من طفولته في قريته «رملة العريان» ودراسته للدين، إلى إقامته متقاعدا في بريطانيا، تمتدّ حياة الطفل، ثم الشيخ راويا حكايته من ابتداء الرواية إلى فصلها الأخير. وحياته هذه تجري على لسانه، هو الحافظ لآيات القرآن وأحاديث النبي وقصائد وأمثال وحكم قديمة ومتأخرة. أعني أن روايته لم تفارق لغته أبدا، كأنه يروي فصولها شفاهيا لمؤمنين مؤتلفة قلوبهم، مصدّقين لما يسمعونه. لا تختلف لغة الابتهالات الموجزة التي تتصدّر كلا من الفصول عن لغة الصفحات التي تتلوها، تلك التي يروي فيها حياته. ودائما يدلّ السرد إلى معرفة الكاتب الروائي الواسعة بالعالم الذي يكتب عنه، كما بثقافته ودواخله. الرواية التي صدرت هذا العام (2024) تبدو بعيدة عن لغة ما يُكتب في زمننا، زمننا الروائي أقصد، حيث تميل الكتابة إلى مماشاة الراهن والمستجد لغة وتعبيرا.
في أحيان نفكّر أن العمل الذي بين أيدينا يرجع إلى لغة كتابة سابقة، ربما نجد بعض مصادرها في كتب حكائية قديمة مثل حكاية سيف بن ذي يزن، أو فيروز شاه أو عاشق المرحومة، إلخ. لكن الكاتب أدخل إليها كلمات وأفكارا ومحسنات بلاغية هي من المتداول المحلي في زماننا الأخير هذا. كما أنه، هو الشيخ العالم الذي سيتيح له علمه، إضافة إلى مهارات أخرى امتلكها، إلى أن يبلغ أعلى المناصب، التي كادت توصله إلى تبوّء المركز الديني الأول في الجمهورية. فاطلاعه على ما يجري في الحياة حوله، مكّنه من محاججة الرجل العلماني (مأمون) متمكنا من النجاة من فيض الأسئلة والمداخلات المحرجة من محاوره، وهو لذلك تحوّل إلى محاور للحديثين من مساجلين أجانب وطلاب جامعات، عارف كيف يتخلّص من كل ما هو محرج.
ولم يقدّم في سبيل ذلك أي تنازل في ما خصّ العقيدة. في المقابلة الأخيرة التي تختتم بها الرواية، نقرأه مصرّحا علانية وجهارا عما كان على مَن هم في مكانه أن يستشيطوا غضبا ويخرجوا عن طورهم. أما هو فعرف كيف يتحايل على الأسئلة المحرجة كلها. أول ما أتاه من محاوره هو عن الجدل الذي يتجدد بين الحين والحين حول رواية نجيب محفوظ «أولاد حارتنا» التي طُعن بالسكين بسببها من أحد المتديّنين. أما جواب فضيلته فاقتصر على قوله إنه لا يلوّث عينيه بما يسمّونه فنّ الرواية، هكذا هاربا من الإجابة عن محاولة الاغتيال بالكلام على عدم استساغته لفنّ الرواية. كما سأله محاوره عن رأيه الصادم في السياحة، فأجابه أن السياحة حرام «لأنها تبيح اللهو والخمور». ثم سئل عن عدم حماسته لهبوط الإنسان على سطح القمر فأجاب «أن ذلك في أحسن الأحوال، علم لا ينفع وجهل لا يضرّ». وما سئل عنه أيضا هو رفضه لإجراء العمليات الجراحية للمصابين والمرضى، فعلل ذلك بأنه سيظلّ يطالب بإغلاق مراكز الغسيل الكلوي لأنها تؤجّل لقاء العبد بربّه.
سيرة الشيخ تبدأ ما قبل سنوات الخمسينيات، آنذاك كان فتى فقيرا وقد عانى بسبب ذلك من فتى من أبناء جيله، كان أكثر حظا منه في إغواء البنات، لكن الحظّ عاد ليواتيه من جانب، أو من جوانب أخرى. أفاده توسط النافذين في الدخول مع غريمه إلى التعليم الديني، ثم أفاده ما عرض عليه، بعد وساطات، من أن يذاع صوته ويعلن رأيه في برنامج إذاعي. وهو تمكن من أن يبقي نجمه صاعدا في زمن الضباط الأحرار الذين لم يكن يميل إليهم وإلى قائدهم جمال عبد الناصر، الذي قرّب الروس ناشري الإلحاد في العالم. لكن الحظ عاد وحالفه بوصول أنور السادات إلى كرسي الرئاسة. فصار آمرا ناهيا في السلك الديني له اليد الطولى في إدارته وفتاواه. كما أنه، بإجراء تفاصيل من حياته على لسانه، كان لا بد له لكي يستخرج من هذه الحياة شيئا يُقرأ، أن يكشف عن سيئاته وفضائحه وسرائره حيال النساء، وتعلّقه بالجاه وأخذ الأمور، بما فيها معتقده الديني، بالنفاق والخسة. وقد أمعن في هجاء نفسه في كل ما مرّ به، على الرغم من دوره المشهود في كسر الإلحاد، في ظلّ حكم الرئيس المؤمن. ففي الإسكندرية بات هناك أكثر من مطعم علق لافتة «لا نقدم بيرة أو خمور ولله الحمد». وفي الجيزة باتت تقرأ لافتات كتب عليها «لا نبيع سجائر بفضل االله». وها هي الجرائد تحيي «ذكرى النار المباركة التي التهمت دار الأوبرا».
الشيخ الوحش، وهذه الكلمة الأخيرة هي كنيته، يهجو نفسه هجاء لاذعا في ما هو يروي سيرته التي امتدت لتشمل مراحل مصر الحديثة كلها. كل ما هو عام ّفي تلك المراحل حاضر هنا، من المغنين والمغنيات وموديلات الثياب وأنواع السيارات الفخمة وأسماء المشروبات الكحولية إلخ. وهذه كلها من المقتنيات التي يذمّها في العلن ويُقبل عليها في السرّ. لكن شيخنا لا يخترع الكثير في هجائه لنفسه فأكثر ما يكشفه ويفضحه مجلوب مما يدور على ألسنة الناس. وهذا على كثرة تداوله لم يترك مجالا لكاتب يزيد عليه.

« عرش على الماء» كتاب محمد بركة صدر عن أقلام عربية للنشر والتوزيع في 310 صفحات- سنة 2024

كاتب لبناني