مسرحية «حضرة البوح» للمغربي عبد الرحمن بن زيدان: مقاربة جريئة لصناعة الإرهاب والإرهابيين في العالم

تتوخى مسرحية «حضرة البوح» للأديب والناقد المغربي عبد الرحمن بن زيدان كتابة تاريخ المرحلة المحكومة بالعولمة، وتتبع أفكار مَن يصنع الإرهاب والسياسة الجديدة في العالم، وهي كتابة لا تريد السقوط في المباشرة التي تحيل على المرجعية الواقعية، أو تقديم شخصية نمطية تشبه الواقع وتتماثل معه.
ويقول مؤلف المسرحية الصادرة في طبعتها الأولى هذا العام (2020) إن التشابه والتماثل لا يكون إلا وفق متخيل الكتابة، وليس وفق الاستنساخ البارد لما هو موجود في المعيش، ذلك أن الإبداع سيبقى نقيض الاتباع، وسيظل الإبداع حتما القادر على أن يُكوّن لرؤيته نموذجها الخاص، الذي تُوثق فيه الحالات، والنزاعات حتى لو لم تأخذ محدداتها من الواقع لتكون هي الواقع.
إنها «ملحمة العصر» وفق توصيف بن زيدان لعمله الجديد، وعن سبب اختيار «حضرة البوح» عنوانا لها يوضح في مقدمة الكتاب: «توخيت أن أعطي لبوح المدينة كل ما يقربنا من زمن العنف (الداعشي) المُمارَس على الناس والعباد، من قبل مروّجي الجهل والغباء والجنس والمخدرات والجهاد الجنسي وتشويه الأديان، وتحريم التعاطي مع كل ما يفتح أمام الإنسان أمل العيش بكرامة وحرية، والعيش بثقة كاملة بما تمنحه الحياة ويمنحه المجتمع المحب للسلام والعدل والعدالة والمساواة». ويؤكد المؤلف على أن الإرهاب لا وطن له، ولا لون له، ولا عقيدة له إلا عقيدة العنف، الذي لا يبقى ولا يذر، لأن همّه السادي هو اغتيال لحظات الفرح في مهدها، وهذا ما قدمتْ أحواله أول مسرحية مغربية تتناول موضوع صناعة الإرهاب في العالم.
ثم يستطرد قائلا: «إن نقل ظاهرة الإرهاب إلى عالم الكتابة المسرحية، واستعراض حالة المرأة الواعية في هذه الدراما سيكون عندي مسنودا إلى استحضار المتناقض الموجود بين الظاهرة والمرأة، التي اكتوت بحرقة المفارقات، وكل مرماي أن ألتمس وضع كل علامة على طرفي نقيض من الإرهاب، ومن يصنعه، وبين الوعي ومن يشكله، وهي الإشكالية التي لا يجمع بينهما إلا الاختلاف بين الأطراف المتنازعة، لأن سيطرة المسيطر لم يترك للمرأة والرجل فرصة التعبير عن حالهما وأحوالهما، كي يبوحا بالمقموع في دمعيهما، ويتحدثان عن المكبوت في رؤيتيهما، ويخرجان المنحسر في آهاتيهما للعلن. جاء هذا التشابك بين الظاهرة وموضوع المرأة وقرينها الرجل، نتيجة حتمية لكل ما جمعته من حالات وجدتها كلها تصطدم بعالم تصنيع الإنسان بالأيديولوجيا الانتهازية، وجاء ـ أيضا ـ من معرفة نقيضهما (قزح) الرمز في النص الذي لا يحيل على نفسه ـ فقط ـ بل يحيل على العالم الذي يريده أن يكون موجودا وفق هواه، ووفق ما تمليه عليه مصالح المهيمن عليه».

وانطلاقا من التشابك الموجود لدى المؤلف بين الحالة النفسية والوعي التاريخي والمعرفة بالوقائع ومداراتها، لم تعد الكتابة مترددة في الإقدام على الرجوع إلى موضوع الإرهاب، والحديث عن المرأة، كقضايا ساخنة ما تزال حيّة بتناقضها ومفارقاتها في المجتمع العربي.

حالات المرأة

ويضيف عبد الرحمن بن زيدان: «من تجميع الحالات وما يجري في الحياة العادية لهذه المرأة، الواضحة منها والمستترة وراء حجب العادات والتقاليد والمعرفة، وجدت ملمحا يمكن أن يشعل نار الفتنة بين الكلمات، ويظهر الحالات كي تتوافق، ويقدّم حالات المرأة حتى تنسجم مع ما تكتبه الكتابة بكل أتعابها ووعيها، وهي تودّع صمتها في الكلمات الناطقة بسيرتها، بحثا عن كلام يليق ببلاغة بوحها من أول همسة تتمنى أن تكون قد وصلت إلى ما تشتهيه بعقلها وبأنوثتها وتطلعاتها، وصولا إلى أحلامها المجهضة مثل، الأحلام المجهضة لصنوها الرجل، لفضح عالم (قزح) وعقليته، وشيطنته في تفريخ الأتباع/الأشباح».
ويبيّن أن المرأة التي اختارها لهذه الدراما الجريئة بحمولتها الرمزية والمكتوبة بجنون العالم، وبرزانة علمها، تسعى لمعرفة هذا العالم، وسار المؤلف معها ومع فكرها الهادئ في طريق صار يشك في الشكليات، ويشك في الثرثرة الأيديولوجية المزعجة، فجعل منها أيقونة لموضوعها، بعد أن صارت بفكرها ومواقفها رمزاً لكل النساء، فصاغها صياغة رمزية قائمة على عمل في صالون تجميل كـ»مُدلّكة» في إحدى القاعات الرياضية، تلتقي في عملها اليومي بالنساء والرجال، لكن ما يهم هو رمز عملها ووظيفتها وحياتها المتحركة في الظلمة على إيقاع الرتابة، وطقوس التحنيط المؤقت الذي يزيل التعب والقلق وتشنج الأعصاب من جسد كل من يخضع لعملية (الدعك) التي تخفف من خشونة الأبدان، حتى يلين الجلد بعد دلكه وتمريغه في وهم العودة إلى الليونة والرخاوة، والنظافة والإغواء، وهو الرمز الذي راهن عليه المؤلف كتقنية فنية ـ لا غير ـ لينفذ معها إلى نفسيات من يأتي عندها بهدف معرفتهم أكثر، تسهيلا لبوحهم بالحياة المخبأة في لاشعورهم، فكانت تستدرج على وجه الخصوص الحالات النفسية لـ(قزح) كي يتكلم بما يريد، ويتحول من شكله المتهالك إلى الشباب المتجدد، الذي يريد بناءه على فكر مهزوز، وأعمال مشكوك في سلامتها من أجل أن يكون له مظهر محترم كما يريد.

صرخة إدانة

ويشير المؤلف إلى أنه أخذ هذه الوظيفة كتقنية للتركيز الشديد على الشخصية المتحولة في سياق الكتابة الدرامية لهذا النص، وهي شخصية (قزح) بكل ما تحمله من صور تموج بكل حالات اللبس والمراوغات باللعب السياسي بحثا عن الخير المفقود، والتركيز على المظهر بين الأشباح، ليكون هو الظاهر المعبود، ويصير هو المُدنّس الذي يقدس الجشع الممدود، ويزين لنفسه كل شره بالطمع ليكون هو القد المقدود، والشرهان الودود، لكنه في سلوكه يزيل من المجتمع كل بحبوحة ورفاهة وميسرة.
المسرحية صرخة إدانة لكل أشكال العنف الذي يمارسه الأغبياء على العقلاء، وهم يبيعون ويشترون أجمل ما في العالم، وأغلى ما فيه وهو حياة البشر؛ حيث يبرمج زعماء العولمة والمتجبرون والديكتاتوريون والوسطاء والمتسلطون على رقاب الناس ما يقع في العالم من صراعات، ظاهرها كما تدّعي خطابات إعلامهم الرسمي هو تحقيق استتباب الأمن في العالم، وإنقاذ الأبرياء من الأغوال المتجبرين صانعي الإرهاب، لكن هذا الإرهاب في كواليسه، وفي تجليات أفعاله سيظل صناعة حقيقية لتضارب المصالح بين الإمبرياليات الجديدة الساعية إلى كسب غنائم جديدة، والاستحواذ على المسلوب من خيرات الفقراء، حتى لو اختلفت أيديولوجياتهم ولغاتهم وظمأهم للكسب الثمين، وفق تعبير المؤلف في المقدمة.
ويشير عبد الرحمـــــن بن زيــــدان إلى أنه يطمح إلى إعادة الاعتبار للكتابة النصية، بما يمكّن من ترسيخ التفاعل بين الكتابة ومتخيلها أثناء بناء الأحداث والانفعالات، بالسرد الملائم للتغيير، المسيّس القريب من عالم السياسة، لكنه في نهاية المطاف ينتمي إلى عالم المسرح بجمالياته وببلاغة اللغة المسرحية.
وانطلاقا من التشابك الموجود لدى المؤلف بين الحالة النفسية والوعي التاريخي والمعرفة بالوقائع ومداراتها، لم تعد الكتابة مترددة في الإقدام على الرجوع إلى موضوع الإرهاب، والحديث عن المرأة، كقضايا ساخنة ما تزال حيّة بتناقضها ومفارقاتها في المجتمع العربي، وهو ما توخّى به إبقاء التطرق إلى الموضوع، ومقاربة الحالة المأساوية حديثاً جريئا عن أوجاع الإنسان وانكساراته، وجرأته الهلوعة، وخوفه المقدام وتردده المحسوب بالأنفاس المكلومة حبا وشوقا وتطلعا إلى الخروج إلى العلن، والمشاركة في حياة أفضل وأهنأ وأسعد.

٭ كاتب من المغرب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول فاضل سهام:

    زادكم الله رفعة وقبولًا و تألقا. أرجو من الله العلي القدير أن يطيل في عمركم وأن يجعلكم كالمصباح ينير طريق من يبحث عن العلم و المعرفة

  2. يقول فاضل سهام:

    زادكم الله رفعة وقبولًا و تألقا. أرجو من الله العلي القدير أن يطيل في عمركم وأن يجعلكم كالمصباح ينير طريق من يبحث عن العلم و المعرفة??

إشترك في قائمتنا البريدية