مناديل حرير

يعتقد اليابانيّون القدماء أن للإنسان نفسا واحدةً وأربع أرواح، تستطيع كلّ واحدة الانفصال عن بعضها. لذلك، فهناك أشخاص قادرون على أن يسافروا بإحدى أرواحهم إلى مكان بعيد، وحتى إلى فترة مختلفة من الزمن. إنها إحدى تعاليم ديانة «الشينتو»، التي تقوم على هذا المبدأ الفلسفيّ: «الواحد هو المتعدّد ـ والمتعدّد هو الواحد». بالنسبة لي، لا أفكّر في هذا الأمر، وعندما ارتحل فإني انتقل بأرواحي جميعا وبدني كلّه، وربّ بلدة تسكنُ فيها نفسك فتعدّها دارك وإن كنتَ غريبا.
وصلتَ مدينة كركوك ظهرا، ورحتَ تعاين شوارعها ومبانيها وأشجارها وكلابها السّائبة، ثم قمتَ بفحص أحشاء السّوق والمطعم والمقهى، واكتشفتَ أنها مغلّفة بوشاح من الحلم أو الماضي، وعليك إزالته من أجل أن ترى الناس بصورهم الأولى، وليست الثانية أو الثالثة. ها أنت تجوبُ الشوارع سيرا على الأقدام، وتنظر في كلّ شيء، وتلتفتُ إلى كلّ حركة وصوت. ثمّ عبرتَ الجسرَ، ووقفتَ طويلا أمام النّهر الذي كان يخترق البلدة في زمن ماضٍ لا تعرفه، وقد جفّ وصار مجرىً فسيحا تتجمّع فيه أعشاب تحترق ويتصاعد منها دخانٌ يحمل روائح شتّى. طيور مختلفة الأشكال تعيش وسط الماء والعشب هنا، وكأنّنا في بداية الحياة، أو في نهاية الحياة. أكيد أن الخليقة بدأت في مشهد يشبه هذا: أعشاب وآثار ماء وأدخنة وروائح لا تُعدّ، يطلقها الرّحم الأوّلي للأرض. هنالك حدأةٌ ترسمُ دائرة فوق قلعة كركوك الأثريّة، حيث تتدفّق إليك صور الماضي وتوقظ الشّوق في قلبك للعيش في ذلك الزّمان. ليس ثمّة سدرٌ ولا نخل أو إثل في كركوك، واليوكاليبتوس العالي المتعالي هو سيّد الشّجر، تدور حول أغصانه فراشات كبيرة. هنالك دوما امرأة ليكون المشهد مُدهشا وجديدا. أنثى لها قلب باسل تغلب بصمتها الخاصّ شعبا من الرّجال الثّرثارين البُلهاء. يقول جلال الدّين الرومي: «الرُّوح التي فيها شيءٌ من روحِك، تعرفُ كيفَ تخاطبكَ بلا كلمات». هنيئا لمن يسوق له الحظّ هذه النّعمة، بإمكانه القول إنّه يسكن عندها الجنّة، وإنّ عرضها السّماوات والأرض.

الكلاب في كركوك أكبر حجما من كلاب بغداد و(العمارة)، مدينتي، ولها على ما يبدو صوت نباح واحد؛ الوحش اللّطيف الأبيض الذي صادفتَه في شارع السّوق، والكلب وحليّ اللّون في زقاق المكتبات، وكذلك الجرو الأعرج الذي حيّاك أوّل المساء بنباح قويّ وبهيج بالقرب من الحانة الهرِمة التي كلّ شيء فيها قذر وعتيق، وتحمل اسما فخما هو (قصر كركوك): مائدتان مشغولتان فقط في الصّالة الواسعة، واحدة لي، والثّانية لأربعة مقامرين ثملين تتطاير من أيديهم أوراق اللّعب، وسقطت إحداها في كأسي، وعندها قرّر صاحب الحانة طردهم، وبقيتُ وحدي أناجي امرأة مولانا جلال الدّين. هي مسألة اختيار حُرٍّ؛ لو كانت المرأة سُمّا قاتلا لشربتُ منه جرعة كبيرة بكلّ سرور، وأنهيت حياتي. أين قرأتُ هذه الجملة، أم أنها من بَنات أفكاري وأنا أنادم الآن بنت الحان؟ والله لا أدري.. أنّى ارتحلنا فنحن محاطون بملائكة كُثْرٍ، وأقصد بهم العشّاق، نسمو ونرتفع إلى مستوى آخر من الوجود عندما نلتقيهم، إن لم يكن في الواقع ففي داخل كتب الأدب. كما أن (الحبّ يبقى، رغم انتهاء زمان المحبّين) – العبارة لماركيز. تقول الأسطورة إنّ الكائن البشريَّ خُلقَ واحدا في البداية ثم عاقبه الرّبّ بشطره إلى نصفين يحنّ أحدهما إلى الآخر ويبحث عنه ولا ييأس. ما الذي تملكه المرأة التي نقع في حبّها ولا تملكه النساء الأخريات، إن لم تكن هي نصفنا الثاني؟ لا توجد لحظات أسمى من تلك التي يتقرّب فيها اثنان، رجل وامرأة، ويعلن الحبّ بينهما عن سطوته، يتركان عندها كلّ ما هو ذاتيّ وأنانيّ وينتميان إلى مملكة الحبّ التي لا يدخلها من كان بقلب غير سليم. الليل قلعةُ كلّ إنسان في المدينة، الغريب وابن الدار. عدتُ إلى الفندق أسير في الشوارع المظلمة المهجورة، منتظرا أن تزول عني الوحشة، لأن كلبا فحميّ اللون عوى في أثري، فتذكّرتُ شعرا لمولانا: «معك أيها القمر متى تكون الأرض مظلمة»، يقول الشيخ، ويطالبنا كذلك بأن نرتفع فوق هذا العالم، إن أصابنا منه الملل أو الخوف، فهناك رؤية أخرى وحبّ آخر وامرأة أخرى. ثم استغرقتُ في كلمات مولانا وأفكاري وأنا نائم حتى كدت لا أفرّق بين كلامي وأشعاره.

صحوتُ عندما أخذت قلعة الليل تتهدّم، وأنار قبّة السماء نور ليس له مصدر، لأن الشمس لم تشرق بعد. ربما كان جوهر الكون هو مصدر الضياء الذي يُبهجُ النفس في ساعة السحر أكثر مما يبدّد الظلام. يُقال إن النساء ورجال الدين والبستانيّين يعيشون حياةً أطول من الآخرين. هل يعود السبب إلى عادة الاستيقاظ عند وقت السّحر؟ كان الهواء يسبحُ في ضباب ورديّ عندما بلغتُ الجادّة التي تُدعى «شارع المحافظة»، ولم يكن هناك داع لكي أرفع رأسي حتى أدرك أن إشعاعا قد انبلج من جهة الشّرق معلنا عن مجدَ النّهار الجديد، والبلابل والعصافير استيقظت وتقوم الآن بالغناء. أحيانا يودّ المرء أن يصغي إلى ما لا يُسمع، كما أن كلّ الخرائط تكذب إلا خريطة القلب. موجة عطِرة دارت مع أوراق الأشجار اليابسة وبلغتني، فتوقفت عن المشي، وكان يسير معي ثلاث عجائز يتناقشن بحميّة الشّباب، أجسادهن ممشوقة ويرتدين ثيابا مزركشة ترسم استدارات أجسادهنّ بدقّة، خصوصا تلك التي لا يمكن التغاضي عنها قطّ. إلى أيّ جهة كنّ يقصدنَ في هذه الساعة، والنّدى الرّبيعي يغسل الهواء من حولهنّ، فيبدون أكثر نعومة من مناديل حرير؟ رمقتني إحدى العجائز بنظرة متمعّنة وهادئة وأنيسة نفضت عنّي غبار أفكاري. من بين أكوام الأشياء في الوجود تبحث عيناك عن الأنثى، أو ما تستعمله وتعمله، وتتعلّمه وتعلّمه في السرّ والعلن.

في كلّ هذا وغيره، أو بعبارة أصحّ في كلّ ما يمتّ بصلة إلى عالم الأنوثة هناك ألوان وانحناءات تراكمت عبر الأجيال، تلك هي صورة المرأة بريشة البارئ، وخطوط مستقيمة كثيرة هي صورتي، تشاء أن تكون أكثر عمقا، فتفعل المستحيل من أجل أن تمسّ المنحنى أو تخرقه، للبحث عن الاستقرار، وإلّا تاهت في أرض الكون. إنها نظريّة التماسّ والنفاذ بين المستقيم والدائرة مثلما يخبرنا بها علماء الرياضيّات، فلا توجد علاقة بين الاثنين تتعدّى ما يجري بين الرجل والمرأة، وإلا صار الوجود خلاءً وقفرا موحشا تطيش فيه المستقيمات في الفضاء مثل الشُهب، وتمّحي، وتتدحرج الدوائر في عالمها وتنفجر مثل فقاعات لا يمسكها شيء. والمستقيم الذي يمتلك حظّا عظيما يمرّ بمركز الدائرة ويسمّى عندها قطبها، أي قطرها، وإلا كان وترا صغيرا أو كبيرا ـ ابنا أو أخا أو ابن عمّ – يبتعد ويقترب من الوتر العظيم، أي القطب، فإذا صار على المحيط فهو المماسّ للدائرة، وهذا يحمل في تركيبه سرّ تطوّر البشر أو تأخّرهم، لأنه يضمن الاختلاط بين الجنسين لا التباعد الذي يؤدّي في الأخير، مثلما يخبرنا علماء الاجتماع، إلى الخواء؛ خواء الفرد والناس أجمعين.
بقيتُ واقفا قليلا على الرصيف إلى أن ابتعدت العجائز، لكنّ ذات اللفاح الأبيض تركت فيّ بضعة منها أنعشتني وأزالت عني أفكاري المعتمة. رغم تقدّمها في السنّ، لكني رأيتها جميلةٌ ومثيرةٌ وبكبرياء لا تموت. كانت صغيرة وضئيلة ولها عينان سوداوان متموضعتان عميقا في وجهها الشاحب المنمّش ومحاطتان بهالتين سوداوين، كما أن لها ساقين متصالبتين تحت ثوب واسع، واللفاح الأبيض على رأسها كأنما قُدّ من ماء وزهور، وتمتلك السّلطة في عينيها وتمتلك السّحر. يُحكى عن نساء إيطاليا أنهنّ يلدنَ في الستّين، ويقمن بإرضاع المولود حتى فطامه. من سورة هود الآية 72: «قالت يا ويلتي أألِدُ وأنا عجوزٌ وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب». مرّة ثانية مع اليابانيّين القدماء، فهم يمتلكون اعتقادا راسخا بأنّ هناك في مكان ما «أرضا أبديّة» تتجدّد فيها باستمرار الطّاقة الحيويّة والشّباب. في الجزء الرّابع من كتاب «مانيوشو» الذي يجمع الشّعر اليابانيّ القديم في أربعين مجلّدا، نجد هذه الكلمات: «زوجتي تبدو أكثر شبابا ممّا كانت عليه في الماضي. أعتقد أنّها عاشت في أرض الأبديّة». كركوك هي أرض الأبديّة.

كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية