هاجس الحداثة في البيانات الشعرية العربية

حاتم الصكر
حجم الخط
0

يمكن تصنيف البيانات الشعرية التي أصدرها شعراء الحداثة العرب، بكونها جزءاً من خطاب موازٍ للكتابة الشعرية، تمهد لنقلة نوعية في الرؤية والأسلوب، وتؤشر لمستقبل تَعِد به البيانات ولا تلزم النصوص. وقد تعددت كيفيات صياغة البيانات وتوسع باحثون في تجنيسها لتشمل المقدمات التي تتصدر الدواوين والأعمال والمجموعات الشعرية.
شخصياً لا أميل إلى عدِّ مقدمات الكتب الشعرية بيانات، كونها ظرفية مرتبطة بإحالة مرجعية للنصوص التي تليها، ولا تحمل نيات البيان الانقلابية أو الجوهرية المرتبطة بالرؤية الشعرية الشاملة في المقام الأول.
لكن البيانات تحديداً تنطوي تحت نوع خاص من تلك الخطابات المقصودة لذاتها، لا لتبرير أو تقديم عمل ما. فتكتسب عموميتها وانصرافها إلى الجانب النظري والرؤيوي.
لقد غلبت على البيان الشعري العربي روح الفردية والذات الشاعرة المتكلمة في الخطاب، بجانب الأسلوبية الخاصة التي تميز خطاب البيانات. فهي تعتني بالصياغة كثيراً، وتحاول أن تخلق إيقاعاً يتوافق والنزعة الثورية التي تتغلب عليها.
وهذا يشير إلى وقائع كثيرة في الثقافة العربية والشعرية تحديداً. وسوف أمثل لذلك بحالتين هما: مدرسة الديوان في مصر، وجماعة شعر في لبنان ثم أتوقف للتطبيق عند البيان الشعري (69) الصادر في العراق أواخر الستينيات.
فسرعان ما انشق جماعة الديوان وصار عبد الرحمن شكري هدفاً للنقد السلبي والتهجم والسخرية. وهيمن عباس محمود العقاد خاصة وعبد القادر المازني بدرجة أقل على خطاب الديوان المنشور والمتصدي لشعر أحمد شوقي وخطابه الذي رأوا فيه تقليداً ونظماً لا يرقى إلى العصر الذي يُكتب فيه. وبالتالي لا يرونه جديراً بإمارة الشعر والمكانة التي لقيها شوقي من النقاد.
أما جماعة «شعر» فقد تكتلوا أولا لإحياء مركزية الشعر في الثقافة. وعمدوا إلى الدعوة لتطوير الشعر وتحرير الكتابة الشعرية لتعود لها الحياة أسوة بالشعر العالمي، وما كان للشعر من مكانة في تاريخ الكتابة والأدب العربي، لذا ضمت الجماعة في منتدياتها ولقاءاتها الخميسية، واستضافت في مجلتها ومنشوراتها أصواتاً مختلفة لم تتمحور بالضرورة حول لافتات الرفض والتجاوز والقطيعة مما سوف يميز أيضا خطاب «شعر» في فترتها الأخيرة. لقد استضافت مثلاً بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وخليل حاوي وفؤاد رفقة رغم أنهم وزنيون، ولا يرون الشعر أو حداثته تحديداً خارج الإيقاع الخليلي المطوّر، والمفتىت إلى أسطر شعرية كما اقترحته حركة (الشعر الحر).
أما البيان الشعري 69 في العراق فقد صدر بتوقيع أربعة شعراء، لكن كاتب البيان – كاملاً ـ هو الشاعر فاضل العزاوي.
وكان توقيع الشعراء الثلاثة الآخرين على البيان (سامي مهدي، فوزي كريم، خالد علي مصطفى) ينمّ ظاهرياً عن مشاركة في تبني مفاهيمه وتوصلاته، ولكن القراءة الدقيقة للبيان ومقارنة ذلك بمنجز الشعراء لا يؤيد تلك الفرضية.
لقد ظل العزاوي وحده متمسكاً بالبيان كوثيقة لا زمنية أو راهنة، بل هي كما يقول في مراجعة لاحقة «وثيقة شعرية لها أهميتها إلى اليوم». ولكن ما يفاجئ هو ثبات منظور العزاوي على الموقف الذي صدر عنه عند كتابة البيان.
وهو موقف يغلب عليه المشغّل السياسي كونه مكتوبا في ظل القمع والعنف والدكتاتورية التي أسسها حكم حزب البعث الذي عاد مجددا عام 1968.
كان العزاوي أحد ضحايا هذا الانقلاب، لذا واصل خط تمرده ومعارضته. وعلا صوته شعرياً في نشدانه للحربة وإدانة العنف والتسلط، وسواها من مفردات الخطاب السياسي.
وحين راجع العزاوي بيانه بعد ربع قرن بدأ بذات النبرة ليشن حرباً على الخراب الثقافي، قام بتقديم عرض لما أسماه (المواقف الأساسية التي طرحها البيان في العلاقة بين رؤيا الشعر ورؤيا الحياة)، جعل هدفه «إدانة تحويل الشعر إلى بيانات ارتزاق ودعاية سياسية (المديح والهجاء) وتأكيد المسؤولية الأخلاقية للشاعر، كمعبّر عن الحلم العام للبشرية، والتركيز على أهمية العلاقة بين الحلم والواقع في القصيدة العربية، والكشف عن تفاصيل الواقع الأسطوري وربط القصيدة بشرف الدفاع عن الحقيقة».
يؤكد العزاوي أن القصيدة «صوت الرفض والتحدي للبؤس الذي يغمر العالم. وهي أيضا صوت الشاعر الذي يحتج على كل ما هو بربري ومُعادٍ وخالق للعذاب. أما الشاعر الحقيقي فيرفض أن يحوّل نفسه إلى بوق أو يسير في ركب الملوك ليمجد حروبهم التافهة».
ولم يذكر إلا خصيصتين فنيتين هما:
– التأكيد على الشكل المفتوح للقصيدة وتحريرها من كل القيود وكشف علاقاتها مع الفنون الأخرى.
– والنظر إلى التراث (كملهم للروح، لا كقيد يشد أرجلنا إلى الماضي).
ونلاحظ خلط السياسي بالجمالي، مع تقديم الأول. وذلك ما كان قد وسم البيان الشعري نفسه. وسوف يكتب العزاوي في كتابه «الروح الحيّة – جيل الستينات في العراق» أن البيان «نبّه المبدعين العراقيين لأول مرة في العراق إلى إشكالية علاقة المثقف بالسلطة من خلال رفض إخضاع الثقافة والكتابة للسلطة أو لمطالب الدعائية للحزب أو الدولة، أو جعل الإبداع خادماً للحاكم».
لقد هيمن المشغّل السياسي على كتابة البيان، رغم الصبغة السريالية التي طغت على الرؤية الفنية والجمالية، واستمداد البيان لكثير من أفكار الحركة السريالية لاسيما في مقترح الاستمداد من مرجعيات ذكرها السرياليون كوصفة للكتابة بحرية، وإطلاق طاقة الخيال، وصناعة الحلم وطرق الوصول إليه، وتجربة الصوفي البدائي، والكتابة على مقربة من النعاس. كما يتحفظ على بعضها مثل الكتابة بتأثير المخدر. ولكن سرعان ما يعود البيان إلى مقارنة (الرؤيا الشعرية بالموقف السياسي) في فقرة بالعنوان ذاته.
وحتى في احتفاء أدونيس في مجلته «مواقف» بالبيان الشعري ومجلة الشعر 69 التي نشرته وكان العزاوي يعمل فيها، لم ينس التذكير بثوريتها في الجانب الذي يخص الاعتراض على «عبودية الاستسلام لسطح الأشياء التي سقط فيها الشعر العراقي خلال تلك الفترة، وتجمَّد في قالبية قد تكون أكثر سوءاً من القالبية السلفية، فقد سيطرت عليه نزعة وصفية، ترسم واقعاً لا يمثل من الواقع الإنساني الشامل المركّب إلا نزعة قشورية، تسير في اتجاه خيطي مكرور، ألغى الشعر لأنه أعطى الأولوية للمرئي على الرائي، ولمادة الإبداع على المبدع….». وكأن أدونيس يبعث بذلك رسالة لموقّعي البيان وقرائه بما يتخفى تحت سطور البيان من هفو للتحرر والتمرد على واقع الشعر، وصلته بموضوعاته وأساليب عرضها.
وقد أثرت المناكفات والردود والأصداء غير الفنية خاصة، والمتحزبة يميناً ويساراً، في الاستغناء عن مناقشة بنود البيان وروحه وجوهر دعوته، لصالح الحكم على ما يحيط به من أفكار كاتبه أو ليبراليته التي أزعجت حتى المثقفين والأدباء اليساريين، فهوجم البيان في مجلة «الثقافة الجديدة» التي يصدرها الحزب الشيوعي. وقد أعاد كاتب المقال الهجومي الشاعر عبد الكريم كاصد بعد عقود مناقشة البيان ودحضه، وبيَّن ما أسماه أخطاءه واستعارته مقولات من كتب لا يذكرها البيان. فكان كتاب كاصد «رهان الستينات – نقد البيان الشعري» المخصص لمناقشة أفكار البيان وصياغته وخلفياته المعرفية والجمالية، من وجهة نظر ضدية رافضة لأبرز نيات البيان وتوجهاته، ومستعيناً بوقائع وتحليلات ظرفية أيضاً لإثبات سلبية موقفه من البيان.
وتلك الموازنة ظلت معضلة تحدُّ من رؤيا الشاعر العربي للكتابة والشعر في العالم كوجود روحي وجمالي. فقد كانت تلك ميزة البيان الشعري الأولى، حتى في الردود عليه من رافضيه، أو كلمات مناصريه، تتمحور حول الجانب السياسي. وتوجه النقد لاختلاف مشارب الموقعين على البيان وانحدارهم من حاضنات سياسية قومية ويسارية، زالت الهدن المعلنة بينها وتصارعت دموياً وراح ضحيتها اثنان من شعراء البيان حيث فرّا خارج العراق، وهما فاضل العزاوي وفوزي كريم، بينما تجاهل الشاعران سامي مهدي وخالد علي مصطفى البيانَ تماماً، وإذ يذكرانه فإنما للقدح والتنصل عن أفكاره.
ويمكن استخلاص بعض السمات التي ظلت واضحة في الرؤية الشعرية لعقود لاحقة للبيان وما حوله، وهذا ما نراه في الموقف من التراث الذي ظل بهذا التوازن حتى اليوم، خاصة بعد أن عدّل أدونيس مقولاته في النظر للحداثة، وأنها فنية لا تاريخية، ما رتَّب العلاقة بين المثقف وتراثه، مع تأكيده على خصوصية تلك العلاقة، أي أنها أشبه بعقد بين الشاعر والمتن التراثي يخصه وحده، فيغدو تراثه لا تراث سواه.
لقد جسَّد البيان الروح الثورية المتمردة والرافضة التي انغمست في هياج لغوي وخلط غريب بين السياسي والجمالي، والظرفي والمطلق، والنظري والنصي، والراهن والتاريخي. وفي الخطاب تتسم روح البيان بالشطحات الشعرية التي تنقل التنظير فجأة إلى فضاء استعاري ومجازي تهوم فيه الأفكار، وتبدو بعض العبارات إنشاء تخييلياً أو إبعاداً للتعيّنات الممكنة والمطلوبة في جوهر البيان ودلالاته ومراميه، لا كما عودتنا البيانات الحاسمة في تاريخ الشعرية أو الحركات الفنية. وهذا يلخص ما أردت توصيله في هذه المقاربة الأولية للبيانات الشعرية.
فهي تتصادى مع لغة البيانات الثورية المنقلبة على الأنظمة في الحقبة القريبة لصدور جلّ البيانات – الستينيات والسبعينيات-، والتي تميزت بأرقام بياناتها الأولى وما تنادي به من شعارات وإدانة لسلطات سابقيها. وهي تستعرض غالباً خلاصات النظريات الشعرية والفنية محاكية مزاجها التحولي والمتغير والمتجاوز، ولكن بارتهانٍ عمومي بخطابها، ونزعة للتماثل مع موجهاتها.
ولهذا ظلت روح البيان ذكرى لهَبَّة لم تكتمل أو تتوسع دائرتها لتنعكس فرضياتها ومقترحاتها في النصوص.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية