لودفيغ فيتغنشتاين: الموسيقى وما بعد اللغة

حجم الخط
3

تبدو أبحاث الفيلسوف لودفيغ فيتغنشتاين اللغوية ذات صلة عميقة بالموسيقى، لما يتملك هذه الأبحاث من نمط تأملي متعلق بجوهرية وطريقة صياغة المعنى، واشتغالات اللغة الداخلية، ولِما خَلصت إليه هذه الأبحاث من تقرير عجز اللغة عن اكتناه حقيقة المعنى أو تَمثّله بالألفاظ أو الكلمات.
يبني فيتغنشتاين فلسفته في أشد المناطق التباساً على المستوى التكويني، حيث يتقصد تقويض كل محاولات اللغة للوصول إلى معنى قادر على إحداث التجربة والقبض على إحساسها الداخلي، كما أنه يَحثُ على الانتباه إلى الطُرق الكثيرة التي تستطيع اللغة من خلالها أن تكون مُضلِلة وبلا معنى، من هنا نستطيع خلق علاقة مُفارقة بين ضعف اللغة دلالياً – لاحتوائها قدراً كبيراً من الكلمات الزائفة أو المُضلِلة – وتحرر الموسيقى من هذا الضعف، حيث تتموضع الموسيقى كلغة أكثر تحرراً على المستوى البنيوي والسيميائي، نلمح ضمن هذه المفارقة أن الموسيقى تتشكل على تخوم اللغة وفي أشد مناطقها تجرداً، حيث أنها تبدأ حين تنتهي اللغة وتضطلع بما تعجزعن تشكيله أو مُعاينته.
يَعرض فيتغنشتاين – في فترته الأولى – نظريته الصُورية مُتبنياً مفهوم الأفلاطونية المنطقية، ومتأثراً بأبحاث دي سوسير السيميائية، حيث يَعتبر أن (المفهوم) ما هو إلا ظاهرة صوتية، تتمثل برمز لغوي مُحدد، وأن هذا الرمز يُستَحضر ويتشكل في الوعي باعتباره صورة ذهنية، أي أن اللغة تعجز في اختبار وتحديد جوهر (المفهوم) وتكتفي بإنشاء صور ذهنية مُحددة مسبقاً داخل النظام «ليس للرمز حياة خارج النظام» بينما يظل جوهر المعنى وحقيقته خارج هذا النطاق؛ في ما يُسميه فريدريك فريغه الكون الثالث، أو الحيّز الثالث، تأتي هذه النظرية لتؤكد تموضع الموسيقى في إطارٍ أكثر منهجية وفاعلية على المستوى الدلالي، فعلى الرغم من تكوينها البنيوي كظاهرة صوتية، إلا أنها ليست مُرتهنة لصور ذهنية مُحددة أو بالغة التنميط كما يحصل مع اللغة، وانطلاقاً من الرؤية ذاتها يؤكد فيتغنشتاين أن اللغة تنهمك في توصيف ما لا يمكن وصفه، أو الإحاطة بجوهره – كونه لا يملك مرجعية صُورية أو ذهنية واضحة – كالقضايا الميتافيزيقية والجمالية، نستطيع انطلاقاً من هذه الرؤية خلق تصور أكثر منهجية عن طريقة اشتغال الموسيقى دلالياً، حيث يمكننا أن ننظر للصور التي تستحضرها الموسيقى باعتبارها أنساقاً لاشعورية، كما يمكننا توصيف اللاشعور في أحد جوانبه بأنه اللغة المُتشكلة ضمن نطاق غير مُقيد مفاهيمياً، ويبدو أن هذا النطاق هو الحيز الذي تتحرك فيه الموسيقى مُحدثة أكبر قدر من التأثير.

إن الشكل الأعظم للموسيقى هو الذي يضمن عدم خلق صور ومرجعيات مُحددة سلفاً ضمن النسق الثقافي؛ وضمن هذه الرؤية المُحددة نستطيع أن نعاين الكثير من التورطات الشكلانية التي تقع الموسيقى أسيرة لها، كتضمين اللغة والحركة والاستعراض والإيحاءات السيميائية والحسية المباشرة، وهذه قيم تكاد لا تخلو الموسيقى المعاصرة منها على مستوى التكوين والخطاب.

في أبحاثة المتقدمة يذهب فيتغنشتاين لإحاطة اللغة بالمزيد من الإحباط، ليتحدث عن سياقِيّة اللغة وطبيعة النظام الذي يقيدها سوسيولوجياً، حيث أن جملة أو إيماءة ما، لن تُفهم خارج نظامها ودلالاتها الاجتماعية، فاللغة بالنسبة له «عمل في طور الإنجاز» يشرح فيتغنشتاين هذا بطرحه لمقولة «إن معاني الكلمات أكثر بكثير من عددها» حيث أن الكلمات ومعانيها تشترك في ما يُشبه اللعبة السياقية التي قد تصل باللغة لحدٍ بالغ التضليل والإبهام، في نطاق هذا التكوين تُستحضر الموسيقى كلغة مُتعالية على السياق، وقد يقودنا هذا لخلق أفق نقدي مُتعلق بمدى جودة وجدية الموسيقى كحالة فنية، حيث نستطيع القول إن الشكل الأعظم للموسيقى هو الذي يضمن عدم خلق صور ومرجعيات مُحددة سلفاً ضمن النسق الثقافي؛ وضمن هذه الرؤية المُحددة نستطيع أن نعاين الكثير من التورطات الشكلانية التي تقع الموسيقى أسيرة لها، كتضمين اللغة والحركة والاستعراض والإيحاءات السيميائية والحسية المباشرة، وهذه قيم تكاد لا تخلو الموسيقى المعاصرة منها على مستوى التكوين والخطاب.  حيث تَحرص هذه التجارب على استبدال حيّز التأمل المرتبط بجوهرية الإنسان، بسردية مُطردة من الإشارات والرموز المباشرة، لتنحى في اتجاه تورطات اللغة نفسها، حين تحاول خلق ما يصفه فيتغنشتاين «بتجربة الرضى الجمالي المتحقق داخل الثقافة فقط» ولتقع أسيرة الاعتقاد المضلل بأن «المعنى هو مجرد مرافق للكلمة» حيث سيكون هذا كافياً لتحفيز المزيد من الازدراء للغة والمعنى على حدٍ سواء.

في علاقة أخرى لشرح الارتباط بين دراسات فيتغنشتاين اللغوية والموسيقى، نستطيع تأمل السياقات السيكولوجية المحيطة بحياة فيتغنشتاين نفسه، وكيف أدت هذه السياقات إلى تمكين مزاج متشائم تجاه اللغة وإمكانياتها المُتعلقة بالقبض على المعنى، تمثل حضور هذا المزاج بتركه للفلسفة والكتابة المنهجية أكثر من مرة، وبحرصه على الوجود في نطاقات عملٍ خَطرة كالصفوف الأمامية للحروب وفرق الإنقاذ، ولحظات العزلة الدائمة وميله المستمر لتبنى فكرة الرجل الديني أو العادي، عدا عن تشكيلاته القلقة على المستوى الاجتماعي، والمرتبطة بانتحار أخويه، لقد بدت اللغة بالنسبة له في تكوينها الكلي فعلاً بلا طائل، وسياقاً لتكريس المزيد من حالات الاغتراب، هذا المنحى المضطرب سيكولوجياً ولَّدَ رغبة حقيقية لديه بضرورة الالتجاء لأفقٍ أكثر صفاءً من اللغة؛ قد يشرح هذا سر تعلقه بالموسيقى، وكيفيّة أن أبحاثه في جوهرها إنما هي عملية بحث دائمة في طبيعة الموسيقى بوصفها اللغة المشتهاة والمُتحررة من كل القيود والسياقات الشكلانيّة، وربما يشرح أيضاً مقدرة الموسيقى على خلق نسق أكثر ارتباطاً وقرباً للإنسان بوصفه كائناً لا يفتقر للمزيد من التعقيد والتداخل، وربما يشرح كل هذا طبيعة التجاء فيتغنشتاين في آخر حياته لقبول حقيقة أن الألاعيب التي تطفو على سطح اللغة، أمر ضروري ولا مفر منه كالحياة نفسها، وأن فعل البحث عن المعنى هو في جوهره فعل خلق واكتشاف للحياة، إن لم يكن هو الحياة ذاتها.

كاتب أردني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول مؤيد العلي:

    مقالة رائعة أستاذ نضال . هذا العظيم Wittgenstein لا أعرف كيف نجا من الانتحار المبكر بعد ان انتحر ثلاثة اخوة له . أتمنى على الجامعات العربية ان تضع نظرياته اللغوية في مناهجها التعليمية .

    هذه ملاحظة ل الناشر .. ارجو منك لطفا ان ترسل ايميلي الخاص الى استاذ نضال حيث اتمنى ان اتواصل معه حول مواضيع مثل هذه . انا طبيب عراقي اعيش في نيوزلنده ولدي اهتمام في الادب و الفلسفة
    اكون ممنون جدا [email protected]

  2. يقول حنان درويش - القاهرة:

    يا الله… أروع وأجمل وأعمق مقال قرأته في زاوية النقد الموسيقي من هذا المنبر الصحافي بلا منازع – برافو برافو عليك نضال

  3. يقول المتولية بنت صالح المرياوي:

    وها نحن أيضا أمام نص استثنائي من نوعه، نحن فعلا بأمس الجاحة إلى كتابات متميزة من هذا المستوى، كل التقدير والشكر موصول إلى نضال جمهور وإلى الأمام في هذه الإبداعات الفريدة في مجال النقد الموسيقي، لقد حان وقت الإبداع الحقيقي بالفعل

إشترك في قائمتنا البريدية