الحياة لحظة واحدة

مثلما يمكن اختصار الشجرة بإحدى أوراقها، لأنها تحمل جميع صفاتها، وحركة أغصانها مع الريح، والقوّة الكامنة في الجذور، كذلك يمكن اختصار سنين عمر الإنسان إلى لحظة واحدة، إذا تمكّن أن يلمس في أعماقها جوهر نفسه، وجوهر الحياة. كيفما تكُنْ ورقتك، تكن لحظتك، وهي بصمة القدر على سنين عمرك، ختمٌ لا يتغيّر ولا يمكنك استبداله أو الاعتراض عليه.
نقلوني إلى المستشفى على ظهر شاحنة مكشوفة انحدرت على سفح جبل كويستان تحت جناح الظلام. كنت أنزف من أثر الجراح التي سبّبتها قذيفة أصابت الملجأ ـ نحن في عام 1987، السنة السابعة من الحرب العراقيّة الإيرانيّة – وكان الوقت ليلا والسماء تمطر بغزارة، وشربتْ جراحي من القَطر في الطريق ما يملأ الوادي. رائحة الدماء والمطر يهطل لا يمكن أن تُنسى، لأنه ليس لها شبيه.
في المستشفى عاد إليّ وعيي شيئا فشيئا وكان الظلام في الخارج داكنا وفي المدى البعيد هدير شاحنات عسكريّة ودبابات تعبر الجبال. لم تكن المصابيح منارة بسبب التعتيم، أو بسبب تعطّل التيّار الكهربائي، وكان البرق يشتعل بين دقيقة وأخرى ويزيد الرعد من وحشة المكان. كنت أصغي كذلك إلى صمت المعركة في رأسي، ونداء الجنود الموتى الصارخ، ذابحين ومذبوحين. في عتمة الفجر البنفسجيّة اللون لمحتُ فتاة كرديّة مبلّلة الأسمال تمسك صليبا بيديها وتقبّله وتبكي. كان وجهها شاحباً وضفائرها متربة، وكانت مجروحة الكرامة مثلي، لأن الحرب قد تطال النفس وتترك البدن، أو يحدث أن يصيب العطب الاثنين. معذّبا بجراحي والواقع الذي أنا فيه كنتُ أصارع سكوتها المطبق، وهذا ما استغرق زمنا لا يُحتمل، ثم عرفتُ أنها من قرية تقع عند سفح الجبل، محتها الطائرات بالقنابل وقتلت عائلتها وأقربائها وجيرانها ونجت هي بإعجوبة، والآن هي وحيدة ولا تعرف أحدا يساعدها في دفن جثامين أخوتها الثلاثة وأختها، بالإضافة إلى أمها وأبيها وجدّتها.
نغز بكاء الفتاة قلبي وأحسستُ أن محور الأرض يصرّ ويتوقف، وكلّ شيء ينتفي أو يتجمّد؛ السحب التي ترعى فوق الوادي، والمطر سكن في الفضاء وغدت السماء مثل لوحة، ولا شيء يمكن سماعه غير عواء الرياح الذي لا معنى له، وكأن الوجود يحتاج إلى ابتسامة امرأة كي يعود إلى طبيعته.
ظلّت الفتاة تنظر الى الأرض، عيناها ثابتتان من الخذلان، وعلى خدّيها مسيل دمع، وفي وجهها آثار برد ومطر. كم طيّبٍ هو القلب البائس، كأنني في لحظة وقعتُ في حبّه! كانت عيناها يابستان حائرتان، لا لون لهما، والحزن الشديد خلط ملامحها مع بعضها، وكان في عينيها ذهول وشعور بالخطر، والرطوبة العالية أعطت الهواء في الردهة لمعانا خفيفا، ليقبع مشهد الفتاة تحت غطاء صمغيّ عمّق من شعوري بمأساتها. لا بدّ أن يتوفر في قلوبنا ما يكفي من الحبّ لكي نحبّ الحياة أكثر، والناس أكثر.
تبدو المرأة أكثر أنوثة في حالة الحزن والكرب، لكن وجه الفتاة تضاءل بسببهما وذبل مثل ورقة خريف. هناك أشياء يستشعرها الرجل دائما، وإن كان جريحا. كدتُ أغرق من خجلي لأني لا أستطيع تقديم العون لها في هذه الليلة الشتوية العاصفة، ليلة بملايين الليالي، وهي في هذا الحال. إن الواجب، بقدر ما يكون شاقاً، يهذّب النفس ويسمو بها، وعندما تسوقنا الأقدارُ رجلا أن يكون بجوار امرأة تطلب المساعدة، يتحتّمُ عليه تقديمها ليس من أجل فخر أو ادّعاء فخر، ولا من أجل الحصول على شهرة ضئيلة أو كبيرة، لكن لأن الطبيعة تطالبه بذلك. شعرتُ بتأسٍ لحالها وطفقتُ أصغي إلى نغمة ناي عالية ترتجف في الهواء مثل صوتٍ باكٍ ظلّ يتردّد في أذني لا أبالغ إن قلتُ حتى الساعة.
متى يتوقف رجع الناي الكئيب الحزين؟
هناك أشياء تدركها المعرفة ولا يمكن وصفها، وهنا تقع أهميّة الأدب الرئيسيّة؛ شرحَ ما لا يمكن قوله إلا بواسطة الشّعر أو النثر المصفّى.
الحياة لحظة واحدة، ومن طلائع سعدك أن تكون هذه حبّا أبديّا مصدره قلب نقيّ، لأن هناك من تكون لحظته حقدا أبديّا يظلّ ينهش روحه وبدنه إلى الأخير. كنتُ مستعدّا للدفاع عن الفتاة رغم عجزي بسبب إصابتي، إلى آخر رمق. يقول تولستوي: «ليس هناك سوى حدّين، واحدٍ للألم وآخر للحريّة، وهذان الحدّان يلتقيان دائما». أنا عربيّ ومسلم من أقصى جنوب البلاد، والفتاة كرديّة ومسيحيّة من الشمال. لقد وحّدتنا الفاجعة وصارت رحما مشتركا لنا، بسبب الحريّة التي يمنحها الشعور الأقصى بالعذاب، عندما يكفّ قمل الأنانيّة من النهش في الجوانح. هناك مكان للحريّة في نفس الإنسان ومكان للعبوديّة، وفي أعمق نقطة من المكان الثاني يلوح دائما ظلٌّ فرح للحريّة، يمكنه أن يعيد تنظيم العالم، وتخليصه من عذاب البؤس والتعاسة. وهذه الحريّة متأتيّة عن الشعور بأنّ جميع النفوس البشريّة متكاملة، وأنّها تتداخل بعضها في بعض. إنّ تحرّر النفس لا يتحصّل عن طريق التعب والكدّ مثل تأمين لقمة العيش، كما أنّ روح الإنسان ليست خرافة، فهي جزء من جسدنا كالأسنان في الفم، لا يمكن الاعتداء عليها دون ردّة فعل، وكانت ردّة فعلنا أنا والفتاة أنّنا كنّا نتطلّع إلى قبس من نور التحرّر كان يلوح لنا من بعيد.
الأفكار الكبيرة في حاجة إلى مشاهد عظيمة، وليس هناك أعظم من مشهد اثنين داست عليهما عجلة الحرب فهما على شفا الموت، موت الجسد بالنسبة لي، وفناء الروح بالنسبة للفتاة. كنتُ أنظرُ إليها طويلا وتمعنُ هي النظر لي، ثم رفعنا أعيننا سويّة إلى السقف، كأن واحدنا عرف الآخر وقرأ تاريخ حياته وصولا إلى السرير الذي ولدت فيه بذرته. يا للطمأنينة في الحنان، ويا للصفاء في أخوّة البشر. كانت الحريّة التي فينا، رغم حالة القهر التي نعيشها، تفكّر بدلا عنا، ولاح عناؤنا في تلك الساعة شبيها بالسعادة، وكنت أهتف في ذاتي، وتصغي الفتاة إلى كلماتي: لن يفوت الأوان أبدا، لن يفوت الأوان أبدا للبدء من جديد، لن يفوت الأوان أبدا ليكون المرءُ سعيدا، مدركا الفرح العظيم في نظام الكون، والإحساس بأنه جزء لا يتجزّأ من هذا النظام، والأخوّة بين البشر يمكنها أن تعيد بناء ما تهدّم. كنّا نكتشف حقيقة أساسيّة في الحياة بفضل الشعور بالحريّة هذا. نقرأ في الإنجيل: «من يريد أن يخلّص نفسه يهلكها» ويمكننا بسهولة استبدال الفعل «يخلّص» بـ»يحرّر». لقد توصّل تولستوي إلى نتائج مشابهة لما بلغه كلام يسوع في الإنجيل، والذي مصدره روح القدس.
لا يكفي التفكير بالحريّة ليكون المرء حرّا، ألا أن الشعور بالانعتاق من الذات غدا في تلك الساعة بالنسبة لي وللفتاة فعلا راهنا وغنيّا. كم هي عظيمة مشاعرنا حين نراها لدى الآخر، والحلم الذي لا يتغذّى بحلم آخر يتبدّد. بين الحياة والحلم هنالك شيء ثالث نحاول أن نحزره؛ الحياة لحظة واحدة، تتمدّد هذه اللحظة في ذات المرء أفقيّا وشاقوليّا، وتهبه عندما تكون حبّا أبديا في ساعات اليأس
والعذاب مؤونة للحياة ما يتعذّر نفاده. الجميع يكسب هذه اللحظة في حياته، فهي سرّها وطعمها ومعناها، لكن هناك من لا تظهر له لحظته إلا في ما وراء النوم والحلم، أو بعد الموت…

كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية