«ذئب العائلة» لصهيب أيّوب: الرواية الصغيرة اتسعت لكل ذاك العالم الغريب

حجم الخط
0

لا يزيد عدد صفحات رواية «ذئب العائلة» عن 150 صفحة. هي «نوفيلا» حسب التصنيف المثبت على غلافها، رغم ذلك نحن معها كما لو أننا إزاء رواية كبيرة. بشر كثيرون حاضرون فيها، بما يوسعها عرْضيا، كما أنها ممتدة طوليا تحكي حياة أجيال أربعة أو أكثر. شيء مثل تاريخ وجغرافيا مشتبكين معا.
البؤرة الأساس التي تُنبتُ ذلك العالم الشاسع هي بناية العلبي، بطبقاتها الست يقيم فيها جميع هؤلاء الذين نقلت الرواية عيشهم. وهي طبقات متفرّعة إلى شقق أو غرف لا نعرف عددها، رغم أن صهيب أيوب، الكاتب، أراد أن لا يغفل عن ذكر أحد من المقيمين فيها. كما هناك الدرج الذي تجري عليه لقاءات وتلصّصات تستدعي ترقّبا ونميمة واستدعاء خيالات، وكذلك القبو الذي يعيش فيه سعيد، آخر سلالة آل السبع، الأكثر حضورا في الرواية. إنه عالم ضاجّ وصاخب، متنابذ ومتفاعل، منغلق على نفسه ومنفتح على المدينة (طرابلس) في الوقت نفسه. «كنت أذهب إلى البحر كي أهرب من رائحة الموت المقيمة في بنايتنا، ومن قسوة الحجارة، ومن رائحة مجاري الصرف الصحي المتدفّقة في أحيائنا الفقيرة» يقول حسن السبع الذي من المفترض أنه بطل الرواية، أو شخصيتها الأبرز. ذاك أن الرواية، المتوزعة فصولها على الساكنين تاركة أكثرهم يروي حكايته، تبدأ بحسن السبع وتنتهي به، هكذا لكي يكون هو بدايتها وختامها.
هو يصف المدينة والبناية، ويعرّف ببشرهما وبوجوده بينهم، بالأسماء أولا وبالأوصاف الظاهرة. وهنا، مرّة أخرى، تأخذ النوفيلا على عاتقها، ذكر الجميع بأسمائهم وصفاتهم. أسم لكل شخص ولكل مكان أيضا. مدينة طرابلس، خصوصا مناطق الفقر فيها، حاضرة بكل أسمائها. يشمل ذلك أيضا الدكاكين وأصحابها. كما يشمل أيضا التبدلات التي طرأت على الأسماء، ما كانت عليه سابقا وما صارت إليه الآن، مثل الساحة التي كانت تحمل اسم عبد الحميد كرامي وتحولت الآن إلى إسم آخر.

شمسة هي الشخصية الأخرى في الرواية، بل إنها بطلة الجزء المتعاقبة أحداثه روائيا. ليست شخصية عابرة، شأن أخريات وآخرين مرّوا في الرواية مرورا ثانويا، لكنهم حظوا بنهايات تعطى عادة للأبطال. من هؤلاء وداد النابلسي ومرادي وسميح الدندشي، ودولتشي فيتا (وهو اسم لامرأة متحولة تعمل في البغاء وتقع في غرام غسان، ابن شمسة وقد أصبح شابّاً، أي قبل أن تُقتل هي، دولتشي فيتا، وينتهي ذكرها في الرواية). وأيضا حمد الخضر الذي كان يمكن للرواية أن تغلق صفحته من لحظة ما فرّت زوجته تاركة إياه. إلا أنه يعود إلى الرواية من جديد، مفتتحا فصلا يحمل اسمه، يروي فيه عن أصله البدوي وقتله لأبيه طعنا أو ذبحا. هكذا تحضر هاتان الشخصيتان، اختفاء وحضورا، كجزيرتين حكائيتين في السياق السردي للرواية.
شمسة، الشخصية الثانية، تقتل مقطّعة هي أيضا وذلك بعد اختفائها. كانت قبل ذلك قد عاشت مع ولديها في الخانكة مع ساكنات أخريات توزّعن الغرف. ذلك الفصل المتعلق بها هو أوضح فصول العمل تسلسلا. فيه رأينا تتابعَ المجريات على غرار ما نقرأ في الروايات الأخرى. لكن هنا، في هذه الرواية، لا دوام للسرد العادي، كما لو أن الرواية جارية على طريقة الروايات العادية. ففي الحارات التي «تغرق بالعتمة في الليل ولا تُسمع فيها في النهارات سوى خطب المشايخ حول عذابات القبر وجزاءات الآخرة» تكثر فيها المتحولات والبغايا الفاضلات، كما يكثر فيها القتل إلى حدّ أن كثيرا ممن حضروا في الرواية، أو حضرن، قضوا إما قتلا وإما انتحارا.
هي رواية عن بناية، بل عن مدينة ضمّت مقيمين قديمين ومقيمين وافدين من أماكن قريبة ومتباعدة. ومثلما هي جامعة لهذا القدر من البشر والأمكنة، ولهذه التواريخ أيضا، بدا ما تقوله مرثية شاملة للحياة، بدأت من فصل الكتاب الأول الذي وصفت فيه غارقة في فقرها ووسخها وروائحها الفاسدة والمختَرقَة أحيانا بعطور يحرص بعض المقيمين على التعطّر بها، فيما ينفر من شمّها الآخرون. أن نتخيل انسجاما ما على نحو ما يتيح تتابع حياة شخص أو حياة عائلة، في الأعمال الروائية عادة، هو في غاية الصعوبة هنا. لا يتعلّق ذلك في ما يحدث، بل في الحرص على تأويل ما يحدث وتفكيره في عمقه ومعاناة الألم الذي يتأتى منه. ثم إن كل شيء، كل تكوين لشخص، أو كل شيء يجري لا بد أن يكون مفارِقا للصورة العادية التي تمثّله. الشاب حسن السبع الذي يهوى البحر ويظلّ ملتصقا بالصيادين لا يجيد السباحة مثلا. وفي الأحياء التي تعلو فيها أصوات الأذان تقوم بيوت للبغايا والمتحولات. والشخصيات التي لم يظهر من عيشها ما قد يدعو إلى الخروج عن السوية تنتهي مقتولة أو منتحرة.
بهذا يدعونا صهيب أيوب إلى أن نفهم أن الحياة ليست كما عرفناها.

رواية صهيب أيوب «ذئب العائلة» صدرت عن منشورات نوفل في 150 صفحة سنة 2024.

كاتب لبناني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية