«تاج شمس» رواية المصري هاني القط: السرد التصاعدي واستبدالات الشخصية والرمز

عادل ضرغام
حجم الخط
0

في روايته «تاج شمس» يقدم هاني القط بناء ملحميا متعدد الطبقات، يتكرر في شخصياته وخطاباتها، من خلال التوازيات الدالة. ففي هذه الرواية هناك بناء يكشف عن تواز بين السلطة والشعب، وعن النسق المتبع بينهما في كل الطبقات، فهو تواز قائم على التشابه في الوظيفة والدور، وتنمو في ظل هذا التوازي تقابلات أخرى بين الخير والشر، والعدل والظلم، وكأن النص يمرّر لنا فكرة مشدودة إلى طبيعة الحياة والوجود، في التكرار الدوري للأنماط والشخوص. القارئ في هذه الرواية أمام الحياة بكل قوانينها وطوائفها وأنماطها الخاصة بالسلطة والذين يحومون حولها، مرورا بالشخصيات التي تمثل ذاكرة المكان في لقطة البداية ولقطة النهاية، في شكل مملوء بالثقافة الشعبية، وبقناعات أصحاب هذه الثقافة من الإيمان بالسحر والشعوذة، واللجوء إلى السحرة والعرّافين، والانفتاح في الوقت ذاته على العقل، وإن كان قليل الأثر في توجيه الحركة.
في هذه الرواية هناك تغييب للمكان بشكل محدد، وتغييب للزمان بشكل قصدي، وإن كان هناك مؤشرات وإشارات في النص الروائي تدلّ عليهما بشكل تقريبي عام. وغياب تحديد المكان والزمان الذي جاء عن قصدية يجعل النص مؤسسا على فكرة وثيقة الصلة بالحياة والوجود، فالرواية تقدم نماذج وشخصيات موجودة في كل زمن وكل مكان، فهي نماذج بها الكثير من الديمومة، تتكرّر بشكل دوري، لا يخلو منها مكان أو زمان. وهذا يجعل النص وثيقا بالأسئلة الوجودية التي لازمت بعض الشخصيات من بداية الرواية إلى نهايتها، وإن أخذت كل شخصية منحى مغايرا عن الأخرى.
تعيد هذه الرواية – انطلاقا من بنائها والطبقات المتراكمة لنماذج السلطة والشعب – القارئ إلى «الحرافيش» في تذويب الواقعي وانفتاحه على المعرفي، غير أنها تنقل الإطار المعرفي من السلطة، وتجعله وثيق الصلة بشخصيات عادية، وتشكلها تشكيلا خاصا، لكي تنفتح على المعرفي بأنماطه العديدة، منها التوجه العقلي، ومنها التوجه العرفاني القائم على النبوءة، ومنها التوجه العبثي القائم على النظرة إلى الحياة نظرة متشككة، تقلل من قيمة السعي والفعل، وتظل لاهثة في محاولة وصولها إلى يقين ما.
الرواية في تأملها الدقيق تبدو منفتحة على المعرفي في أسئلة بعض شخصياتها، وفي هواجسها التي لا تهدأ، ومحاولة إطفاء لهب هذه الهواجس والأسئلة الخاصة بتأمل الحياة والوجود، في تعلقها بالمثالي، أو في تعلقها بالدنيوي والجسدي الصارخ، ومنفتحة على المصائر والمآلات الخاصة بهذه الشخصيات وخيباتها، لكنها في الوقت ذاته مهتمة بهجاء وتشويه السلطة، في كل أشكالها، وتشويه الأنماط الملتفة حولها، فالنص الروائي يمارس نوعا من التعرية المتعمدة من داخلها، حيث سياقها الاجتماعي المحدود، وكأن ما تقوم به مع السلطة أو ممثليها من خنوع وصمت تسليم، يتشابه مع مثيله داخل أسرته الصغيرة.
السرد التصاعدي وطبقات السلطة
تنتهج الرواية بناء تصاعديا ينفتح على شخصية محورية في النص الروائي، وينتهي ببديلها الذي يحلّ محلها للقيام بوظيفتها الراصدة لتاريخ المكان ودوراته المتتابعة، فالرواية تبدأ (بالجليلة)، وتنهي (بفرحة) في جلوسها مكانها، وكأن الحياة دورات، وكل شخصية لها بديلها الذي يتشكل بالتدريج. تستند الرواية إلى ضمير الغائب، لتقديم عالمها الروائي الكلي المتكامل، فهناك حضور للشخصيات بشكل متواز ممتد للأمام، وليس هناك شخصية وحيدة أو مجموعة شخصيات فقط، وليس هناك إتمام لأية شخصية في سرد وحيد ونهائي. فالسرد الروائي يمارس نوعا من التقطيع والبتر المحسوبين، وكأننا أمام عرض مسرحي، أو أمام حياة كاملة تتعدد أشكالها وأفعال شخصياتها في اللحظة ذاتها.
السرد في هذه الرواية ينتقل من شخصية إلى شخصية أخرى في مساحات صغيرة نسبيا للحفاظ على نفس ملحمي، وللإيحاء بالأجواء الأسطورية الخاصة بالشخصيات، فالكتابة السردية تصوّر لنا الواقع الفعلي في لحظة آنية مشدودة إلى تعدد انشغالاتها واختلافاتها بشكل متوال، وهذا يجعل الرواية منفتحة على الوصف المصاحب لعملية السرد، وعلى لغة استعارية، يتآزران معا لخلق ملامح أسطورية للمكان والشخصيات، في ظل غياب تحديد المكان والزمان. وهذه الطريقة في السرد المنفتحة على كل شخصيات العمل الروائي في تماسها وارتباطها بالحياة، والانتقال من شخصية إلى شخصية في سرد جزئي متقطّع، لها دور في إحساس المتلقي بالنقصان الذي تعوزه صفة الاكتمال في اللقطة الواحدة، ولكن هذه الطريقة بالرغم من جزئيتها حافظت على فكرة التشويق، لأن هناك حكاية غير مكتملة ينتظر القارئ أن يلمّ بها، وهناك نتيجة يتجهّز للوصول إليها.
الرواية بهذه الطريقة تقدم سردا متقطّعا لكل الشخصيات على تنوّعها واختلافها، في انتهائها واستمرارها، وفي ثباتها على هيئة واحدة أو تحوّلها. وتظل الرواية على هذا النحو مشدودة لهذا الضمير السردي، وعلى آلية الانفتاح والتقطيع إلا في جزء وحيد. في هذا الجزء تتخلى الرواية عن ضمير الغياب، وتستند إلى المخاطب المناسب لعملية الاسترجاع وتيار الوعي المرتبط بالمناجاة وحديث الذات، فشخصية (مختار) بعد غيابها لمدة خمسة عشرة سنة، وعودتها إلى تاج شمس، وإقامته بدار (الجليلة) على الربوة العالية يستعيد تجربته من خلال تيار الوعي، مصورا تحولاته وتشوهاته الذاتية. وهذا التحوّل في الضمير السردي ربما يكون له ضرورة استدعتها أو حتمتها طبيعة الشخصية، وإطارها الدلالي، لأن هذه الأعوام الممتدة التي أصبحت ماضيا مؤثرة في طبيعة تكوين الشخصية وتوجهها، ومؤثرة في تسكين الرمز بوصفه نموذجا للسلطة داخل حدود معينة.
في رواية «تاج شمس» وفي ظل هذا البناء السردي، تتجلى أمام القارئ طبقات محددة للسلطة، بداية من طبقة العمدة راضي بن مرزوق، وزوجته مرزوقة، وهو من طبقة العبيد الذين استولوا على السلطة بطريقة ما، مرورا بالطبقة الثانية، طبقة الأبيض، والطبقة الثالثة طبقة ابن عمه أبو جميل، وانتهاء بطبقة مختار الذي ينتمي إلى أهل القرية، ويتجاوب مع هذه الطبقات الشخصيات التي تظلّ على علاقة بصاحب السلطة متماهية معه، دائرة في حدود مصالحه ومصالحها، وتشكل أداته الفاعلة في التمكين لسلطته. فمع كل طبقة من هذه الطبقات، توجد مجموعة من الشخصيات التي تقوم بوظيفة مساندة لصاحب السلطة، مثل بحر في طبقة أبو جميل، أو العراف غريب في طبقة راضي، أو الساحر أوجا في طبقتي أبو جميل ومختار.
على مدار صفحات الرواية تظهر السلطة من خلال صور ممثليها في شكل خاص، في كل هذه الأشكال هناك رؤية نافذة تنحي الخطاب المعلن، وتتجاوزه إلى العمق، ومن خلال هذا النفاذ والفصل بين الحقيقي والزائف في كشف الخطاب الروائي للزيف، يتمّ سلب السلطة أية إمكانية للوصول إلى العدل، وتتهشم كل محاولاتها في إسدال نوع من الإصلاح.
والسلطة – في كل وجوهها كما عبرت عنها الرواية – لم تفرّق في مآلاتها المختلفة بين أصحاب السلطة المجلوبين من خارجها، وصاحب السلطة الوحيد الذي جاء من أبناء البلد، فالسلطة في النص الروائي تمّ التعبير عنها وفق منظور محدد يرتبط بغياب العدل، فالظلم جزء من تركيبتها الأساسية، وإشاعة خطاب مزيف يباين الحقيقة جزء وجودها الحتمي، وفي كشف الرواية عن الزيف الخاص بالخطاب المعلن تستحضر الكثير من التغييب، واستخدام الكشف التدريجي لخطاب الحقيقة، فالرواية لانفتاحها على الرصد الخاص بالشخصيات والأحداث تظلّ مشغولة بهذا الرصد، لكنها لا تتخلى عن إشاراتها الدقيقة التي تتكشف بعد ذلك في إشارات عابرة.
الاستبدالات ومساحات الرمز
في هذه الرواية التي يغيّب فيها التحديد الزمني والمكاني بشكل دقيق، تأخذ الشخصيات مساحات تتوحّد بالفكرة والرمز، حيث يرتبط وجود الشخصية بالوظيفة التي تقوم بها في إطارها المعرفي. ويمكن أن نقول عن هذه الرواية إنها رواية الاستبدالات المستمرة للشخصيات. فانتهاء كل شخصية بموتها أو تلاشيها من المكان، يعني بشكل حتمي وجود شخصية أخرى تؤدي الدور ذاته المنوط بها.
هناك نماذج داخل الرواية حدثت لها استبدالات عديدة، من خلال إحلال متعمد لشخصية محل أخرى، وهذه الشخصيات هي التي تقف في طريق المعرفة والأسئلة الوجودية. ينفتح النص الروائي على وجود نموذج جاهز يتمثل في عطية الكاتب، وقد قدمت له الرواية قبل الوصول إلى المعرفة واليقين بالحياة والوجود من خلال عزلته في كوخه بالجبل، صورة خاصة في قولها (كان في عيونه عتمة، وفي قلبه حجر. ويوم رقّ ورأى، ترك الدنيا خلفه، وسكن الكوخ البعيد المحتمي بحضن الجبل)، وهذا التوصيف مهم للإشارة إلى حالة الاستبدالات التي لا تنتهي، فقد ورث المكان من شخص سابق، ومهم من جانب آخر، يتمثل في كون الوصول إلى هذا الطريق، له قوانينه الخاصة التي لا تستند إلى نسق ثابت، فالشخصيات المقدمة في هذا الإطار كما يشير الاقتباس، وكما تشير حالات الاستبدالات التي حلت مكان هذه الشخصية بالترتيب، يمكن أن يكون لها تاريخ مغاير سابق في الارتباط بالآثام والذنوب، فوصول الشخصيات إلى هذه الحالة أقرب إلى ميلاد جديد، وإلى تخليق كينونة جديدة.
وفي ظل هذه الاستبدالات، يوجد لدينا شخصيتا خليل والميت أو عبدالحي كما كشفت أمه شرقاوية، وهما شخصيتان تتجاوران مع حركة الاستبدالات السابقة، لكنها استبدالات غير كاملة، فقد حرم (الميت) من استكمال مساحة الاستبدال مع عطية الكاتب، وتمت الاستعاضة عنه بقنديل، بالرغم من أن البداية كانت مرتبطة (بالميت)، فاستدعاؤه للمشاركة في تغسيل وتكفين ودفن عطية من قبله، ليس إلا اختيارا للحلول مكانه، والقيام بوظيفته.
أما شخصية خليل فقد شكلت تشكيلا خاصا من خلال وجود الشيخ مهدي زوج أمه كعب الخير، فمع إدراكه أن هذا الرجل ليس أباه بدأ في التخبط والحيرة، وفي إثارة الأسئلة المحيرة القلقة. فقد كان زوج أمه السبب الأساسي في ذلك، بالرغم من أنه فتح عينيه من خلال الكتب على معرفة دينية وفلسفية، وفتحت عليه هذه المعرفة مساحة من الحيرة والتساؤل عن جدوى الحياة، وكيفية الوصول إلى السعادة. وربما يكون توزعه بين حب جسدي مع نساء كثيرات وحب سام مثالي مع أنس قبل زواجها من قنديل، منطلقا أو وسيلة ناجعة من وجهة نظره لإيقاف هذا السؤال الخاص بالقلق الوجودي.
جزئية الشخصيات الاستبدالية في هذا الإطار تتولّد من فكرة جوهرية، وثيقة الصلة بالحتمية الوظيفية للشخصية في إطارها العام، ووثيقة الصلة بالحالة الأسطورية التي تخلقها الرواية لتجديد حضورها في كل لحظة واقعية على نحو ما. فإذا كانت هناك استبدالات للسلطة بكل أشكالها ممثلة في الحاكم، وفي من يحيطون به، فإن البشر العاديين يصنعون سلسلة خاصة من الاعتقادات والمعارف، وتستمر في شكل استبدالات ممتدة باختيار نماذج منهم، للاستقواء بها وبمعارفها على هذه السلطة في جبروتها المستمرّ.
هاني القط: «تاج شمس»
بيت الحكمة، القاهرة 2024
381 صفحة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية