سعدي الحلي في تونس

من خصائص المدن العظيمة أنها تجعلنا نشاركها الدَّعة والرفاهيّة والجمال المبذول في هندسة الحدائق، وفي عمارتها، وفي أنواع الثياب التي يرتديها ساكنوها ونوع طعامهم وشرابهم، وكذلك الأغنية التي تتردّد على الألسنة. يصف الشاعر المنصف الوهايبي بحر تونس، مازجا بين ألوان لا علاقة بينها، لكنها تُعطي الصورة الحقيقيّة:
«زبرجد الزيتون
لون التّمر.. لون النار
هذا اليشْبُ.. هذا الأخضرُ المزْرَقُّ.. هذا الأزرقُ المخضرُّ
هذا الأبيضُ الذهبيُّ.. هذا الداكنُ المصفرّ»
كلّ هذا مفروش على الشّاطئ تحت سماء خضراء ليمونيّة تبدو شمسها الغاربة مثل كرة زجاجيّة بلون ورديّ رقيق. هل تريدون ثراء في الألوان أكثر مما في هذه اللوحة؟ في تونس الخضراء، حتى الليل يكون بلون العشب في الساحات أخضرَ زاهيا. كان الشّاعر الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس يقارب الأشياء في الوجود، بعد أن يكون قد تمثّلها في الكتب، أي أننا نقرأ عن اللّون الأصفر والأحمر في الأدب، كي نتبيّنهما أمامنا في الوردة وفي النّار. وفق هذا الرأي فإن ما نعيشه وتحفل به حياتنا من مشاهد تظلّ رسومها خرساء نائية، عندما لا تقف على صور من الشعر والنثر. زرتُ تونس قبل حوالي سنة، وكِدتُ أنسى منظَر البحر من على شاطئ سوسة، لولا أني قرأت هذا الشّعر للوهايبي:
«نارٌ يُحيطُ بنا سرادقُها.. أهذي تونسُ الخضراءُ أم إجّاصةٌ هذي مقوّرةٌ.. بنا..
تسفو عليها الريحُ؟»
أعادني شعر القصيدة أشهرا عديدة إلى الوراء، وها أنذا أعاين أشجار الورد تضيء الشوارع في أيّ جهة راح بصرك. ليس جميع الزهور تنام في الليل، لكن النّوع المُسمّى ورد الجمال (الهبيسكس) مبذول هنا حتى أن عاملة الفندق تضع واحدة منه على الوسادة، وأخرى قرب الكأس، وفي الحمّام تزيّن بوردة كبيرة منشفة القدم. من يرَ الزهر الأحمر في أثاثه يعشْ يوما محكم الأركان بالسعادة، حتما.
تشعر في تونس أنك انتقلتَ إلى قطب الأرض المغناطيسي الآخر، فكلّ شيء هنا مختلف، ولا تعرف هل أنت في افريقيا أم أوروبا، في آسيا… ولولا منارة الجامع يُرفع منها الأذان خمس مرات في اليوم، مع بقايا لغة عربيّة يتداولها الناس بإيقاع سريع ونبرة عالية، لكان المكان غريبا في كلّ شيء. شاهدتُ السماء خضراءَ في أول يوم، وكانت غيوم ترسم عروقا بيضاءَ دقيقة، والشوارع تلتفّ بأشجارها وظلالها العميقة، وسط صمت وسكون إفريقيّ ساحر. المشهد وأنا أرقبه من مجلسي في المقهى أكثر من رائق، واشتقتُ عندها إلى كأس من نبيذ التمر، لكن لا أحد يعرفه في هذه الديار، وعلى الرفوف ليس غير النبيذ الأحمر والأصفر والأسود المعتّق. ثم ظهر نادل قصير القامة يشبه القزم، كأنما انشقّت الأرض وقذفته بيننا، هتف:
– أنت تقصد (الباستيس) أليس كذلك؟
الناس هنا إغريق ورومانٌ، وأمازيغٌ وعربٌ، والجميع يلقّبون الشراب الذي ندعوه عرَقا زحلاويّا (باستيس) ثمّ اتّصلتُ بابني ياسر في بغداد أطمئنّ على أهلي. سألني: كيف هي تونس؟ أجبتُه: يدعون هنا عصير التمر، أي العرق، (باستيس) بينما يسمّيه العراقيّون (حليب سباع). أيّ جدبٍ تعيش بغداد فيه؟ يشرح هذا المشهد اللغويّ الذي يظنّه المرء بسيطا تاريخَ العراق الحديث باختصار، منذ هولاكو إلى صدام حسين، إلى محمد شياع السوداني. كما أن الإشعاع الحضاري له دور كبير في رسم خريطة الشعوب، فالمدنيّة والتحضّر تنتقلان بواسطة قوانين الفيزياء مثل الحرارة والبرودة واليباس والطراوة. التونسيّون قريبون من إسبانيا وفرنسا وأوروبا عصر النهضة، ونحن الأقرب إلى الجزيرة العربيّة وصحراء الشّام، وتركيا وإيران هذه الأيّام..
«أنتم العراقيون لا تحبّونه».
قال النادل القزم الذي حزر نوع نبيذي، وصار نوع من كلام بيني وبينه. لاحظ امتعاضا في هيئتي السعيدة بجوار كأس الباستيس وشاطئ البحر، لأن كاظم الساهر راح يصيح في الأثناء، وصدى صوته يتردّد في الجوّ: «نزلت للبحر تتشمّس الحلوه. رفقا بالبشر ها يا بنت حوّا».
شيءٌ ما أخذ ينمو في داخلي.. إحساس أو فكرة غريبة، لا أستطيع التفريق في بعض الأحيان بين ما يجري في قلبي وعقلي. قلتُ للقزم إن بعضنا في العراق يحبّ كاظم الساهر إلى درجة الجنون، وقسم منا لا يطيق سماعه. ثم سألته إن كان يهوى سماع (القيصر) مثلما يدعون السّاهر الآن، وهزّ القزمُ رأسه دلالة على النفي:
«لا أصغي إلى غنائه برشة» وبرشة تعني في الدارجة التونسية (كثيرا).
أين هذا المشهد من لقائي في أحد الأيام في مدينة سوسة مع عامل دكّان عند ساعة السَحَر، وكان هو الوحيد الصّاحي في المدينة، ومعه صوت سعدي الحلّي يصدح في المكان:
«العمر من غير حُبْ شيفيد (ماذا يُفيد). لمني (اجمعني) بعصرة جفوفك (عصرة كفّيكَ). يا ريحة (رائحة) مسك يا هيل…».
كانت الظلمة داجية في المكان، ولا أحد يسير في هذه الساعة على شاطئ سوسة غيري. كي أتأكد من أن العامل تونسيّ وليس عراقيا أو مصريّا أو سوريّا، عدت إليه، وسمعت منه الـ»برشة» ثانية، وتأكدتُ عندها مما يدور في ذهني، واطمأننتُ.
أوسع المغنّين انتشارا في العراق هو سعدي الحلّي، في الشرق والغرب والشمال والجنوب. سألتُ بائع أشرطة (كاسيت) في ساحة الميدان في مركز العاصمة بغداد، عن التسجيلات الأكثر رواجا لديه. أجاب مباشرة: «أغنيات سعدي الحلّي». ثم دخل المحلّ في هذه الأثناء زبون يسأل عن حفلة الحلّي في صيف عام 1977، وأعطاه البائع شريطا على كعبه اسم المطرب وتاريخ الحفل. قلّبَ الكهلُ الكاسيت بيده، وقال للبائع محتجّا: «لا أريد حفل شهر تموز/يوليو من عام 1977، إنما حفلة شهر آب/أغسطس». مثلما يحدث مع سيّدة الغناء أم كلثوم، يحتفظ المسحورون بصوتها بتسجيلات الأغاني التي تخطئ فيها أو تخرج عن النصّ وغير ذلك، يتابع مريدو سعدي الحلّي ما يجري في حفلاته، وهي على العموم تدور في بيئات احتفاليّة فقيرة، وليس لديه حضور في القاعات والمهرجانات والنوادي، حيث الزبائن من الأغنياء والموسرين. وكما انقسم العراقيّون في الأمور التي تخصّ السياسة والمعتقد وطريقة العيش، وغير ذلك، تفرّقوا هذه المرّة في قربهم أو نفورهم من صوت القيصر وألحانه وبعض كلمات أغانيه، بينما وحّد سعدي الحلّي الجميع حول شمعته الصّغيرة التي أوقدها في محراب الفنّ، فلم أرَ امرأة شابّة أو عجوزا، ولا شيخا أو كهلا أو صبيّا في بلادي لا يعرف أغاني الحلّي من الأولى إلى الأخيرة.
في الليلة التي عدتُ فيها إلى بلدي جمعتني سهرة مع صديق تونسيّ وعائلته في البيت. بعد الكأس الثانية من شراب الباستيس أدّت زوجته لسعدي الحلّي أغنية «ليلة ويوم» وزادتها بصوتها حلاوة:
«غفا رسمك بعيني من (منذ) الصِبا لليوم وطيوفك ضيوفي بصحوتي وبالنّوم».
سألتُ السيّدة عن سرّ تعلّقها بالمطرب الحلّي، قالت: «لأن أغانيه ليست بوّابة إلى الرومانسيّة المائعة مثل أغاني عبد الحليم حافظ أو عبد الوهاب. إنه يؤدي أنغاما تصلح للحياة البسيطة والمعقّدة التي نعيشها، وهذه أغنية الواقع». كي أعلن عن حماستي لرأي السيّدة طلبت منها ومن زوجها أن نرفع الكؤوس جميعا، ونحسو نخبَ (أبي خالد) سعدي الحلّي في تونس. رغم كلّ ما قيل وحُكيَ وكُتِبَ عن صوت المغنّي وجودة اللحن، تبقى المسألة الأهمّ في الأغنية هي الكلمات. تذكّرنا أغاني الحلّي بمجد الرحابنة الشعري، من سهولة وعمق في التعبير وقوّة، ورغم غِلْظة وثقل اللهجة العراقيّة، التي تبلغ من الوحشيّة كأن متحدّثها الرجل يستعير في أدائها لسان السِّباع، انتشرت أغاني سعدي الحلّي حتى بلغت عامل الدكان التونسي والمرأة الزوجة الصالحة، تردّدها في بيتها من شرفة تطلّ على البحر. إن ما يميّز أعمال الفنّ عن غيرها من أفعال البشر، أنها تتحد وتتماهى مع الطبيعة. قلتُ في مقال سابق في هذه الصحيفة إن الموسيقى جزء من الطبيعة، وأضيف إليها جميع إبداعات الفنّ؛ اللوحة والقصيدة والقصّة العظيمة قطعة من الطبيعة أيضا، بهذا المعنى ننظر ونعتبر شعر سعدي يوسف وقصص التكرلي ورسوم جواد سليم. مثلما للإله مخلوقاته التي تدلّ على قدرته وعظمته وجلاله، لدى الإنسان النابغ كونه الذي جاء من صنع يديه. لكنّ أصعب أنواع الفنون هو الغناء، وأعلاها مرتبة لأنه يصل الجميع ويؤثّر فيهم ويكون بضعة منهم. ألوف من السنين يحتاجها الجنس البشري لتكون بينهم (سافو) وتنتظر الشعوب ألوفا أخرى كي تنشد فيروز في الصباح إلى العالم على اتّساعه. يقول رامبو: «نقرة من إصبعك على الطبل تبلغ الجميع/ أيها الآتي من بعيد، سوف تصل إلى كلّ مكان».
توفّيَ سعدي الحلّي عام 2005 وأقيم له مأتم بسيط، لكنّه مثل إله يفرض سماءه على العالمين عبر أشرطة وأقراص التسجيل وفي يوتيوب. بالنسبة لي، تُسحرني جميع أغانيه، ويدفّئ كهولتي حريقها الغراميّ، ويجعل الروح ليّنة وعذبة، ولو بلغ شاعرنا بورخيس هذا الكلام: «يا كِحلَه بجفن كلّ سَمره/ ترَه الدنيا بطرك عِشرَه» لقال عنه إنه يليق بالفيلسوف سينيكا.

كاتب عراقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية