ياسر عبد الرحمن… عندما تبدو الزغاريد جُزءاً من النص

حجم الخط
0

يبدو فعل التلقي بأنساقه المُبهمة والضبابية، فعلاً شديد التماهي مع فكرة الخلق نفسها، وانعكاساً لتكوينها وللأسئلةِ التي تتملكها، ربما نستطيع من هذا التصور التأسيس لسؤالٍ حول العلاقة بين أصالة وفردانية العمل الفني مع طبيعة تلقيه وتَمَثله.
تتمثل فردانية الإبداع بمستويات عِدّة وبأنساق سياقيّة كثيرة، لكن يمكننا القول إن ثمة مستويان يمثلان ركيزة أساسية في بِنيته الداخلية، تتمركز الأولى حول مفهوم الابتكار المتمثل بتشييد رؤى جديدة وخلق انزياحات جوهرية في طريقة النظر إلى الأشياء والمفاهيم، وفي خلخلة تموضعها كرؤية مُحكمة ومُنجزة، في حين يتمثل الثاني بالحفر داخل المفهوم نفسه، وإعادة إنتاجه وتفسيره ضمن رؤية تتقصد الحفاظ على روحيّته الكُلية، بالتضافر مع المحاولات الدائمة لاجتراح مستويات جديدة من التأويل.
تبدو موسيقى ياسر عبد الرحمن ضمن ما يتملكها من تكثيفات دلالية أقرب للمستوى الثاني، حيث تَجنح نحو خلق روح تأملية لما هو موجود؛ فالإحساس بالأمكنة وأصواتها يتجاوز فعل المعاينة العابرة ويذهب باتجاه القبض على روحها ورصد ما يختبئ خلفها من دلالات شديدة الحضور والكثافة، في نمط أقرب ما يكون للرهانات الفينومينولوجيّة التي تبتغي فهم نمط حضورالإنسان في العالم. ترتكن مقولة الإبداع لقيمة مفادها «إظهار كل ما هو غير مرئي»، من هنا تبرز أهمية الإخلاص الذي تتقصده موسيقى ياسر عبد الرحمن، في الكشف عن المخبوء داخل النسيج الجمالي والثقافي المصري، وربما تجدر الإشارة للتعقيدات والكثافة السيميائية التي ينطوي عليها هذا النسيج، وبالتالي حجم الحساسية التي يستوجب امتلاكها للتعبير عنه، وإعادة ابتكاره والكشف عن أنساقه المُضمرة.
ربما يمكننا القول إن أحد تمثيلات الفرادة في موسيقى ياسر عبد الرحمن، أنها موسيقى تاريخية؛ من ناحية ارتباطاتها الوثيقة بمدلولات المكان، وما يكتنفهُ من تداخلات، أو على الأقل هي موسيقى لا تتظاهر بأن التاريخ غير مهم؛ كما يحصل في أغلب الإنتاجات الموسيقية الحديثة؛ إذ تتبنى الأخيرة مفاهيم جمالية براغماتية، حيث تتنصل من التعقيدات المتعلقة بالذات والهوية وارتباطاتها بالمكان وتكثيفاته السوسيولوجية العميقة، بمعنى آخر هي إنتاجات لا تُقدم أفكارا حقيقية حول الذات، ما يجعلها تبدو نظيراً لفكرة المنفى، وفعلاً باعثاً على المزيد من الاغتراب ومنجزاً لا يمتلك ما يقوله.
في سياقات مُقاربة يستخدم ثيودور أدورنو مفهوم النسيج للتعبيرعن التكثيفات الدلالية التي تنطوي داخل النص الإبداعي، ربما يضفي التأمل بهذا المفهوم إلى خلق مقاربات لطبيعة اللغة التي تتشكل داخل النص الموسيقي، وإلى أي حد تتناظر هذه اللغة مع الكتابة، قد تبدو أعمال ياسر عبد الرحمن، أعمالا تحتكم إلى منهجية لغوية أو تصويرية للوهلة الأولى – بوصف الكثير منها موسيقى تصويرية لأعمال درامية؛ بمعنى أنها قد تبدو في كُليّتها ترجمةً موسيقية لسياق لغوي مُحدد؛ وفق ريتشارد فاغنر ونظرائه في الرأي مثل فريدريك نيتشه وجورج ويلهلم وهيغل «الموسيقى لا تستطيع أن تذهب أبعد من اللغة»، بيد أن مُنجز ياسر عبد الرحمن يشي بما هو أبعد؛ حيث يتأتى لنا أن نَصِف الحالة التصويرية التي تكتنف موسيقاه بأنها حالة مُتجاوِزة، فالمشهدية التي تُحيط بروح البناء الكلي للموسيقى لا تستعير من وضوح اللغة التي قد تتمثل بالقصة أو الحكاية بمقدار ما تتناظر مع الجانب الكنائي في اللغة، نستطيع أن نتلمس روح هذا بالمشهدية الصارمة والمباشرة التي تظلل أعمال مؤلفين مثل، ريتشارد فاغنر، مقابل المشهدية التي تتبناها أعمال مؤلفين مثل بيتهوفن أو أرنولد شونبيرغ، حيث يتحرك البناء الموسيقى والتصويري في فلك يحوزه الغموض والتناقض، حيث تُقطع تلك الصلة التتابعية التي تخلقها اللغة بأنماطها العقلية، لهذا قد تبدو أبحاث وآراء غوته في هذا الشأن أكثر عمقاً، إذ يذهب لتحديد أن الموسيقى ليست لغة إنسانية ذاتية، بل وسيلة مُطلقة للتناظر مع عالم أعلى من النظام والجمال.
قد يَحمل مفهوم النسيج الموسيقي أنماطاً باعثة على التأمل؛ إذ يحيلنا لأفكار إدوارد سعيد حول الأصالة، حيث اعتبر أنّه من المضلل فعلاً أن نعتقد أن الأصالة مُتعلقةٌ فقط بالماضي، بل إن فيها ما هو مُتصل بالحاضر، قد يخلق هذا مقاربة لفض العلاقة المُخاتلة التي تربط التراث بالماضي، كما يُفسر أن مُنجز ياسر عبد الرحمن الموسيقي لا يركن لرؤية تراثية جامدة بقدر ما يُمثل نمطاً من الثراء القادر على إعادة الإبتكار، بالإضافة إلى المقدرة على استنهاض أنساق شعورية تتصل بالتجربة وتستحضرها – ونعني التجربة بوصفها أقصى ما يمكن أن يتحقق كخبرة جَرّاء تلقي كل ما هو جمالي – يتحقق هذا من خلال تعرية كل ما هو شكلاني ومُكرر وبلا قيمة، ومن هنا تبرز أهمية مثل هذه المُنجزات لما تُضفيه من عمق على آلية التلقي وعلى طريقة فهم أنفسنا كما العالم. ربما يقودنا استحضار نجيب محفوظ كنموذج إلى إيضاح حجم الأزمة والمفارقة التي تُحدثها طبيعة إدراكنا لمفاهيم كالماضي والتراث والهوية؛ حيث يُنظر لنجيب محفوظ ضمن قطاع كبير من المبدعين بوصفه أسير لحظة ماضية، وبأنه لا يقول الكثير، بيد أن مُنجزه قد يُعدّ الأهم في الاضطلاع بمهمّة تفكيك النسيج المصري وتحليل مضامينه الداخلية، بشكلٍ ما يحدثُ هذا مع مُنجز ياسر عبد الرحمن، حيث يُمكننا تعريف المشروعين بأنهما منجزان لا ينجحان بالعمل داخل المجتمع فحسب، بل يُشكلانه ويشرحانه.
ثمّة دائماً ما هو غامض في الموسيقى، لكنه في الوقت ذاته غموضٌ يَعِد بالكثير من المعاني، يذهب إدوارد سعيد في هذا الإطار لإقرار أن الموسيقى أكثر خطراً من اللغة لأنها قادرة على تحفيز نوع معين من اللاعقلانية؛ لأنها تستطيع إحداث أثر فوري وقوي ومباشر، من دون الاضطرار لفهمها كلغة، لو انحرفنا بما سماه سعيد «لا عقلاني» وقاربناه أكثر لمفهوم اللاشعور؛ من أجل رصد العلاقة الغامضة بين الأثر الذي تُحدثه الموسيقى مع الإدراك، لوجدنا أن فاعلية موسيقى ياسر عبد الرحمن تكمن في مقدرتها العميقة على استنهاض كل أنساق اللاشعورالمرتبطة بالمكان، إن التأمل بهذا الشأن يتطلب خلق انزياحات جوهرية في التفكير، كأن نعتبر أن المكان هو أحد أنساق اللاشعور، لكنه نسق يشتغل ويمارس تأثيره من الخارج، حيث تتركُ الأمكنة في ذواتنا إشارات مُبهمة، يقود تراكمها إلى خلق علاقة حادة تجاه المكان، لكنها غامضة وغير متعيّنة، بمعنى أن المكان يمارس حضوره في اللاشعور بشكل غير مُعلن وأن ثمة قيمة جمالية تتشكل خلف ما يُعّد عابراً وهامشيّا، ربما يشرح هذا كيف تندفع كل هذا العاطفة بقوة إلى السطح بمجرد الاستماع لموسيقى ياسر عبد الرحمن، وكيف تبدو الأجراس والمزامير والأحصنة والزغاريد جزءاً من النص.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية