حسن المنيعي… رائد النقد المسرحي في المغرب

لم يخطئ من شبّه الناقد المسرحي المغربي حسن المنيعي (الذي غادرنا يوم الجمعة الماضي) بالناسك الزاهد، فهذا الرجل جعل حياته كلها اعتكافا على العلم والبحث، ولذلك كان حريصا على ألا يفوته شيء من مجالات اهتمامه في النقد والأدب والفنون المشهدية والعلوم الإنسانية، وما يتصل بها من حقول معرفية.
دخل المنيعي (1941/ 2020) إلى رحاب العولمة من بوابتها الثقافية في وقت مبكر جدا، حتى قبل أن ينزل هذا المفهوم إلى سوق التداول والاستهلاك، وحتى قبل أن تصير قنوات المعرفة متيسرة أكثر، بفضل نظم الشبكة المعلوماتية الحديثة. كما أنه امتطى صهوة الحداثة منذ عشرات السنين، بتفاعله الإيجابي ـ استيعابا وتمثلا ونقدا ـ مع ما ينتج في مراكز الإشعاع الأكاديمي والفكري، غربية كانت أم شرقية، من بحوث ودراسات بلغاتها الأصلية.
وإذا قصد الباحثون الراغبون في الاغتراف من حياض الفكر الإنساني هذا العالِـم الـعَـلَـم، فإنه لم يكن يضنّ عليهم بما يرجونه منه، حتى غدا مدرسة كبيرة لها مُريدوها وطلابها في مختلف أرجاء المغرب، وغيره من البلدان العربية. فما أكثر الرسائل الجامعية التي أشرف عليها، سواء بحوث الإجازة (الليسانس) أو رسائل الدراسات العليا، الماجستير أو أطروحات الدكتوراه. وما أكثر الذين تتلمذوا على يده بصفة مباشرة في رحاب الكلية، أو غير مباشرة عبر كتبه ومحاضراته.
وهو بقدر حبه لطلابه المجدين وعطفه الأبوي عليهم، بقدر ما كان جِدّيا وصارما معهم، لا يقبل الاستسهال والتساهل في البحث واستعجال الانتهاء منه؛ حريصا أيضا على تدقيق المفاهيم وضبط المناهج وسلامة الأداة اللغوية. وخلف هذه الصرامة والجدية، كانت تثوي طيبة ووداعة آسرة، وروح مرحة لا تعدم ظرافة، وحس مرهف لا يفتأ أن ينخرط في مشاعر إنسانية فياضة. ويتذكر الذين حضروا حفل تكريم الرجل في مهرجان المسرح الجامعي الذي شهدته مدينة مكناس المغربية خلال التسعينيات أن «با حسن» (كما يناديه المقربون منه) فاضت عيناه تأثرا بما أُحيط به من تقدير واحتفاء عظيمين، هو أهل لهما، من طرف زملائه وطلبته وأصدقائه الفنانين وعموم الجمهور، ومن إدارة جامعة المولى إسماعيل، راعية تلك التظاهرة المأسوف على أفولها في المهد. عُرف المنيعي بمواكبته للمسرح المغربي عموما، ومسرح الهواة خصوصا وللمسرح الجامعي بعد ذلك، فكان لا يترك تظاهرة تفوته في هذا الصدد. غير أنه صار خلال السنوات الأخيرة مُقِـلاًّ في ذلك، نتيجة انشغالاته الأكاديمية، وربما لأسباب أخرى لا يود الإفصاح عنها. ومع ذلك، فقد كان يكتب بغزارة، ويترجم البحوث المتعلقة بالمسرح إغناء للمكتبة العربية.

الإرهاصات والامتداد

يكشف «با حسن» أن علاقته بالمسرح ترجع إلى الطفولة، وبالتحديد إلى المدرسة الابتدائية التي تعلم فيها مبادئ القراءة والكتابة، كما مارس في فضاءاتها العديد من الألعاب، بما في ذلك «لعبة المسرح» التي كانت تبرمج سنويا، باعتبارها تظاهرة مهمة تتزامن في الغالب مع حفلات «عيد العرش» (أي ذكرى تولي الملك الحكم).
ومع أن تلك التظاهرة كانت تهدف بالأساس إلى بث الحماس في نفوس التلاميذ خلال حفل بهيج، يشرف على إعداده معلم موهوب، فقد كانت بالنسبة لحسن المنيعي بداية رحلته في عالم المسرح، جعلته يهتم لاحقا بتجلياته وتراكماته في الثقافة الإنسانية. وكان من حصيلة ذلك الاهتمام، رسالة دكتوراه أعدها تحت إشراف المستشرق شارل بيلا في جامعة السوربون في باريس، وجرت مناقشتها في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 1970.
يقول المنيعي في مقدمة الطبعة الثانية من كتابه الرائد «أبحاث في المسرح المغربي» إن هذه الرسالة تعد، في رأيه، بداية مسار ثقافي سيتوزع على مراحل ذات ترابط منطقي، ولكنها تتعاون في ما بينها، إنْ على مستوى التحصيل العلمي، أو على مستوى الاختيارات الثقافية التي كانت مصدر اهتمامه بعدة أجناس أدبية. ففي مجال المسرح، مثلا، هناك تباعد كبير بين كتّاب «أبحاث في المسرح المغربي» وكتّاب «المسرح المغربي من التأسيس إلى صناعة الفرجة». ويرجع ذلك إلى العامل الزمني، وإلى التحولات الطارئة على هذا الفن، إضافة إلى ما أمكن له استيعابه من اتجاهات ونظريات، ساعدته على إعادة النظر في مفهوم الممارسة المسرحية. لهذا، يؤكد الدارسون لكتاباته عن المسرح، على أنها تتقاطع في ثنايا التاريخ والفن والتحليل، وعلى الخصوص المقارنة والمساءلة الجمالية التي تعنى بالأبعاد النصية والفرجوية، على مستوى الكتابة الدراماتورجية.
إن اختيار هذه القراءة متعددة الأدوات الإجرائية هي التي سمحت للمنيعي ـ كما يوضح ـ بالوقوف على العلائق القائمة بين المسرح المغربي وروافده، ودراسة خصوصيات التجارب المسرحية المغربية، والكشف عن عدة منطلقات فنية، خصوصا في مجال تأصيل الفعل المسرحي المغربي، وإمكانية إعادة الاعتبار للفرجات الشعبية، ودفع الطلبة الباحثين إلى الاشتغال حولها من زوايا متعددة، إما للحسم في قضية «جينيالوجيا» (جذور) المسرح العربي وتبعيته للغرب، أو للتأكيد على حضور المسرح في التراث السردي القديم وطقوسه الاحتفالية، مع الحرص على التشبع بالنظرية الغربية، ودراسة آفاقها وتطبيقها على مستوى البحث العلمي.

اللافت للانتباه في كتابات الدكتور المنيعي ذلك التنويع في المضامين والاجتهادات البحثية، إذ يطرق حقولا معرفية وإبداعية ونقدية مختلفة، وهي وإن بدت بعيدة عن عالم المسرح فإنها في الواقع أقرب ما تكون إليه باعتباره «أبا للفنون»، ومن بينها مجال التشكيل.

أطروحة رائدة

يجمع الباحثون والنقاد على أن «أبحاث في المسرح المغربي» أطروحة رائدة في مضمار البحث الأكاديمي المغربي المتعلق بالمسرح، فبعد مرور أربع سنوات على مناقشها مطلع السبعينيات، قام المؤلف بنشرها، حيث لقيت إقبالا كبيرا من لدن المهتمين والقراء والأدباء، لكونها تولت التأريخ والتحليل الفني للمسرح في المغرب منذ بداياته إلى نهاية الستينيات. وهكذا، خصص المؤلف الفصل الأول من الكتاب للتقليد المسرحي في المغرب، راصدا ما سماه «الأشكال ما قبل المسرحية» كـ»الحلقة» و»البساط» و»سيدي الكتفي» و»سلطان الطلبة».
وقام المؤلف بتتبع المراحل المختلفة للحركة المسرحية في المغرب، عبر فترات تمتد من حقبة الاستعمار، إلى متم العقد السادس، حيث حرص على إبراز الخصائص الأصلية للتعبير الدرامي وأشكاله الحديثة، بعد أن وقف على نشاط المنظمات التي اهتمت بفن الخشبة عموما، والرجال الذين ساهموا كثيرا في تطويره الفني، كما ألمح في الوقت نفسه إلى المشكلات الجوهرية التي كانت تعيق تقدم المسرح المغربي والأزمات التي يتخبط فيها. وهكذا، تناولت فصول الكتاب التجارب المتبعة في المسرح المغربي منذ 1919، وميزت بين حركة مسرح الهواة والمسرح الاحترافي، من خلال التوقف عند تجارب بعينها، ففي مجال الهواية، وقف الكتاب عند أسماء: عبد القادر البدوي، مصطفى التومي، محمد العلوي، عبد العظيم الشناوي، مصطفى الزناكي، محمد الحرشي، عبد الهادي بوزوبع، محمد تيمد، زكي العلوي، الغالي الصقلي، كريم بناني، محمد شهرمان، عبد العزيز الزيادي. وفي مجال الاحتراف، جرى استعراض تجارب أحمد الطيب العلج، فرقة المعمورة، الطيب الصديقي.
ولم يغفل المؤلف الإشارة إلى أنواع أخرى من المسرح: المسرح الإذاعي، المسرح على شاشة التلفزيون، المسرح الغنائي، مسرح القناع الصغير، مسرح العرائس… ليخلص في الأخير إلى الحديث عن التجديد في الكتابة المسرحية في المغرب.

الجسد في المسرح

من بين كتب المنيعي الأخرى ذات القيمة المعرفية اللافتة، كتاب «الجسد في المسرح» الذي فاز بجائزة المغرب للكتاب (صنف الترجمة) سنة 1997، وهو كتاب جاء مختزلا لمعظم التصورات المرتبطة بموضوع الجسد وحالاته ودلالاته في العرض المسرحي. إنه ليس ترجمة عادية بلا روح، كما أنه ليس مجرد تجميع لنصوص متناثرة بين الكتب والدوريات، ولكنه ترجمة إبداعية عميقة، تستند من جهة إلى صلة المنيعي بالخشبة وعوالمها المختلفة، ومن جهة أخرى إلى ما يُعرف عنه من نهم كبير بقراءة أحدث الدراسات المسرحية والفكرية، ما يجعله موسوما بسعة الاطلاع وتفتح الفكر وغزارة المعرفة. علاوة على ذلك، فكتاب «الجسد في المسرح» مُـعَـدٌّ بطريقة منظومة، أوجدت نوعا من الألفة أو التقارب «العائلي» للنصوص المترجمة، بأسلوب سلس تنقاد عباراته لتبسط المعنى للقارئ بيُسر، فيبدو كما لو أن أفكار الكتاب هي لحسن المنيعي وليس لغيره ممن ترجم عنهم.
يبين المؤلف أنواع الجسد كما يطرحها رولان بارت: الأنثروبولوجي، الإثنولوجي، الديني الجمالي، لينتقل إلى الحديث عن الاستعمال المسرحي للجسد، مستعرضا الرؤى المختلفة للجسد في علاقته بالمسرح: الحركة جوهر المسرح (غوردن غريك)، الجسد الراقص (كاترين اسبيناس)، الجسد الكرنفالي (اندري كلافل)، الممثل جسد الفرجة (جان جوفينيون)، ترويض الجسد (بيتر بروك)، الجسد في مسرح الضحك الشعبي (ألان جيرو)، فرجة الجسد في مسرح صمويل بيكيت (ماري كلود هوبير)، الإخراج المسرحي ومحاولة موضعة الجسد (أندري فينستاين وجورج بانو)، الساموريا أو دراما الشعور (أنتونان أرتو).
ويتضح من خلال قراءة هذا الكتاب، أن توظيف الجسد هو ميزة الاتجاهات المسرحية الحديثة، وأن المخرجين المعاصرين فجّروا لغات الخشبة المختلفة.

شعرية الدراما المعاصرة

من أحدث كتب الدكتور حسن المنيعي كتاب «شعرية الدراما المعاصرة» الذي صدر عن «المركز الدولي لدراسات الفرجة» في مدينة طنجة، والكتاب عبارة عن رؤى تجديدية في المسرح، أعدها الناقد المغربي وترجمها عن منظرين ومبدعين مسرحيين غربيين. فمنذ سبعينيات القرن الماضي، شهد المسرح ـ كما يلاحظ المنيعي ـ تحولات كبيرة كان أهمها انفتاحه على الفنون الأخرى، التي جعلت الخشبة تعج بأساليب درامية جديدة، يظل النص المسرحي في بعضها عنصرا ثانويا، خصوصا بالنسبة للعروض التي تعتمد مفهوم «المسرح الشامل» الأرتي (نسبة إلى أرتو).
ويرى الناقد أنه إذا كانت هذه التحولات تعدّ إسهاما للمخرجين في المقام الأول (خصوصا الذين يمارسون مسرحا احتفاليا له علاقة مباشرة بالحياة اليومية)، فإن المنظّر الألماني هانس ـ تيز ليمان اهتم بهذه التحولات، وعمل على رصدها في نهاية التسعينيات، في كتابه «ما بعد الدراما» الذي يمكن اعتبار ما ورد فيه شعرية درامية تطرح بديلا عن «المسرح الدرامي» و»المسرح الملحمي». وقد دافع عن مسرح يعتمد على «الأدائية» Performance أي على مسرح يقوم على اللعب، ويتحرر من النص الدرامي، ولا يعير أدنى اهتمام لوجود تراتبية بين المنظومات الركحية والأكسسوارات المستعملة، وعلى الخصوص بين الخشبة والنصوص، ما دام أن هذه الأخيرة لن تكون ركحية (أي قابلة لأن تقدم عبر اللعب والكلام)، وإنما هي على العكس من ذلك تكتب ضد الخشبة، التي لا تعمل على تجسيد محتوياتها، بقدر ما تقترح أساليب فنية تجعلها تنفتح على عوالم جديدة.

إسهامات تشكيلية

اللافت للانتباه في كتابات الدكتور المنيعي ذلك التنويع في المضامين والاجتهادات البحثية، إذ يطرق حقولا معرفية وإبداعية ونقدية مختلفة، وهي وإن بدت بعيدة عن عالم المسرح فإنها في الواقع أقرب ما تكون إليه باعتباره «أبا للفنون»، ومن بينها مجال التشكيل. وفي هذا الصدد، نجده في كتابه «عن الفن التشكيلي» يقدم إضاءات حول علاقته بالمجال نفسه، حيث يقول: «تعود علاقتي بالفنون التشكيلية إلى بداية الستينيات، عندما كنت أحلق في فضاءات واسعة لأقف على المدارس الأدبية الفاعلة في الثقافة العالمية، محاولا استيعاب أسرارها وطرق إجابتها عن تساؤلات الإنسان وحاجياته. لم تكن لديّ أي موهبة تخول لي ممارسة الرسم، ولكنني أحببت هذا الفن من خلال القراءة، وحضور حفلات افتتاح المعارض. وبحكم زيارتي لبعض متاحف أوروبا وتوطد علاقتي الرسام محمد القاسمي، تمكنت من معرفة الشيء الكثير عن الأشكال والألوان والخطوط والمسافات، لدرجة أنني صرت ألاحق حركة التشكيل في المغرب، وأكتب عن بعض تظاهراتها مقالات متواضعة، جعلت القراء يصنفونني في خانة النقاد التشكيليين، وإن كنت أعتبر نفسي مجرد متذوق أرصد بتلقائية كل ما أفهمه من علامات ولمسات وأبعاد تتمفصل على قماش اللوحة.

٭ كاتب من المغرب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية