عبد الصمد الكنفاوي.. هل بوسع التابع أن يتكلم؟

يستدعي الحديث عن بدايات الأشكال التعبيرية الأدبية الغربية المنشأ، في السياق الثقافي العربي، وخاصة الرواية والقصة والمسرح، إثارة مسألة الريادة والتأسيس. ويترتب على ذلك بالضرورة الحضور الدال لفرضيات رئيسة، من قبيل المثاقفة والتناسج والتمازج والتناسخ. ولأن هذه الإشكالية ترتبط بحقول معرفية من قبيل المتخيل وتاريخ الذهنيات، فإن الاقتراب النقدي يصبح أكثر تعقيدا وإشكالية.
ترتبط بدايات المسرح، بوصفه شكلا تعبيريا في المغرب، عضويا بالحضور الكولونيالي. وعلى الرغم من اشتمال الثقافة المغربية على نماذج فرجوية شفهية عتيقة، من قبيل «البساط» و«الحلقة» و«سلطان الطلبة» و«عبيدات الرمي» إلا أن المسرح بعناصره الرئيسة الغربية ظل موصولا بالحضورالكولونيالي الفرنسي والاسباني.
لعل إحدى المفارقات الساخرة المصاحبة لخطاب بدايات المسرح المغربي تتمثل في الاستدعاء المتكرر لاسم أندري فوازان. وبصرف النظر عن الإسهام الدال لهذا الفاعل المسرحي الفرنسي الكبير في إرساء دعامات مسرح مغربي، من خلال إشرافه على معهد الأبحاث المسرحية وفرقة المعمورة، إلا أن وطأة حضوره، بوصفه هذا «الآخر» أو «المركز» الأوربي، حجب إسهام غيره من المغاربة، واختزلها في مجرد «هامش» تابع لاحق له في الحضور والتأثير.
لعل عبد الصمد الكنفاوي أبرز تمثيل لهذا التابع، الذي لا يستطيع أن يتكلم، كما تقول الأكاديمية الهندية غاياتري سبيفاك. وما يسوغ هذا الافتراض معرفيا وتاريخيا مشاركته العضوية والفاعلة في هذه البداية المؤسسة للمسرح المغربي؛ وتحديدا منذ التحاقه عام 1953 بوزارة الشباب والرياضة، كي يشرف بمعيّة المسرحي الراحل الطاهر واعزيزعلى تكوين واستقطاب الرعيل الأول من الممثلين المغاربة، في مركز الفلين في المعمورة في العاصمة الرباط. ولم ينحصر نشاطه في ما سلف ذكره، وإنما تجاوزه إلى ما سوف ندعوه بمغامرة التأسيس لكتابة مسرحية مغربية. وسوف نفترض في هذا السياق أن ما سوف يبدعه الرجل من نصوص ذات قيمة إبداعية لافتة، قد تجاوزت في أهميتها وتأثيرها ما فعله أندري فوازان.
ولد عبد الصمد الكنفاوي عام 1928 في حي القصبة العريق في مدينة العرائش، الواقعة على المحيط الأطلسي، وصاحبة الثراء الثقافي والتاريخي اللافت، وتوفي في الدارالبيضاء عام 1976، بعد معاناة مريرة مع داء السرطان، ووري الثرى في ضريح المجاهدة المغربية منانة المصباحية في العرائش.
تلقى الكنفاوي تعليمه الثانوي في كوليج مولاي يوسف، العريق في الرباط، بينما تلقى تعليمه الجامعي في شعبة القانون. اشتغل في وزارة الشباب والرياضة قبل أن ينتقل إلى السلك الديبلوماسي، ملحقا ثقافيا في بوردو وموسكو. ولأن الشغف بالمسرح مثل بوصلة لسيرته القصيرة المتسمة بالخصوبة والكثافة والتمرد على السلطة، بمختلف تمثيلاتها المادية والرمزية، فإن الأسباب، التي كانت تصله بالوظيفة، ظلت مرهونة بحدود استجابتها لاقتضاءات التفكير في المسرح وأسئلته.
كان اختيار عبد الصمد الكنفاوي الاشتغال على جبهات متعددة مؤشرا دالا على خصوبة رؤيته إلى العالم. هل يتحتم علينا التذكير في هذا المقام بالالتزام السياسي للرجل، والذي تمثل في نضاله في إطار نقابة الاتحاد المغربي للشغل، في واحدة من أحلك فترات تاريخ المغرب الحديث. وغير خاف في هذا الخصوص التأثير البالغ لهذا الالتزام السياسي في رؤيته إلى وظيفة المسرح، وضرورة ارتباطها العضوي بالشرائح الاجتماعية الأكثر عرضة للهشاشة وعسف السلطة وعنفها. وقد أفصحت جل النصوص المسرحية، التي كتبها عبد الصمد الكنفاوي، عن جرعات قوية من فضح مواكب الزيف والنفاق والفساد المستشري في أوصال المجتمع. وكان ذلك سببا في منع عمله الموسوم بـ»السي التاقي» من العرض داخل المغرب. وقد أسهم الموقع «القيادي» الذي كان يشغله الكنفاوي في نقابة الاتحاد المغربي للشغل، وقناعته المتمثلة في ضرورة ارتباط المسرح بهموم وانشغالات الشعب، في الدفع به إلى تأسيس «المسرح العمالي» بالتعاون مع الفنان المسرحي المغربي الطيب الصديقي.
مثلت تجربة الكتابة المسرحية عند عبد الصمد الكنفاوي سبيلا لمد الجسور بين المسرح بعناصره ومكوناته الغربية، والأشكال الفرجوية، التي يزخر بها موروثنا الثقافي المغربي. ولأن الرجل كان واعيا بأن الفرجة لا يمكنها أن تشكل بمفردها عملا مسرحيا، فقد راهن على تحويل الكتابة إلى ورش مفتوحة لاختبار أنماط من الاتصال بين المسرح وهذه الأشكال الفرجوية وتجريبها. وفي هذا السياق يأتي استثماره الدال للاقتباس بوصفه وسيلة لارتحال النصوص والتجارب الإبداعية بين الثقافات، ونقض أي مركزية أو هيمنة. وسوف لن يعجز القارئ عن إدراك قدرة الكنفاوي على استبطان هذه النصوص الغربية وصهرها في الموروث الشفهي الشعبي المغربي.
يكفي في هذا الصدد قراءة أعمال من قبيل «اعمايل جحا» و«امولا نوبة» و«سلطان الطلبة» و«بوكتف» و«السي التاقي» لكي نحيط علما بالمعرفة العميقة للكنفاوي بالتجارب والحساسيات المسرحية في أوربا، وقدرته على استشراف الانسجام بينها وبين ما يفرضه السياق الثقافي والاجتماعي والتاريخي المغربي من اقتضاءات. استشرفت مغامرة التجريب عند الكنفاوي حد إبداعه لنص «الارتجال على اللحية الزرقاء» والذي تأثر في سياقه بمدرسة الكوميديا دي لارتي الإيطالية. وتمثلت الغاية الرئيسة في الاحتفاء بـ«الارتجال» وتحققه فوق الركح.
كانت غالبية النصوص، التي اقتبسها عبد الصمد الكنفاوي من موليير وبريشت، تعبيرا مسرحيا دالا عن الفساد المستشري في أوصال الإدارة والمجتمع المغربيين، في المرحلة التي أعقبت استقلال المغرب من الاحتلال الأجنبي. ويمكن أن نمثل لذلك بنصه المسرحي ذي الحمولة الهجائية القوية: سلطان باليما.
مثل انتماء عبد الصمد الكنفاوي إلى مدينة العرائش مصدر تأثير قوي على تجربته في الكتابة المسرحية. كانت هذه المدينة ذات العراقة التاريخية والحضارية الاستثنائية، باسمها القديم ليكسوس، أقدم مرفأ فينيقي في منطقة حوض الأبيض المتوسط. وكان موقعها الجغرافي المتميز، على ضفاف المحيط الأطلسي ونهر اللوكوس، عامل جذب للعديد من الحضارات، التي تعاقبت عليها. اشتهرت المدينة، بالإضافة إلى مقاومتها الشرسة لكل أشكال التدخل الأجنبي، بتعددها الثقافي، الذي يمتزج فيه ما هو إيبيري أندلسي بما هو عربي. عرفت المدينة في تاريخها المعاصر بتعددها اللغوي والعرقي والثقافي، وارتفاع منسوب التسامح والتعايش مع الثقافات الأخرى. تشبع عبد الصمد الكنفاوي بهذه التواريخ والذهنيات والأنساق الثقافية المتعددة، وبدا تأثره واضحا بالموروث الثقافي والرمزي لمنطقة حوض اللوكوس وبلاد «الهبط» في سياق إبداعه لنصوصه وتفكيره في الوظائف الطلائعية للفعل المسرحي.
أفلح الكاتب والباحث المسرحي الفرنسي شارل نوغ في شهادته المؤثرة في تقديم بورتريه ذي كثافة لافتة لصديقه ورفيقه في مركز المعمورة: سوف يكون عبد الصمد الكنفاوي في أعماقه سعيدا وإن تخلل ذلك بعض من السخرية، وهو يرى أن نصوصه المسرحية أكثر حضورا من تقاريره الإدارية». فرغم الوظائف السامية التي تقلدها الكنفاوي في أجهزة الدولة المغربية بعد الاستقلال، بدءا بالسلك الديبلوماسي، ثم مكتب التسويق والتصدير، ومؤسسة الضمان الاجتماعي، فإن حياته كانت منذورة لمغامرة التأسيس لمسرح مغربي..
وينوه شارل نوغ في السياق ذاته بانشغال الكنفاوي بتخليص الممارسة المسرحية من التأثير الكولونيالي، باختياره الواعي تأطير تصوره في ما يمكن نعته بالفضاء الثالث، حسب تعبير الأكاديمي الهندي البريطاني هومي بهابها، بما يستدعيه ذلك من هجنة ومثاقفة وتمازج: كان «سلطان الطلبة» يتيح لطلبة فاس الفرصة كي يختاروا ملكا من بينهم لمدة أسبوع، كي ينظم احتفالا ومسابقة في نظم قصائد شعرية يحضر فيها روح النقد. أما «فرجة لبساط» فتضفي الأهمية على روح الهجاء عند الفنانين المتجولين، الذين يكون في مقدورهم الاستهزاء وتحقير العادات السائدة والشخصيات الهامة في حضرة الملك».
لم يحظ إبداع الرجل بالاهتمام النقدي، الذي يستحق. وظل إسهامه المتميز على هامش سجلات التاريخ الثقافي الرسمي. ولولا الجهود التي بذلتها أرملته الفرنسية السيدة دانييل، في سبيل توثيق وإصدار ما خلفه من أعمال، وكان الكثير منها ما يزال مخطوطا، لصار تراثه إلى الإهمال والنسيان والتلف. انحاز عبد الصمد الكنفاوي إلى المسرح بوصفه رؤية إلى العالم، مشبعة بالاحتجاج ضد الزيف وفساد العلاقات والمشاعر الإنسانية، وبالتمرد ضد الظلم والقهر.
اختار عبد الصمد الكنفاوي أن يبحر ضد التيار، وأن يرتب حياته القصيرة على هذه الأرض، في مواجهة الأعراف والمعايير الاجتماعية المألوفة، وفي انسجام مع القناعات الوجودية، التي آمن بها والتزم بها أساسا لشرطه الإنساني. وكان المسرح بوصفه «حياة موازية» إن صح هذا التعبير، قرينة دالة على ذلك.

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية