«جميعهم يتكلمون من فمي» مجموعة القاص المغربي أنيس الرافعي: دائرية الزمن وأشكال التحوّل والتجاوز

عادل ضرغام
حجم الخط
0

في مجموعته الأخيرة «جميعهم يتكلمون من فمي- بحث قصصي في الشامانية الجديدة» يقدم القاص المغربي أنيس الرافعي تصورا واسعا عن الشامانية الجديدة، من خلال الاشتغال على إطارها القديم المحدد بمكان أو مجموعة أماكن، أو ارتباطها بشعب أو عرق محدد، فيجعلها حالة وجودية حتمية مرتبطة بالبشر في أي مكان وأي زمان. فالتعاظم على المحدودية وثقل الوجود الإنساني المادي منطلق أساسي من منطلقات الوجود البشري، وفي سبيل ذلك يخلق أساليبه في تجاوز هذه المحدودية وهذا الثقل، للتغلب على التراتب الزمني، فنراه يتمدد إلى اللحظة الماضية راجعا إلى لحظات لم يلمسها، ويستبقها لتلمس مستقبلا لم يحدث بعد. فالبطل في كل القصص- حتى لو تمّ تحديد أسماء- لا يبتعد عن النسق الوجودي الجمعي، فالبطل أو الفرد يمثل البشري في معناه العميق للوصول إلى الغيبي أو الوجودي.
في هذا الكتاب هناك مؤشران هاديان يسيجان للقارئ عملية القراءة والتلقي، يتمثل المؤشر الأول في العنوان الجانبي (الشامانية الجديدة) الذي يشير إلى توازيات معاصرة للماضي، وإلى محاولات التجاوز والتعاظم البشري، والآخر يتمثل في تصديرات القصص، فكل هذه التصديرات تؤشر للمدخل القرائي ولعملية التلقي، فكأنها مؤطر للرؤية وتوجيه لها في معاينة جزئية محددة لخلق أفق التأويل. فالشامانية في هذا الكتاب لا تقف عند حدود وجودها القديم في ارتباطها بالأفق السحري، فهي في الكتاب مراقبة جادة لصور عديدة من هذا الالتحام، ذلك الالتحام الذي يؤسس مدارا للتحوّل والإنجاز اللافت، خاصة حين نتوقف عند بعض المثقفين، وتحوّلهم من صيغة إلى صيغة، صيغة المشابهة في المنجز مع الآخرين، وصيغة التجاوز اللافت من خلال تنبههم إلى اختراعات فكرية تفوق عمرهم.

أشكال التحوّل والتجاوز

يوسّع الرافعي مقاربته للشامانية الجديدة، فهي بالضرورة ليست مرتبطة بالتوحد مع مساحات وأنساق العالم الفوقي، في قصص المجموعة ثمة محاولة لتوليد آفاق جديدة، تتعلّق فحواها بالمغايرة والتحوّل من دلالة النواة إلى دلالة أكثر تماسكا أقرب لتلق عام تم الاتفاق حوله. منها أن يتمّ ترهين شخص –ا نطلاقا من قدر منجزه – وفق رؤية جماعية. فالتحوّل الشاماني هنا في الحكاية عن كيليطو ليس تحوّلا للغيبي المعهود، فهو غيبي في نتائجه، لأنه ينطوي على تحوّل معرفي أشبه بالدبيب. فهناك مقاربة معهودة للسرديات يقوم بها الجميع، ويقفون عند حدودها، لكن كيليطو نقل المقاربة – ونقل صورته الذاتية أيضا – إلى محيط جديد يرتبط بالتأويل الخاص، فتحوّلت المقاربة – وكذلك ذاته – إلى واقع مغاير، جعله وصورته أقرب إلى الأيقونة التي تتعاظم على البداية. كيليطو هنا- وكذلك بورخيس في التصدير- إشارة إلى التجاوز والتحوّل اللذين يغيبان النواة الواقعية الأولى. فكلاهما في ظل هذا التصور تجل مغاير ولده هوس المعرفة والنمذجة، فقد ارتفع كيليطو وبورخيس عن الواقع، وتحوّلا إلى فكرة متحركة من زمن إلى زمن، قابلة للتوالد والتجدد في آفاق غير محدودة، مرتبطة بالأسئلة الوجودية المشدودة إلى قوة الخيالي وابتعاده عن الواقعي المعهود، تقول القصة على لسان القضاة: (إن المدعو كيليطو لا وجود له في الواقع على الاطلاق، وأن سمته الشائع بهذا الشكل مجرد ابتكار ساخر من القضاة الخمسة الذين تسلّوا طيلة عقود على الأغلب بإيعاز من الإدمان المفرط).
فتحويل الشخص إلى فكرة انتصار على المحدودية، خاصة في ظل تغييب الواقعي للشخص وإنكاره، وحضور سطوة صورة المتخيل الباقية والممتدة التي تمثل تعاظما على الزمن العادي المعهود، ويتكرر النسق ذاته في قصته مع محمد شكري، فإنكاره للواقعي وهروبه منه ليس إلا إبقاء للمتخيل، وللفكرة التأويلية التي تتعاظم على الزمن.
الأثر الشاماني في تجلياته الجديدة التي تلحّ عليها القصص، يتمثل في هذا الإحساس المتجاوز للزمن بالأبدية والنشوة، لأن هذا الإحساس يوقف الزمن التراتبي، ويجعل الحكواتي والمستمعين والمتفرجين يؤسسون اتصالهم مع لحظات سابقة موغلة في القدم خارج التراتب الزمني، فيتحوّل الزمن إلى زمن دائري أبدي لا بداية له أو نهاية. لكن القصص تقدم غالبا إشارات للكشف عن بداية التحوّل ونهايته، فالتجربة في معظم القصص جزئية، فهي لا تعدو أن تكون خروجا أو تجاوزا جزئيا. قصة (الحصوات الملساء) تشير إلى بداية التحوّل من خلال إشارة كاشفة إلى الجانب المعاكس لاتجاه عقارب الساعة، للتدليل على السير خارج خط الزمن الطبيعي التراتبي، وفي نهاية القصة تشير إلى العودة إلى الواقعي من خلال إلماحها إلى الجهة اليسرى في اتجاه عقارب الساعة في دلالتها عن العودة إلى الزمن الطبيعي، وللإشارة إلى أن ما بينهما يمثل خروجا مؤقتا واتصالا مع أفق متعال.
التجاوز أو التحوّل في كل ما سبق يرتبط بالمغايرة أو الإضافة داخل حدود المكان من خلال صور الذات قبل وبعد المرور بحالة التوحّد والتحوّل، ولكن في نماذج أخرى من سرديات هذا الكتاب يأتي الرصد لأشكال التجاوز والتحوّل الشامانية مرتبطا بالحركة والانتقال في المكان لإسدال نوع من التواصل مع سياق مغاير. ففي قصة (الويكفيلدية) ليس هناك سرد متنام لحال واحدة، ولكنّ هناك صورا تتناسل من خلال آلية التناص لرصد حالات متشابهة ومتباينة، تتوالد من بعضها للإسهام في صنع كينونة مغايرة مع كل صورة. ففي كل صورة هناك حركة في المكان بعيدا عن مجال اتصالها المستمر، وهناك بتر لنسق سابق، واستيلاد لنسق جديد.
في كل الصور المسرود عنها في النص هناك زحزحة من ديمومة وثبات إلى سياق مغاير، تقوم هذه الزحزحة على البتر والاتصال، فالشامانية – وهذا وجه من وجوهها الجديدة – قائمة على الحركة، فالصور الأربعة من القصص بالرغم من اختلافها في المنطلق والتوجه والتأويل والأسئلة تظل ملتحمة بهذه الفكرة داخلة في نسق الحركة، فالأولى للكاتب ناثانيال هاوثورن قصة البطل أو السيد، والثانية للكاتب إدوادو بيرتي تمثل قصة الزوجة أو السيدة، والثالثة مرتبطة بالرؤية الإخراجية للمخرج روبن سيكورد، والأخيرة لأنيس الرافعي.
في الكتاب طرق عديدة لإحداث التحوّل والتجاوز من الواقعي إلى المتخيل، لأن المتخيل هدم لكل تراتب، ودوره مهم في إدراك ما لا يدرك، وفي الانتقال من سياق إلى سياق، منها فعل الكتابة نفسه، لأنها فاعلة في تذويب الحدود بين العالمين، ويصبح لكل عالم منهما الدرجة نفسها من المصداقية والموثوقية كما في قصة (القرص الحجري).

داخل الزمن وخارجه

القارئ للمجموعة يدرك أنه في معظم القصص هناك شخصيات ذات وجود ثنائي، فهي داخل الزمن التراتبي الواقعي وخارجه في الآن ذاته، لأنها بتجذرها في الزمن الواقعي تعطي مصداقية للحدث ولفعل التجاوز أو التحوّل ذاته، ووجودها خارج الزمن أو ما يمكن أن نسميه الزمن الأبدي أو الدائري تمثل طاقة ضوء للرؤية والمعرفة. وهذه الشخصيات لها فاعلية في عملية التحوّل والانتقال من سياق إلى سياق، يتجلى ذلك حين نتأمل قصة (الحصوات الملساء). فالشاب اليافع (الهيبيا) صاحب الشعر الطويل نراه داخل الزمن الحقيقي، وهو النادل داخل الزمن الدائري بعد التحوّل الخاص بالعودة إلى زمن موغل في القدم يرتبط بعام 1976.
وثمة جزئية على نحو كبير من الأهمية، تتمثل في قدرة الكاتب على إحداث نوع من التناظر والتوازي في الصفات المسدلة على هذه الشخصيات التي تتحرك في سياقين، فهي غالبا مشدودة إلى هيئة شكلية خاصة، ترتبط بالملاحة والشعر الطويل وفي طريقة ارتداء الملابس، وأنواعها، بالإضافة إلى السمات الشكلية.
وهذه الشخصيات تحمل في نسقها الأول من خلال الإشارات الدالة ما يشير إلى ارتباطات مع نسقها الثاني، وحين تعود في النهاية بعد انتهاء التحول الجزئي إلى نسقها الأول تظل هناك بقايا تشير إلى مساحة التحوّل الجزئي، وهذا يشير إلى دائرية الزمن، وإلى انفتاح العوالم الدائم وتداخلها في ظل المنطق الشاماني التخييلي في مقاربة الواقع والحياة. في قصة (تسع دوائر) تطلّ الصفات كما هي للمحوّل المساعد التي تتكرر كثيرا في القصص، فهو دليل مغربي، معسول السحنة، جذاب المحيا، ووجه الشبه هنا يتمثل في الإشارة إلى وجه (فرجيل)، فمع هذه الكلمة يبدأ دبيب التحوّل والانتقال من زمن واقعي إلى زمن دائري أبدي ممتد. فهذا الشخص بمشابهته لفرجيل يمثل الرابط بين داخل الزمن وخارجه، بين التراتبي والدائري الأبدي. ومن هنا تتشكل التجاوبات بين الماضي والآني، وتتوحّد المتاهة المكانية بالمتاهة الزمنية، فالشحاذون المرتبطون بفاس – وهم تسعة – يتجاوب عددهم مع سرب الطيور الصغيرة الجارحة الخارجة من الكوميديا الإلهية، فيحدث هذا التجاوب أو التطابق بين الزمن الآني والزمن القديم، وهذا تكسير لبنية الزمن.
