عن الشعر في يومه… وغده بالضرورة

حاتم الصكَر
حجم الخط
0

1

حضر الشعر قبل أيام، محتفىً به هذه المرة لا محتَفياً بسواه، موضوعات كانت أو أشكالاً أو ممدوحين أو حبيبات. تحدث عن نفسه بأريحية خالصة ونسيان لأزماته وكمائنه ومصدات تداوليته، وبتجاهل لانحصار قراءته في نخبة ارتضته رئة تتنفس به هواء الفن، بنقاء بديل عن عسف وجور وعوز وخسارات تحتشد في يوميات المتلقي وذاكرته.
وفي فوضى اكتظاظ الخطابات المتعارضة وتمدد الأنواع الأدبية والفنية عشوائياً، وتيسير كتابتها عبر الوسائط بأسهل السبل وبأدنى مستويات التحصيل والتعبير، انهمك الشعراء في تذكر ماضيه وتراثه، حين كان، أو كاد أن يكون لغة الناس اليومية، وسجلَّ حياتهم بتفاصيلها، وانتصاراتهم وانكساراتهم أيضاً.
لكن صوت الشاعر يومذاك لم يكن صوتَ ذاته إلا إذا مرَق أو تصعلك. فالجماعة هي الصوت الأعلى. والشعر لا يصلح للجوقة حيث يغدو نشيداً يؤدّى شفهياً، فتطغى المهارات الصوتية ورنين الألفاظ وتفاصح الأليغوارات التي تداعب الأسماع. وذلك لا يتعلق بالتزام الشعراء لاحقاً بقضايا كبرى كالعدل والحرية مثلا. ففي حال كهذه يصبح الشاعر واحداً وسط فكرة يعتنقها غيره، لكنه بين الجماعة الأولى كالقبيلة أو المدينة يغدو صوت تلك الجماعة لا صوت ذاته.
ومن هنا اجترح القدامى شروط الشعر وقواعده. فهم الذين يُنصِّبون الشعراء ويؤمِّرونهم أمراء، يضعونهم محامين عن الجماعة وناطقين مكرَّسين باسمها، وللجماعة الحق من بعد، وعبر ممثليها في مقام الشعر أن يحددوا ما يجب أن يقال، وبأي معيار وطريقة.
وفي الحفلة الشعرية الموسعة لا يفوت على المحتفين التذكير بحاضره المختلف عليه حتماً. فالتقليديون المنهمكون في صون التقاليد الفنية الموروثة يبكون الشعر بعد أن انتشرت رايات الحداثة وشعاراتها المارقة في نظرهم.
ويأسف الحداثيون لما يرون من ردة ذوقية وجمالية صوب القديم، واسترجاع الأشكال التي رثّت بالتكرار، فلا جديد تحتويه في جمودها وتخثر دمها.
لكنها دورة حياة غريبة تلك التي يعيشها الشعر. تندّ القصيدة عن أبوته وتشب، ويظل هو متمترساً حول قوانينه وقواعده، كما استأمنَ قراءه عليها فصانوها، وراحوا يصدون نزق القصيدة وتمردها وجنونها وخروجها عن طاعته. فكانت المقايسة عليه بوصفه كياناً مكتمل البنية نهائيَّ الوجود، لا يأتيه التغير من قصيدة أو طموح شاعر أو هواجسه. ولكن العصف يأتي من الكتابة، حريتها وعائديتها على شاعرها تمنحان أفق التغيير إمكانية الحدوث في أي وقت.
لقد ظل المتلقون يقرأون القصيدةَ بمقياس الشعر الذي تلقنوه، وارتضوا أن يكونوا جمهروه، صلتهم به وجودية. يستحضرون النص القديم ثم يكرّون على الجديد والمعاصر بتلك الثوابت الجمالية التي وقرتْ في الذائقة فشكَّلت المزاج، بل غدت جزءاً من الهوية. وهذا أكثر إشكالات تلقي الشعر خطراً.
فالمساس بنمطية الأشكال وتدني المواضيع وتهافت مضامينها، يصبح في نظر الحماة التقليديين خيانة للهوية، وإنكاراً للأمة ولغتها وأدبها.
إن توسيع الشعر مفهوما ونصوصاً لا يُرضي المتمسكين به كوصية ميت عزيز، لابد من إرضائه بالحفاظ على صورته التي وصلت إليهم ووضعوها في إطار لا يتغير. ذلك التوسيع أدخل في الشعر ما ليس منه بالمعنى المستقر. حتى بعض المتمسكين الذين يذبون عنه فضول الشعراء ونزق قصائدهم يرون الشعر في مرمى بعيد عن صيغته الرسمية. هاهي نازك الملائكة تقول إن الصمت شعر نائم. وتلتقي مصادفة بمالكولم دو شازال الذي قال في إحدى شذراته الشعرية: إن الصمت يتكلم بعينيه، مسنداً له لغة إشارية لا تنتظم في كلمات.
وإذ تؤخذ من الشعر ميزة التفرد في هيئة مخصوصة، يهبُّ المنافحون عن تقاليده ليجعلوه مميَّزاً بهوية يقترحون صورته فيها، وفي الغالب ينحصر في شكل وموضوع، أو لفظ ومعنى، لا يخرج عن إسارهما، وتغدو أية استضافة لنوع قريب أو اقتراض من سواه تهجيناً نوعياً وخروجاً على الطبيعة.

2

يوم الشعر ليس موسماً للاحتفاء البهيج دوماً، بل هو مدعاة للألم، حين يتكسر كلام الشعر كالزجاج تتطاير شظاياه بين يدي الشاعر، يملأ فمه ماء الشعر فيغص ويختنق، يبحث عن هواء طلق فلا يجده إلا في أبيات قصيدة تضيق بإيقاعها حول عنقه.
ولا ننسى في يوم الشعر ضحاياه: منذ أول شاعر عوقب لما كتب، وقطع لسانه في تاريخنا الشعري، أو ناله التهميش والنبذ، أو تحلل جسده في سجن أو منفى، أو ضاع مغيّباً في جبٍّ أو صندوق أو تهلكة.
ولكن كيف تتبدل أدوار الشعر فيغدو قرين الألم؟
يقول أدونيس: الشعر يؤلم، لأنه في الأصل الوسيلة الجمالية الأكثر حدًّة لإحصاء الخسائر. ويربطه عبدالفتاح كيليطو بالمنفى موضوعاً، فيرى أن الشعر ذاته أرض أجنبية، ويسوق مثالاً عن لعنة الشعر وتَصوُّر أذاه، من التراث أيضاً، فيقول:
«زعموا أن من يستظهر قصيدة ابن زيدون (أضحى التنائي بديلا عن تدانينا) يموت في أرض أجنبية بعيداً عن أحبائه كما حصل لشاعر النونية.. ولو صح ذلك لمات المشتغلون بالأدب في المنفى كلهم.. والشعر سيغدو مؤذياً، لأن المنفى أحد مواضيعه المفضلة. أليست القصيدة أرضاً أجنبية؟!».
ولقد وددنا في مناسبة احتفاء سابقة بيوم الشعر لو جعلناه لحظةَ تأملٍ لظواهر تحف بوجود الشعر ذاته. كاستحواذ السرد على لائحة اهتمام الكتّاب والقراء وكتب النقد الأدبي والدراسات الأكاديمية أيضاً، وظاهرة تَسابق الشعراء بكثرة لافتة لكتابة الرواية، أو استحداث الجوائز والمباريات للسرد خاصة. وتمنينا لو كان يوم الشعر فرصةً للبحث في مغزى أفول بريق الشاعر المميز والقصيدة المغيِّرة، ولو خف تباهي الشعر بماضي رواده وفتوحاتهم الفنية والجمالية فحسب، وغدا مناسبة لتأمل ضمور دور المراكز الكبرى في الشعرية العربية، وتمددها خارج المتون المكرسة، وتعدد مناطقها وأمزجتها وأشكالها.
يصف نوفاليس الشعر بأنه استعارة كبرى، أي أن له ما في الاستعارة من تخييل يضيف للأشياء والأسماء والصفات والموضوعات ما ليس فيها، لكنه ممكن من حيث سياقها في النظم. وهو بهذا المعنى لا تأسره الحقائق. فالخيال هو أس تلك الحقائق، وهو مكمن زعزعة يقينها بتوليد خيالات بديلة لها. وهذا هو جوهر اللانهائي والمفتوح وغير المتوقع في الشعر.
وليس غريباً أن يكون الخلاف حول التجديد في الشعر، يتم من خلال التقبل للصور الاستعارية فيه، وما تجلبه من غموض لازم في صياغته.
فقد توقف العباسيون طويلاً لمحاكمة صور أبي تمام التي خرج فيها عن أقيسة البلاغة أو الصفات المحددة للموصوف كما أرادها معاصروه، كوصفه الشيء المادي بالمعنوي، أو المتعين بما هو من غير صنفه. فأسند الخضرة للأخلاق في قوله للمدوح: أخلاقك الخضر الرّبى، وقوله (لا تسقني ماء الملام) كما جعل للبكاء ماءً في البيت نفسه.
ولم تختلف اعتراضات منتقدي شعر الحداثة كثيراً عن تلك المساءلات المجحفة جمالياً، فاتسم النقد التقليدي بالهزء والسخرية من أشعار ورد فيها الابتكار الاستعاري أو ما ألقى غموضاً على العبارة، فجعلها مُحوجة للشرح والبيان، مع أن الشعر العربي القديم تعرض للشرح والتفسير، وجلّ دواوين الشعراء صاحَبتها الشروح، وتعدد بعضها، وبرزت الخلافات حول كثير من أنساقها ومبانيها.
وأحسب أن يوم الشعر كان أفضل مناسبة لجلاء القصور والجهل في فهم الشعر وتأويله. وذاك يعيدنا إلى الدعوة لتأهيل القارئ، وإعداد المتلقين لقراءة الشعر.
ولا أعني بالمتلقين هنا الجمهور بمعناه الواسع، بل المهتمين منهم والمتابعين لما في الشعر من تحولات فنية وجمالية.
إن من أبرز إشكالات الشعر اليوم كونه يتوارى لمبررات غريبة بعضها اجتماعية أو سياسية، لكنها تتطرف أحياناً لترفض الشعر بكونه حاجة إنسانية، ويكون رفضه مستندا إلى القول بأنه فقدَ مبررات قراءته بفقده لجمالياته المعهودة، أو أن تلك الجماليات، كما تذهب بعض أدبيات النقد الثقافي بنسخته العربية، لم تعد مجدية وجديرة بالقراءة كمركز بؤري أو خليّة مولِّدة للفهم والتفسير، بحجة استبدال السؤال الثقافي بما في الشعر من جماليات، والكشف عن أنساق اجتماعية فاعلة في صياغته.
وبذا تهمش الشعر وأضحى وثيقة اجتماعية، وميداناً لبيان العلل الاجتماعية المتخيلة، استخلاصاً قهرياً من متون تحكمها الاستعارات والمجازات.
إن يوم الشعر ليس بعيداً عن غده، وارتباطه به ليس أقل شأناً من ارتباطه بأمسه. فهل أنصفناه وتباحثنا في شأن من شؤون غده القريب؟
سؤال يتجدد كلما عاش الشعر يومه الذي – لشدة بؤسه وفقره – رأى فيه بعض المهتمين نعياً للشعر، وكأنه ذكرى من أمس ليس ليومه من غد قريب.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية