عن صفوان حيدر… صديقنا الغريب بيننا

حجم الخط
0

بقينا سنتين لم نشترِ فيهما كتابا من صفوان. لم يعد يظهر في شارع الحمرا لينصحنا بها. الذين يعرفونه كانوا يسألون بعضهم بعضا عن أخباره، ولا أحد من الجالسين يجيب. اعتادوا على اختفائه. في مرّة عرفوا، وكان ذلك مدوّيا، أن الدولة لم تجد له مكانا في دير الصليب فألقته في السجن. وحين أعيد إلى المستشفى زرناه أنا وشربل. بدأ كلامه عاديا، مجاريا إيانا، ثم تحوّل، بقفزات متتالية، إلى الكلام عن مؤمرات ومخابرات وجواسيس كمنوا له وتمكّنوا منه. كان ينبغي عندها أن نغادر، حسبما أشار الممرّض، لأن وقت الدواء قد حان.
هكذا كان يحدث حين نلتقيه خارج المستشفى وخارج السجن: يبدأ يتكلم مثلنا ثم ينحرف به مرضه فيصير يحكي عن مغامرات تُرفع فيها السيوف وتصهل الأحصنة كما لو أننا في حرب تجري في العصر الجاهلي. في مرة ابتسم بعد شطحته، كأنه عرف أن لحظات مرّت عليه لم يكن فيها هنا، معنا. هذا لم يكن يحدث دائما، لكن، رغم ذلك، نظل محاذرين فيما هو يكلمنا، إذ نظن أنه قد يتبدل فجأة وأن شيئا عدوانيا سيظهر لنا منه. وفي مرات كان طيّبا وحنونا. قال لنا حين التقيناه في مقهى الروضة، بعد أن اشترينا منه نسختين من كتابه، إنه سيدعونا إلى غداء يطبخ لنا فيه ديكا روميا ويقدم لنا البوظة باللون الأصفر. ربما أراد الاحتفاء بنا لأن القليلين كانوا يشترون منه نسخا، أو ربما اشتروا كتابا من قبل وهو يعرف أو لا يعرف عن ذلك.
ومثلما جمع بين البوظة والديك الرومي كان يفعل في ما يكتبه. لا شيء مجاريا لمُوَضات الكتابة الدارجة، ولا لصيغها الجارية على الألسن والأقلام. كان يخترع لغته ومجازاته التي لم نكن متسامحين إزاء غرابتها ونفرتها من المألوف. يبدأ ذلك من العناوين التي مثل «زيتونة المرجان» أو «أمطار الشمس والكلام» أو حتى «نوارس الندم». يبدو لنا ذلك كأنه تألّف في عقل لا يجمع الأشياء كما اعتادت أن تُجمع. كأن ما يجري هناك، في الرأس، توصيلات وروابط تجري بغير ما تقرّر أو اتُّفِق عليه.
بعضنا كان يعرفه من قبل ما يصير حيث صار. أذكره في كلية التربية. أكثر ما أذكر منه ضحكته المجلجلة التي ينبض لها شريانان في جبينه تحت شعره الكثيف والحالك السواد. كان مثلما هو، في حالته ذاتها، العاقلة في النهار كما هي عاقلة في الليل، وذلك حين نسهر عنده في غرفته المنفصلة عن بيته، التي يُدخل إليها من باب منفصل. كان يستعد ليعيش كشاعر، وليس فقط أن يكتب كشاعر. وكان يقرأ لنا ما يكتب، نحن أصحابه. لا أذكر شيئا من تلك الكتابات، إذ آلت أوراقها إلى التمزيق، لكنني أذكر أكثر علامات الخروج عن السويّة. ولم نكن نحتاج إلى تحليلات كثيرة حتى ندركها، إذ كان يقدّمها لنا صريحة واضحة. من ذلك مثلا اتصاله بي على رقم الكافتيريا ليبلغني أنه سينهي حياته إن لم أجئ إليه وأنقذه في الحال. وقد خطر لي، من طريقة قوله، أن ذلك ممكن الحصول فتوجهت من فوري إلى بشارة الخوري، حيث بيته. ومن فور دخولي طلب مني سيجارة ليدخن. وأنا لأُدخل مزاحا على الجوّ قلت له مازحا: اللي بدّو يستعد للانتحار لازم قبل كل شي يأمّن الدخّانات. ضحك، واحدة من ضحكاته ذاتها التي ينبض لها الشريانان.
لكن متقلّبا في خضمّ تلك الفوضى أذكر أنه كان ينطق بشعر حقيقي. أقصد الشعر الذي يغيّر الرؤية، كأن يدفعك إلى أن ترى الشمس تتخلل الضباب كما لو خطر ذلك في منام خلاق. في مرة أخرى جعلني أتخيل شمسا تشرق من نفق. وأنا، المأخوذ آنذاك بفكرة أن مكمن الشعر الأصلي هو الجنون، رحت أستدرج صفوان، في أوقات صفائه، أن يصف ما يخطر له. صحيح أن منا من كان يسأل قائلا ولك حدا بيعرف شي عن صفوان، لكن ذلك التذكّر المفاجئ لا يتقدم إلى الأمام، حتى لو سنتيمترا واحدا. نتذكر صفوان، نسأل عنه لكن لا ننتظر سماع جواب. ومثلما كشفت كاتيا سرور في السابق أنه ملقى في السجن، كتب قليلون معلنين الأسبوع الماضي أنه توفي في دير الصليب. هذه المرة أيضا أقول إننا كان يجب أن نهتم بصفوان لكننا، مع الأسف، نسينا أن نفعل.

كاتب لبناني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية