كأن الملحمة تعيش حيوات في الشعر إيحاءً ورمزاً: موت السيد جلجامش

حاتم الصكَر
حجم الخط
0

1
تعرضت ملحمة جلجامش، كسائر الملاحم الكبرى في التاريخ، لكثير من النقص والتغيير والإضافة، فضلاً عن الغموض الذي يكتنف متنَها بسبب الكسور التي تعاني منها الألواح المدوِّنة للملحمة التي عُثر عليها بنسخها المختلفة جراء تقادم الزمن، ولفقْد كثير من سياقاتها لاسيما، وهي شأن الملاحم القديمة، لا تخضع لانضباط سردي في هوية الرواة، وتعاني حدَثيّاً من اختلاط الواقعي بالخيالي والأسطوري.
لكنّ دارسي ملحمة جلجامش عراقيين وغربيين، ومنهم مَن ساهم في اكتشاف ألواحها وترجمتها إلى اللغات الحيّة عن نسخها الأكادية والسومرية، يؤكدون تفرُّد ملحمة جلجامش عن سواها من الملاحم بمعالجة الموت والخلود كثنائية وجودية، وانشغالها بتوسيع تلك الدلالة وتكرارها بصور مختلفة تهيمن على الأحداث والوصف والحوار والمصائر.. وهي قضايا كبرى تمتلك مقومات الديمومة والتواصل عبوراً للأزمنة، وحضوراً مؤثراً في القراءات المتعاقبة.
فكأن الملحمة تعيش عدة حيوات في الشعر إيحاءً ورمزاً حفلت به قصائد الرواد والمجددين، وفي الذاكرة الشعبية مثالاً لمقاومة الغياب والقِدم، وفي الدراسات التراثية والثقافية نموذجاً للكتابة الإنسانية المبكرة، ومعرضاً للفكر الرافديني والعقائد والأنساق التي تحكمت في أدبياته. وليس غريباً أن يكون الموت كحادث قدري محتوم، والبحث عن الخلود الذي يقهره كأمل بشري هما مركز الملحمة، لِما يتصف به الفكر الرافديني من تأمل للحياة وما بعدها، والحزن الملازم للشخصية الرافدينية بسبب ذلك، وبتداعيات النكبات الطبيعية الكبرى خاصة، والتي تعرضت لها بلاد ما بين النهرين، بموازة الحروب المستمرة… ذلك الحزن الذي تتوارثه الأجيال على هذه الأرض، كما تتجدد آثاره في شخصية الإنسان في بلاد ما بين النهرين حتى اليوم.
فقد جاء سرد الملحمة الشعري لا كأحداث غرائبية أو بطولات حماسية، كما هو شأن المبنى المعتاد في جنس السرد الملحمي الذي يخضع فيه تراتب الأحداث والوقائع للبطولات والخوارق والصراع من أجل غرض عارض. وقد منح تصنيفُ الملحمة كعمل أدبي خصوصيةً أخرى من جهتين: فتمّت قراءة متون الألواح احتكاماً إلى قيمتها الشعرية ومجازاتها وصورها من جهة، ومن جهة ثانية إلى دلالاتها الفلسفية والفكرية وموضوعها المميز والأبدي القائم على لائحة الفكر الإنساني حتى اليوم.
وكأن الملحمة ترسم أو تقترح بالأحرى، خطط القراءة لمن يتلقاها مختصاً أو قارئاً. فهي تنطوي على توافقات لافتة؛ مثل بنائها على اثني عشر لوحاً أو فصلاً مستقلاً يقود كل منها إلى ما يليه. والعدد يوحي زمنياً إلى السنة بتعاقب شهورها. كما تقدم لدارسي الوشائج بين الشعري والسردي نموذجاً لتلازم الخطابين وجريانهما معاً في الملحمة. فيجدون فيها قصّأً وأحداثاً ووصفاً وعناصر سرد كثيرة جديرة بالتحليل، كاللجوء إلى الحلم وتقنيات التأجيل أو الاستباق، وموازنة الفكري والشعري الجديرة بالتأمل، مع حرصها على تضمين الواقع التعبدي كالمعتقدات الرافدينية حول الموت وما بعده من حياة في العالم السفلي، وكالآلهة وأسمائهم ووظائفهم وطباعهم، وكذلك الحكام والكهنة، ومشاهد مكانية تدل على سياقات زمنها كالمعبد والحانة، وأحداث كبرى كالطوفان. وفي اختيار شخصيتي جلجامش وأنكيدو وما تعرضت له معرفتهما من مراحل، كالعداء والصداقة والمحبة والعمل معاً، والحزن للمصير الذي سيلقيانه بعد رحلة الحياة.
وربما منحها مجهولية مؤلفها وتعدد رواتها في نسخها المتاحة بلغات المنطقة، أن تمتلك هذا التمدد والإضافات الممكنة مع كل اكتشاف أثري جديد.

2
وكشأن الملاحم التي تتعرض للإضافة وكذلك للشك في فصولها الأصلية، كانت الملحمة موضع دراسة لدى المهتمين بتلك الألواح التي كُتبت عليها تلك الفصول بالمسمارية.
وستظهر نصوص تتصل بحياة جلجامش بعد النقطة التي توقف فيها السرد الملحمي عن متابعته. ومن أبرزها نص «موت جلجامش» الذي نشره وحققه الدكتور نائل حنون كملحق بالألواح الإثني عشر عام 2006، وأعاده في الطبعة الثانية من ترجمته للملحمة عام2017، مضيفاً ما لم تستطع ترجمة صموئيل كريمر الأولى والمنشورة عام 1969، أن تنقله بسبب ضعف النسخة المكتشَفة حينها. وأتاح بذلك اطلاعنا على نص أدبي آخر يتصل بالملحمة حدَثاً ودلالة، مقترناً بدراسة وتحليل ومقارنة لغوية، وتوقعات تسد النقص الحاصل بسب تضرر الألواح التي دُونت عليها الملحمة، والفجوات التي اخترمت النص بسبب ذلك، ما جعل التوقعات السياقية واللغوية ضرورية في عرض النص، وتمنح القراءَة الأدبية كقراءتنا هذه، حريةَ التأويل والتحليل النصي الممكن، احتكاماً إلى متنها المعروض للقراءة.
وقيمة نص «موت جلجامش» كما يؤكد الدكتور نائل حنون، هي في كونه تكملة للحوادث التي سُردت في الملحمة، وكان (موت جلجامش هو الحدث المحتوم فيها). كان اكتشاف نسخة جيدة من النص خلال تنقيب الدكتور نائل حنون أواخر السبعينيات من القرن الماضي في مدينة بابلية قديمة تدعى (ميتورناه)، فرصة لقراءة نص أدبي رافديني يرقى لقيمة الملحمة ويتسق مع سياقاتها وعرض أحداثها وخطابها الشعري، ويكمن حضوره القوي في القراءة المعاصرة في الثيمة الفكرية التي ترتكز عليها أحداث النص وأشعاره. وهي ذاتها ما انهمكت الملحمة في تجسيده في ألواحها المعروفة.
فرغم أنه يعود للنصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد، يتناول المصير الحتمي للبشر، وجدلية الموت والخلود، أو الفناء والبقاء، وتأمل دلالات الموت والفقد، والتفكير بالنهاية، والبحث عما يبقي الإنسان خالداً بعد غيابه الجسدي. وأول ما تقرره كلمات النص يتلخص في قوة جلجامش وشجاعته، مقترنة بغيابه الذي احتل الص بها مجازياً، ورقّق منها في تسميتها (الرقاد):
الثور الوحشي العظيم رقد، ولن يقوم ثانية.
وهذا تاكيد على تمثيل الفكر الرافديني لموت بالرقاد حيث جاء في الملحمة اختبار أتونبشتم لجلجامش حين طلب الخلود ورفض الموت، أن يقاوم الرقاد. وقد أخذ النص اسمه أيضاً بالطريقة ذاتها في الملاحم غير المعنونة، فيأخذ اسمه من السطر الشعري الأول فيها. وعُرف أيضاً بين الدارسين بنص «موت جلجامش» أو السيد جلجامش كما تصفه فقرات النص، بدءاً من الفقرة الثانية: (السيد جلجامش رقد، ولن يقوم ثانية).
وهنا تبدو تجسّدات أو تشكُّلات الثيمة الرئيسية والمركزية في النص كما في الملحمة، والملخصة في أن القوي والجبار، ومَن له من الأفعال ما يرفعه لمقام الآلهة والأبطال، لا بد أن يسري عليه قانون نهاية الحياة الأزلي، أي الفناء. وتكرر الأبيات العشرة الأولى من النص صفات القوة لجلجامش مقرونة بالرقاد، وعدم القيام ثانية. ويسرد النص حُكم الآلهة عليه كسائر البشر، فقد اتفق الآلهة في مجمعهم، وأقسموا على أن (لا ينال البشرُ الخلود). لكنها تهبه امتيازاً على سواه من البشر الفانين، بأن تضع له مقاماً خاصاً في العالم السفلي حيث يرقد الموتى: (سيكون حاكماً للعالم السفلي، وزعيماً على الأرواح).
إن النص ينسب صفة الملوكية لجلجامش، لكنه يُتبِعها مباشرةً بسلب الخلود منه:
(الجبل العظيم أنليل أبو الآلهة
تحدثَ في الرؤيا مع السيد جلجامش،
يا جلجامش، لقد جعلتُ قدرَك قدر الملوكية، ولكنني لم أجعله قدْر الحياة الخالدة).
وبما يشبه التشفي بمصير الإنسان عقاباً له، تصوّر الآلهةُ بشاعة المصير بالقول:
(وها أن اليوم الأشد ظلاماً على البشر الفانين قد أدركك
منفى البشر الفانين قد أدركك
موجة الفيضان اتي لا تقاوَم قد أدركتك
الواقعة التي لا مناص منها قد أدركتك
النزال الذي لا يُبارى فيه قد أدركك).
ويمكن هنا ملاحظة الإفادة من التكرار للتأكيد وتشديد أو مضاعفة دلالة الملفوظ، وهو من سمات النظم الشفوي في العادة، ومن أبز الملامح الأسلوبية في أشعار الملحمة. وهذا النص القريب من أجوائها موضوعاً وخطاباً.
يسرد النص على لسان الآلهة ما حلَّ بجلجامش. فقد قطف روحَه نمتار المكلف بقبض أرواح البشر، كما تعرّف به هوامش الترجمة. وقد استوقفني وصف النص لنمتار بأنه (الذي لا أيدي له ولا أقدام، الذي لا يعرف كيف يستثني بشراً). وكأن صورة هذا القاطف للأرواح والقابض على مصير الحيوات البشرية كائن يسري في الهواء، هي الصورة التي ستبدعها مخيلة رافديني آخر بعد قرون، وفي العصر العباسي الثاني هو أبو الطيب المتنبي، حين قال:
وما الموتُ إلا سارقٌ دقَّ شخصُهُ      يصولُ بلا كفٍّ ويسعى بلا رِجلِ
وفي اضطراب الرواة وتبادلهم مهمة السرد يجد جلجامش فرصةً يهبها له النص، كي يستذكر خلَّه وصاحبه أنكيدو، وأن تعِدَه الآلهةُ بأنه سيلقاه في (منفى البشر الفانين)، في العالم السفلي الذي سبقه إليه. وإذا كان ثمة آلهة للحلم في النص، فمن الممكن أن يفيد جلجامش من منحة أخرى صغيرة بأن يرى رؤيا تتوقع ما سيلقاه وما يتمناه، ويفسرها له الآلهة الذين شاركوه الرؤيا. كما يحتفي النص بحزن الناس على جلجامش أيضاً:
(على السيد الفتيّ، السيد جلجامش
صرَّ الناسُ أسنانهم
… وعلى السيد الفتيّ جلجامش
جزعت النفس، انكسر الفؤاد).
ولا تنهي الآلهة وجودها في النص إلا بالثناء على جلجامش، وتخفيف وقع مصيره وتلطيف ذكراه. فيكون ختام النص بعبارة (يا جلجامش، سيد كلّاب عذْب تمجيدُك). ويُذكر هنا (كلّاب) لكونه اسم أحد الحييْن اللذين تتكون منهما مدينة أوروك.
لعل هذا التمجيد هو التعلة الأخيرة، والتعويض المحتمل لفناء جلجامش جسداً، وخلوده ذِكراً ومأثرة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية