«جِبنا للولد بيانو»… حين نعلّق أصواتنا على جدران المدن

حجم الخط
0

ربما لا نحتاج لاستحضار الكثير من المرجِعيّات لتأصيل فكرة أن «الخطاب الثقافي الذي يقع خارج مدارات الفعل هو خطاب عاجز» قدر احتياجنا لخلق مراجعات حول سؤال كيف يتشكّل الأثر الناتج عن الخطاب، وما هي الأنساق التي تعمل في تَشكيل صِيَغ التأثير الحقيقي داخل الخطاب نفسه، تأتي مُعاينة الألبوم الموسيقي «جِبنا للولد بيانو» للفلسطينيين مجد كيّال وفرج سليمان، ضمن محاولة قراءة صيغ تأثير وتكوينات الخطاب في الواقع الفلسطيني المتشابك.
تنهض الأهمّية الكبرى لهذه التجربة الموسيقية بوصفها خطاباً متشكلاً داخل الثقافة؛ أيّ الثقافة الفلسطينية نفسها، فهي تجربة لا تقوم على الاسترداد والتذكر، بقدر ما تنهض كنتيجة واعية لكل التداعيات التي يخلقها فعل الاشتباك مع اليومي والمَعيش، ما يحقق حالة من الثراء في النسيج الداخلي للتجربة، جَرّاء امتلاكها المقدرة على عكس الكثير من المُضمر والهامشي، فتبدو فعلاً أقرب للمكاشفة وقيمةً فاعلة في علاقة الفلسطيني مع وجوده، وفهمه ضمن رؤية تدرك «أن الحرية لا يمكن أن تكون شيئاً يأتي من الخارج».

مجد كيال

يُشكّل النفي أحد مُحددات الوجود الفلسطيني برمته، ما يَنال من صِيَغِه الخطابية في التعبير عن ذاته، فيحيلها لخطابات شبه مُغلقة وعالقة في التعبير عن تساؤلات باتت متأخرة وفاقدة لأدواتها في مواجهة فعل الاقتلاع المستمر الذي يخلق أنساقاً متطرفة لموضعة الفلسطيني مع وجوده، بالتالي مع هويته. يقع خطاب المنفى في أحد مستوياته في دائرة المُتَخيّل، مما يُشكل انتزاعاً لفاعليته تجاه التاريخ بوصفه تجربة إنسانية تختزل الماضي والحاضر، وما يتحرك بينهما من قيمٍ تُشَكِّل الهوية، فلا جرم أن تعكس هذه الخطابات صورة أشبه بالضبابية في ما يتعلق بمسعاها في إرساء علاقة تضبط الإنسان مع غاياته ورؤيته، نظير هذا تبرز الأهمية الثقافية لإبراز تجربة «جبنا للولد بيانو» التي نعاين فيها تحرر الخطاب من ذلك الإشكال النسقي في رواية تاريخه وسَرديّته، حيث يتحرر الفلسطيني من نموذجه الاستعاري الذي يُذكّر بمنحىً ما بأبطال الأساطير والأوطان الضائعة، والآلهة التي لا تنزف إلا على الورق. ربما يحقق استحضار أفكار ميخائيل باختين حول رفضه فكرة النظرية شيئاً من المقاربة في رصد العلاقة التي تُحوّل الأفكار والخطابات المُغرقة في التنظير إلى أشياء مجردة ومفرغة. يأخذ المكان في الألبوم الموسيقي حيزاً شديد الحضور والكثافة، حيث تتحرك الأمكنة والأسماء والقصص في حيّزٍ ينجح في استحضار الإنسان كجزء من هذه الأمكنة وذاكرتها، فلا تبدو حياة الفلسطيني متوقفةً على حدود معينة من اللغة والتاريخ، ولا نُطالع البطولة المجروحة بالغياب، بقدر ما نلمح وعي أبطالٍ يعرفون أن «البيوت تموت إذا غاب سكانها» ما يجعل الخطاب قادراً على نقل الوعي المجرد بالمكان إلى وعي بتمثيلاته، تحقق أغنية « بخطرلي إشتقلك» تجسيداً قوياً لهذا الوعي، فلا تبدو كلمات مثل (الصحون والسُفرة والزيت) مجرد توصيفات لما يشكل اليومي، بقدر ما تحضر كتجسيد للذاكرة والإنسان. في إطار الوعي ذاته تتحرك موسيقى الأغنية، حيث تتكون مقدمة الأغنية الموسيقية من دندنة صوت بشري مع صولو بيانو فقط، ما يضفي فضاءً إنسانياً على الموسيقى ذاتها، ويحررها من أنماطها الكنائية، ربما نستطيع أن نشرح وعي الخطاب بذاته في هذا الإطار بتصور الفرق بين لغة تتحدث عن الأشياء وأخرى تتيح للأشياء أن تتحدث عن نفسها. في أغنية «عربسرائيل» ينهض العنوان على عدة مستويات لا تفتقر للثراء الدلالي، حيث تُشكّل السخرية من قبول الاسم وتداوله – وهي تسمية تحمل الكثير من الوهم في وصف الفلسطينيين الذين ما زالوا يسكنون مدنهم المحتلة منذ سنة 1948 – حيزاً من إثبات التفوق الذي يتقصد إحباط مقولة النفي والاحتلال، ثم تحضر المقدمة الموسيقية التي تمتلئ بأدوات ذات طابع تراثي في إطار تأصيل الهوية والارتباط بالمكان كتأكيد مضاعف على فكرة السخرية والتجاوز، لاسيما أن المشروع الكلي لفرج سليمان، كما الألبوم ذاته لا يتمحور حول الموسيقى التراثية. يتحرك النسق النغمي في الأغنية ذاتها بترددات مرتفعة وسريعة نستحضر من خلالها مقولات دانيال بارنبويم، حول طبيعة الصوت وتشكيلاته الدلالية؛ حيث يرى «أن الموسيقى تتلاشى عندما تكون بطيئة جداً» ربما يقودنا هذا الفهم لخلق علاقة بين فاعلية وشرعية الخطاب ومدى حِدّة انعكاسه أو تمظهره؛ لن نستطيع مثلا عكس تصور واضح لسرديةٍ قد تلاشت، أو مرويّةٍ ممزقة، سيبدو هذا استرجاعاً لصور ضبابية وغائبة، فالحياة الحقيقية لا تقوم على الاسترداد.
في حديث موازٍ يَنظر إدوارد سعيد للنص على أنه «سلسلة من القرارات التي اتخذها المؤلف، حيث تكون مُحصلتها ما وصل إلينا، وحتى نقرأها جيدا لا بد من أن نستوعب العملية التي أدت إلى وجودها، وهذه عملية معقدة جداً، لأنها مرتبطة بسلسلة من الأحاسيس الغريزية وبسلسلة من التخمينات المثقفة بالأسلوب» يعكس هذا الفهم الأهمّية الناتجة عن وعي الخطاب بذاته وانعكاس هذا على أصالته، ونستطيع من خلاله قراءة مستويات بالغة الحساسية حول فكرة الأصالة والتأثير، لذلك لن تبدو النغمة المرتفعة نظيراً لفكرة الاسترداد فقط، بمقدار ما هي باعث على شيء من الثقة والإدراك، كما ستبدو المقدرة على تجميع العديد من العناصر في سياق سردي واحد نظيراً لفكرة الأصالة؛ في الأوركسترا مثلاً يحدث هذا كثيراً؛ حيث يشكل التآلف النغمي (الهارموني) انعكاساً لقصدية الخطاب الموسيقي ومدى وضوحه وتماسكه، سيبدو تماسكه نظيراً لتماسك المروية التي يتآلف داخلها الكثير من التفاصيل المتناثرة، لكنها تستطيع في النهاية أن تسير في اتجاه واحد.
تبرز اللغة المحكية (اللهجة) في الأغنية ذاتها – كما سائر الألبوم ـ كنسق خطابي مقاوم، وكتمثيل أركيولوجي لوجود الفلسطيني، كما تحيلنا لأفكار لودفيغ فيتجنشتاين وحديثه عن الألعاب اللغوية والرموز التي لا تتشكل إلا داخل الثقافة، كما أفكار لويس ألتوسير وهومي بابا، في حديثهما حول الرطانات/اللهجات كنسق يعكس ويشكل مفهوم الأمة، كما تجدر الإشارة لأسلوب فرج سليمان في غناء هذه الكلمات، حيث جاء صوته مُتخففاً من الصرامة الأدائية، ناقلاً الأداء لمساحة تتراوح بين الغنائي والسردي، ما جعل الرؤية الموسيقية ذاتها نظيراً لفكرة اللهجة، وأضفى على التجربة كلها تفوقاً لقيم الوجود على البلاغة. يعرض إدوارد سعيد في كتابه «خارج المكان» مشقّات أن يكون المرء بلا وطن، أو مكانِ يعود إليه، قائلاً، «لم يكن لي أن أستوعب كامل أبعاد النكبة التي حلت بهم، ولم أستطع تجميع الشذرات السردية المختلفة لأكوّن منها رواية كاملة لما جرى فعلاً في فلسطين» ضمن هذا الاستحضار تبرز أهمية الخطاب الذي تُشكّله تجربة «جبنا للولد بيانو» في استحضار الذات الفلسطينية، فهي تجربة لا تخترع أمكنتها في حدود سرديات ممزقة، ولا تتحدث عن مصائر أبطالها وكأنهم «رجال في الشمس» كما أنها تحمل تلك الدلالة القوية المتعلقة بالمقدرة على امتلاك اللغة/السردية والتاريخ، فمن يحتل الأمكنة لن يمتلك الكثير ليقوله حولها، ولن يمتلك ذلك السحر الذي يُحيل كل ما يختبئ في الظلال إلى معنىً أو حكاية.

كاتب أردني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية