيل مفعول تلك القنبلة بالنسبة لهم عملا ضروريا، مثلما كان الحفاظ على علاقتهم بالرئيس يكتسي في نظرهم أهمية حيوية. ولم يكن التوفيق بين العملين المتناقضين في الظاهر بالهين والبسيط، فقد استغرق الأمر شهورا وتطلب جلسات وحوارات وصياغات شتى، أفضت في الأخير لخروج حركة النهضة بموقف حاسم، عبّر عنه بيان مجلس الشورى في السادس والعشرين من الشهر الماضي، حين أكد في نقطته الأولى على «تمسكه بخيار التوافق لتجاوز كل صعوبات المرحلة، وتأكيده على ضرورة العمل المشترك مع القوى الوطنية السياسية والاجتماعية، لتجاوز الأزمة السياسية التي تشهدها البلاد». ثم شدد في نقطته الأخيرة على «التزام الحركة مؤكدا على أنه، أي مجلس الشورى، وهو اعلى هيئة تقريرية في الحزب قرر «التمسك بنظام المواريث كما ورد في النصوص القطعية في القرآن والسنة، وعبّرت عنه مجلة الأحوال الشخصية»، مشيرا إلى أن «مبادرة المساواة في الإرث، فضلا عن تعارضها مع قطعيات الدين ونصوص الدستور ومجلة الأحوال الشخصية، فهي تثير جملة من المخاوف على استقرار الأسرة التونسية ونمط المجتمع»، ولافتا النظر في الأخير إلى دعم المجلس «كل مسعى لتطوير المجلة، أي مدونة الأحوال الشخصية بما يسهم في ضمان حقوق المرأة، وبما لا يتعارض مع النصوص القطعية في الدين ونصوص الدستور».
أما قبل الوصول لتلك الصيغة التي أراد النهضويون من ورائها أن يبطلوا مفعول قنبلة قائد السبسي، أشعل الأخير الفتيل في احتفالية يوم المرأة للعام الماضي، التي كان الغائب الأبرز عنها رئيس حركة النهضة الشيخ راشد الغنوشي. وهو ما أجج التكهنات والتساؤلات حينها، وشد الأنظار إليه وإلى حزبه. لقد كان الشيخ يمضي في ذلك الوقت، وبحسب ما صرح به حينها الناطق الرسمي باسم الحركة، إجازة سنوية خارج تونس، ولأجل ذلك فقد تعذر عليه أن يحضر الاحتفالية، ويستمع مباشرة للرئيس قائد السبسي وهو يقول أمام حشد من المدعويين إنه «أصبح اليوم من المطلوب ومن الممكن تعديل قانون الأحوال الشخصية المتعلق بالإرث بصورة مرحلية متدرجة، حتى بلوغ هدف المساواة التامة بين الرجل والمرأة. وإذا ما نظرنا الى الفصل الثاني من الدستور، الذي ينص على أن تونس دولة مدنية تقوم على المواطنة وارادة الشعب وعلوية القانون، فإن أحكام الميراث أصبحت تمثل الجزء الشاذ في مجلة الأحوال الشخصية، لأنها خارجة عن الفلسفة التحررية العامة المجسدة في جل المسائل الاخرى الواردة في المجلة، والمبنية أساسا على السعي نحو الحد من التمييز بين الجنسين. ونحن اليوم نريد أن نرتقي بها حتى تواكب العصر وتتناغم مع رؤيتنا التحررية في الإصلاح والمساواة». ثم يضيف بأن «موضوع الإرث هو من مسائل الدنيا الفانية التي تركها الله الحكم العادل لاجتهاد خلقه». ولأنه كان من الصعب جدا أن يصدق أحد في تونس أن يكون الرئيس قد قرر الخوض في مسألة دقيقة وحساسة مثل مسألة المساواة في الميراث، لن يضمن أنها ستكون محل إجماع وطني، بدون التشاور أو التنسيق أو في أدنى الحالات إخطار شريكه في الحكم، وفي تجربة التوافق، أي حركة النهضة فإنه سيكون من المستبعد كذلك أن يكون الشيخ الغنوشي قد فوجئ بكلام الرئيس أو اكتشف خططه ونواياه فقط بعد الاستماع لخطاب الثالث عشر من أغسطس/آب من العام الماضي، فهل فضّل الغياب إذن حتى لا يفسر حضوره على أنه مصادقة أو مباركة ضمنية لمقترحات الرئيس، وأراد أن يفهم على العكس من ذلك على أنه نوع من الرفض والاحتجاج الدبلوماسي الهادئ عليها؟
مهما يكن الأمر فقد ظل موقف الشيخ وموقف الحركة على امتداد عام كامل من ذلك الخطاب غامضا وملتبسا بعض الشيء، وربما حتى حمالا لأوجه عديدة. وسمع التونسيون على امتداد تلك الفترة من قادة بارزين في النهضة آراء فضفاضة تحمل قدرا كبيرا من الضبابية، وتفتقد للحسم، إما لصالح المقترح، وإما لضده. وكان واضحا أنهم لم يكونوا راغبين في الدخول في مواجهة مكشوفة مع الرئيس، أو في المس من الوفاق الهش بينهم وبين الحرس القديم، ممثلا في حزب النداء. ولأجل ذلك فقد حرصوا على التدقيق جيدا في بياناتهم وتصريحاتهم لوسائل الإعلام، وأعطوا أكثر من إشارة على أنهم منفتحون على الحوار والنقاش في شتى القضايا، حتى بما فيها تلك التي تلوح شديدة الحساسية، وعلى تماس مباشر بالنصوص والاحكام القرآنية الصريحة.
إن الخط العام الذي اختاروا السير فيه كان يفترض أن، طرح الفكرة أو المقترح لن يكون مشكلا في حد ذاته، فللرئيس أن يقول أو يفكر في ما يشاء ولكن ليس له ان يقرر منفردا أو يلزم الاخرين بأفكاره. ووفقا لذلك فقد صرح رئيس المكتب السياسي لوكالة الانباء الرسمية بأن» الحركة لا ترى أي إشكال في طرح موضوع المساواة في الإرث بين المرأة والرجل، طالما أن تلك المسألة ستطرح ضمن ثوابت الدستور وفي إطار الالتزام بنص الإسلام وروحه». ولعل ما أراده النهضويون من وراء ذلك هو أن يمنحوا أنفسهم بعض الوقت وأن لا ينساقوا وراء رد فعل متسرع قد يرتد عليهم بالسلب. فقد كانوا يعلمون جيدا أن كل العيون في الداخل والخارج كانت تراقب الطريقة التي سيتصرفون بها، مع ما وصفته الناطقة الرسمية باسم الرئاسة بعد خطاب قائد السبسي الأخير في أغسطس الماضي، بالاختبار لمدنية حركتهم، وكانوا يعلمون أيضا ما الذي يعنيه ان يتزامن مثل ذلك التصريح مع ما كتبته صحيفة «لوموند» الفرنسية في افتتاحيتها من أنه «إذا أرادت النهضة ان تقتلع تأشيرة الحداثة والمدنية فعليها أن تسعى لتكريس المساواة بين الجنسين ودعم مبادرة رئاسة الجمهورية في المساواة في الإرث». ولكنهم كانوا يدركون بالمقابل انه مهما كان حجم الجوائز التي سيكسبونها من وراء قبولهم بمبادرة الرئيس مغريا، فإن الثمن الذي سيدفعونه سيكون عاليا ايضا، وربما كان سيقودهم الى الانتحار السياسي. ولئن لم يكشف النقاب عن تفاصيل ما جرى وراء الابواب المغلقة لاجتماع مجلس الشورى الاخير، فمن المؤكد ان الخروج بذلك البيان أعاد الكرة مجددا الى المرمى المقابل، لكن كيف سيخمد الاسلاميون القنبلة نهائيا؟ ربما هذا ما سنراه قريبا في الجزء التالي من قصتهم مع مقترح المساواة في الإرث، التي ستلقى وبلا شك بظلالها على تحالفاتهم وعلى توازنات المشهد السياسي المقبل في تونس.
كاتب وصحافي من تونس