وفي بعض الأحيان لا يكون المحوّل المساعد أو الشخصية المساعدة على دخول تلك العوالم شخصا من لحم ودم، أو شخصية تتحرّك داخل العالمين الواقعي والخيالي المتجاوز، لكنه يمكن أن يكون خبرا في جريدة، يتحوّل بعدها إلى هاجس مسيطر، وتكون له قدرة على تشكيل الأحلام الليلية التي تمثل خرقا لنمطية الزمن، وتشكل مساحة للتعاظم على الواقعي، وذلك بانفتاحها على عقد مساحة اتصال بين الواقعي المحدود بزمن وتجارب محددة، والخيالي الذي يهشم هذه المحدودية، ويحاول الانفلات منها، فمع كل حلم هناك كينونة جديدة للبطل. في قصة (القرص الحجري) يتأسس السرد على صراع ممتد، له هيئة آنية وهيئة ماضية، وهناك ـ في ظل ذلك – حركة وفق زمنين، أحدهما واقعي، والآخر دائري، ممتد وموغل في لحظات سابقة.
المهم في العامل المساعد على التحوّل – أو في الشخصية المساعدة – فاعليته، وقدرته على القيام بفعل الإغواء، والمساعدة على التورّط في زحزحة البطل للانتقال من الزمن التراتبي إلى زمن ثابت ساكن خارج الحركة والتمدد المعهودين، زمن أبدي، أقرب إلى الانقطاع خارج الجاذبية الزمنية، وخارج أدوات قياسها وتناوبها، للدخول في زمن ممتد. في القصة الخاصة بعبد الرحمن قيروش المعروف فنيا (بباكو) الذي كان عضوا بفرقة (ناس غيوان) هناك عامل مساعد للتحوّل من سياق إلى سياق، به مسحة من الجدة. يتمثل في شريط فيديو يشاهده البطل، وفي لحظة محددة أثناء المشاهدة يتوقف الزمن الواقعي، ليحلّ الأبدي المرتبط بالطريقة الشامانية. هنا استيقاف للزمن العادي، واستيلاد لزمن خاص، لا يمكن قياسه، لأنه يرتبط بالنشوة والتجلّي والديمومة.
في قصة (موقف الخسوف) نجد أن السرد يبدأ من المقاربة للمفرش الياباني، بالرغم من أن تصوير البطل من البداية لا يخلو من الغرابة، تمهيدا للتحول القادم. فالمفرش الياباني برسوماته الخاصة التي تحتوي على صورة الحسناء اليابانية في ارتدائها (الكيمونو)، وتسمى (غيشا) أي من شريحة المضيفات اللواتي يمتلكن مهارات في الموسيقة والمسرح والرقص. فهذا المفرش في تحديده الأخير لا يختلف عن الشخصيات المساعدة الأخرى التي عرضنا لها، لأنه يمثل مثيرا ومولّدا لعملية التحوّل وللتورط فيها، وذلك من خلال تحريك الخيال من خيال عادي إلى خيال فعّال، يرتبط باللعب غير المشدود لمواضعة منطقية، فيحدث التجاوز ويتجلى التحوّل. ولا يمكن هنا استبعاد وجود القمر ودوره الذي يكشف عن ثقافة متينة للكاتب. فالقمر في لحظة اكتماله أو في لحظة خسوفه في مجمل الثقافات فاعل في توليد مساحات الاتصال وخلق التوجه نحو التخلي عن السياق الواقعي والالتحام بسياق جديد. كل هذا يؤدي إلى ولادة مساحة من الاتصال مع الغيبي، يكشف عن ذلك مساحة الصمت وغياب الكلمات، لأن الكشف أو الالتحام أو الالتصاق بالأبدي يخلخل مساحة الاتصال الواقعية الأولى (مضيت… ثم اختفت الكلمات من لساني).
أنيس الرافعي: «جميعهم يتكلمون من فمي»
دار خطوط وظلال، عمّان 2024
187 صفحة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية