بغداد بين زمنين

الوجهُ الحقيقي للمدينة يكون بعيدا عن ساكنيها، لكنّه بيّن بصورة جليّة للزائرين، فالعين عندما تُشرف على سطح متجانس وتعتاد، تغيب عنها السَوءة فيه، وإذا انقطعت زمنا ولو قصيرا وعادت إليه، بانت أمامها واضحة. وحين يكون الزائر غريبا أو أجنبيّا فهو ينظر بعين تبصر كلّ شيء، وإذا كتبَ مؤلّفا أدبيأ أعطى القارئ مسحا كاملا للمدينة. هذا ما فعله الرحّالة الغربيّون عندما قدموا إلى بلادنا، وكتبت أقلامهم صورا حقيقيّة للحالة التي عاش فيها أسلافنا، الأمر الذي عجز عنه أدباؤنا في الزمن الذي أطلق عليه المؤرّخون الفترة المظلمة. ورغم أن الروائيّة الشهيرة أجاثا كريستي زارت العراق في منتصف القرن الماضي، أي في عهد قريب نسبيّا، لكنها استطاعت أن تشكّل في روايتها «وصلوا إلى بغداد» لوحة فنيّة لحياة العراقيّين في تلك القرون:
«يسمى الشارع الذي انطلق منه الكابتن كروسبي شارع البنوك، لأن جميع بنوك المدينة تقع فيه. وكان الجوّ داخل البنك قاتما وباردا ورطبا، يسيطر على أجوائه ضجيج الآلات الكاتبة، الذي ينبعث من كواليسه. أما خارج شارع البنوك، فقد كان الطقس مشمسا، مفعما بالغبار وبأنواع مريعة من الضجيج، حيث تختلط زمامير السيارات المتواصلة، بصراخ الباعة من مختلف الأصناف».
يقوم الروائي بدور الرسّام الانطباعي وليس الواقعي، فهو ينقل لنا ما لا تراه عيناه، بل ما يعتمل في نفسه من مشاعر. إنه ينظر عالمه الداخلي ضمن العالم الخارجي، يمزج الاثنين معا ويعطينا الصورة الناتجة:
«كانت هناك مشاجرات ساخنة بين مجموعات صغيرة من الناس تبدو وكأنها مستعدة لقتل بعضها بعضا، غير أنها في الواقع خليط من أصدقاء أوفياء. إنهم رجال وصبية وأولاد يبيعون من كلّ أصناف الفواكه والمربّى، البرتقال والموز، مناشف الحمّام، الأمشاط، شفرات الحلاقة، وبضائع أخرى متنوّعة يحملونها على صوانٍ ويتنقلون بها عبر الشوارع بسرعة. كان هناك أيضا صخب متواصل ومتجدّد من السعال والبصاق، وفوق كلّ هذا النحيب الهزيل لرجال يقودون الحمير والأحصنة بين سيل السيّارات والمشاة زاعقين: «بالك.. بالك».
كانت الساعة الحادية عشرة صباحا في مدينة بغداد».

بعد انقضاء حوالي ثلاثة أرباع قرن على زيارة أجاثا كريستي، ما تزال أسواق بغداد تضجّ بصخب الباعة. اختلفت أنواع البضائع، وبدل الصواني التي شدّت انتباه الروائيّة، صار البائعون الذين لا يملكون دكّانا يقتعدون أرض السوق، في مساحات صغيرة اقتطعوها من الشارع والرصيف تُسمّى «بسطات» وبدل الصياح أصبحت لديهم أجهزة تكبير صوتيّة تعمل بالبطّاريّة، فتبدو أصواتهم مجتمعة كأنّها ضجيج غامض ومُصِمّ. الحضارةُ التي تنعم بها بقيّة المدن تضطهدنا في أسواق بغداد وتقطع أنفاسنا، فنشعر بأننا نموت اختناقا في أيّ لحظة. وعلى الرغم من بحبوحة العيش التي يعيشها العراقيّون في الوقت الحاضر بسبب بحار النفط في الأرض، لكنّ الفقر المعنوي بقيَ على حاله، وربما ازداد اليوم. ألتقي بهؤلاء الباعة دائما، أصحاب الدكاكين والبسطات، لأن محلّ عملي يقع داخل السوق، وأزورهم في بيوتهم في بعض الأحيان لغرض التطبّب، أو عند أفراحهم وأحزانهم.

كهرمان

اسمه في الهويّة «مُلْكيّة» وكُنيتُه «أبو طارق».. بائع يرتدي دشداشة قاتمة اللون وكوفيّة وعِقال، وجهه مدوّر أسمر مع شارب أسود خفيف ولحية شائبة. هو أنثى في سيماء رجل، ويُعامل مُعاملة الذكور، ويُحسبُ له حساب الرجال، والجميع يدعونه بالكنية التي اختارها: «أبو طارق». عِدْتُهُ في منزله ذات يوم، وكان عبارة عن غرفة صغيرة سقفها واطئ، من وصيدِها عمل «بسطة» يبيع فيها السجائر. المكان هادئ وآمن من ضجيج الشارع، أثاثه بسيط للغاية؛ سجّادة رثّة مع فراش في الجانب، وطاولة عتيقة في الجانب الآخر، تزدحم عليها أشياء قديمة، متنوعة، متراكمة على غير نظام. كلّ شيء هنا صار خاصّا بالمكان، فهو جزءٌ منه، وينضمّ إلى هذه الأشياء الساكنُ الوحيد في الغرفة دائما وأبدا، أبو طارق، مع همومه ومشاكله الصحيّة وفقره. يعمل أبو طارق منذ الصباح إلى المساء كي يعيل عائلة أخيه الميّت منذ زمان. سألته، أو سألت ملكيّة: ـ لكن قلبك مجهد بسبب ارتفاع ضغط الدم وعليك أن ترتاح؟ أجابني، وكنتُ أسمع حشرجة روحه لأنه مُتعب: العمل هو «دورة» وجه الرجل. من يعيل أولاد أخي الثمانية الصغار وزوجته إذا لم أعمل أنا؟
«ملكيّة» المرأة التي كُنيتها «أبو طارق» عرّفتِ العملَ بصورة فيها دقّة وأمانة وفصاحة تفوق ما لدى أهل العلم والمعرفة.
يكدّ هؤلاء الباعة البؤساء طوال الأسبوع، كما أن أغلبهم لا يعرف القراءة والكتابة، فهم لا يفرّقون بالتالي بين أيام الأحد والجمعة والثلاثاء، وحياتهم كلّها عمل في عمل. إنهم يعيشون على محصولهم اليوميّ من المال، وعندما يحلّ الغدُ يكون دخلهم نافدا، وعليهم الاستيقاظ مع وردة الشمس طلبا للرزق. حتى الأعياد الدينيّة هم محرومون منها، الإسلاميّة والمسيحيّة والصابئيّة… لكنهم يعرفون مواعيدها لأن فيها يكثر الرزق، وتزداد ساعات العمل، وتختلف البضائع المطلوبة. «يحدث أن أمرّ أمام دكاكين صغيرة، في زقاق السّيْن، مثلا، أمام بائعي الأثاث القديم وبائعي الكتب القديمة أو الصور المطبوعة بواجهاتها الممتلئة، لا أحد يدخل ليشتري منهم، إنهم لا يبيعون شيئا بالطبع، ولكننا نبصرهم في الداخل، جالسين على أريكة يقرؤون، لا يحملون همّ الغد (وإن لم يكونوا أغنياء) ولا يشغلهم كذلك همّ النجاح، يملكون كلبا يجلس عند أقدامهم، مرحا، أو قِطّا يزيد من حدّة الصمت بتسلله بين صفوف الكتب وكأنه يمسح العناوين عن ظهورها».
قائل هذا الكلام هو الشاعر الألماني ريلكه، وكان يُعرف عنه حبّ السفر وعدم الاطمئنان إلى العيش في بلد واحد، كأن قوّة خفيّة تدفعه للانتقال من مكان إلى آخر.

هل كان يُعلن عن حاجة نفسه إلى الاستقرار والثبات في مكان العيش، وهذا حال لا يستطيعه لأنه قُدِّر عليه الترحال أبدا، فهو شاعر دماؤه مُزجت بطاقة محرّكة تدفعه إلى زيارة مختلف البلدان، دون توقّف؟!
«آه! أودّ أحيانا أن أشتري إحدى تلك الواجهات الممتلئة وأجلس وراءها مع كلب لمدة عشرين عاما. عند المساء سيكون هناك ضوء في المكان الخلفي من الدكان، حيث سنتناول طعامنا مع الكلب، أو مع القِطّة، دون أي شكوى. الأمر هكذا جيّد، وسيكون أكثر جودة». تشدّني هذه الأماكن كثيرا أينما حللتُ، في داخل البلاد وفي الخارج. أحاول أن أقرأ حياة شخوصها في ماضيها ومستقبلها، وأتابعها في خيالي وهي تستقرّ في نهاية اليوم في منزلها، وأتمنّى ـ مثل ريلكه ـ أن أقضي عمري ساكنا جانب الشمس، أتنشّق وردةَ السُّم التي تعيد لي الحياة كلّ يوم، عندما تنطفئ. هناك من يولد في غرفة صغيرة ذات سقف واطئ ويعيش فيها طوال حياته، مثل صديقي أبي طارق، ويستعدّ عند أحد أركانها أخيرا للموت. في هذا المكان المُملق نستطيع العثور على أحاسيس توصف بالشّاعريّة، ويمكننا كذلك أن نعيش حياة هانئة، صافية من السغب والهمّ، ونختصرها في الأخير بأنها قطرة عسل ذابت في الفمِ، وقام البدن بتمثيلها، ثم يأتي الموت مثل ذرّة رمل تتوّج قمة جبل السعادة هذا، لكي يبقى واقفا.
المكان الأنيس لساكنه بضعةٌ من الجنّة، وهذا كثيرٌ موجود، ولا علاقة له بدرجة العمران والمساحة ونوع الأثاث، وبتعدّد المرافق والحديقة الفارهة والمطار الخاصّ.
كلّ هذا نقتنيه من أجل راحتنا، لكنه في الأخير يخذلنا عندما يعاكسنا الحظّ، وربما زادت لياقة المرء للحياة وهو يسكن دكّانا صغيرا يجمع فيه بيته ومكان عمله، يقلّبُ فيه نظره من حين إلى آخر بين المارّة، ويُعيره لمسته طوال اليوم، ويشعر فيه برضىً متواصل. إنه مكان واحد لكنه يمتدّ في أزمنة عديدة، ويشبه من يسكنه عشبة تعيش خارج الزمان في كهرمان، مسكونة بالحركة لكنها بلا حركة. إنها غير موجودة وموجودة دائما، فهي خالدة إذن.

طبيب وقاص من العراق

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية