«بهجة الغواية» رواية المصري فتحي إمبابي: سردية الهزيمة وتعدد الخطابات

عادل ضرغام
حجم الخط
0

في رواية «بهجة الغواية» للمصري فتحي إمبابي يعاين القارئ مزجا لافتا بين التاريخ الأسطوري القديم والواقع، محتميا بتوجه عجائبي، للكشف عن رؤية معرفية شديدة الخصوصية. ففي الرواية مزج بين التاريخ الممتدّ والواقع الآني، ومدار هذا المزج يتشكل في حدود الأنثى في مقابل بطل تتعدد دلالاته، فهو في بعض الأحيان يمكن أن يكون المعرفة المفقودة التي لم ينصت أو ينتبه إليها أحد، وفي أحيان أخرى يمكن أن يكون الإنسان البسيط، وفي وجه أخير يمكن أن يكون دلالة على الشعب المصري بكل طوائفه العاشقة لوطنها.

البطل في هذه الرواية، الأستاذ الجامعي أقرب إلى اليساري أو الماركسي بالتحديد الواسع للكلمة، بوصفه الشخص الذي لا يفقد الأمل، بالرغم من معاينته الحالة في تجليها، وتشابهها مع حالات سابقة، فحتى لو كان الواقع بائسا مطبقا وبائسا، فنراه يخلق واقعه متسلحّا بالرجاء للوصول إلى صورته المختزنة المتخيلة. فالدمى الموجودة في النص على امتداده بوصفها بديلا لواقع مهزوم، ليست في التحليل الأخير- وإن كانت تشير إلى تطور تقني يصيب السياق العام في حدوده الزمنية – إلا ارتباطا بالخيال وقدرته على إيجاد البديل وصناعته. في هذه الرواية القارئ أمام سردية للهزيمة على تعددها وتنوع أشكالها وهيئاتها، ويمكن للقارئ أن يقف على قائمة طويلة لأشكال الهزيمة، مثل الماركسية أمام الرأسمالية، واليسار أمام اليمين، والثورة أمام أعدائها، والنظريات الأدبية المشدودة لواقعها وسياقها في مقابل نظريات تتأمل ذاتها ومحتمية بنفسها، في غضها الطرف والرؤية عن سياقها المحيط، وابتعادها عنه في نسق توجيهي مشدود للسياسي العالمي في قطبيته الوحيدة.
فالبطل- الأستاذ الجامعي اليساري- شخصية تتعاظم على التحديد المادي، وكذلك البطلة طالبة الدكتوراه المختصة في النقد الأدبي، هي ـ أيضا – تتعاظم على تشكلها المادي، وتتجلى خارج هذا التحديد، فهي تصنع وتتكرر على فترات زمنية متباعدة على يديه، لكنها في النهاية تنكره كما تم إنكار المسيح، لأنه في كل تجل من تجلياتها، وفي كل حالة من حالاتها، يتمّ انتزاعها واختطافها من أصولها ومكان ولادتها، ليتمّ العبث واللهو بها تحت تأثير النزاعات الممتدة. قد يبدو للقارئ أنه أمام رواية مرتبطة بثورة يناير 2011، وما تبعها من أحداث، ولكن التأمل الدقيق للرواية ومراجعة التواريخ المثبتة التي تشير إلى أزمنة وسنوات قادمة، والارتدادات الموغلة في القدم، يكشف عن تكرار الحالة التي تكشف القدرة الممتدة للرغبة المستمرة في التغيير.
فالوقوف عند مجموعة من الرموز والإشارات التي ذكرت في النص الروائي مثل برومثيوس، وهكتور وسبارتكوس، والحسين بن علي، وجيفارا، يكشف عن كونها رموزا مجبولة على الثورة والصراع من جانب، وعن كونها تدور في فلك الهزيمة أمام تنويعات مختلفة للمنتصر على الطرف المقابل، ولكنها لم تفقد إيمانها بالرغم من كل الهزائم بمشروعية حلمها في الوصول إلى مبتغاها في لحظة ما. والرواية في ظل هذه الإشارات والاستدعاءات هي رواية الإيمان بالمعنى الواسع لمبادئ اليسار، وحتمية وجوده، وقيمة استمراره، حتى لو كان الوضع العام وتكراره لا يكشفان عن حضور منطقي قوي لهذا الإيمان من الناحية الموضوعية، والثورة في ظل هذا التصور حالة يصنعها البشر بشكل متوال ومتكرر، والإيمان بها يجب أن يكون فكرة حاضرة.

الهامش والمتن: النظرية والسرد

قد تبدو الحكاية للقارئ حكاية بسيطة، أستاذ جامعي يساعد طالبة دكتوراه، للحصول عليها وسط أناس يمثلون ضباعا ووحوشا، وسياق مملوء بكل أنماط الفساد. ولكن تقديم هذه الحكاية في النص الروائي يفتّتها بشكل لافت، خاصة إذا كان هذا الأستاذ واحدا من المنتمين إلى اليسار، يراقب خساراته من مكان مرتفع في أسى شفيف. ترتبط الرواية بنفس ملحمي، يعاين التحولات على مدى زمني ممتد انطلاقا من لحظة الهزيمة لمناقشتها، من خلال معاينة أسبابها. وفي تحليل النص الروائي للهزيمة لا يقف وقفة آنية، وإنما يمتد إلى أسس للفهم والوعي، من خلال نص رسالة الدكتوراه المرتبطة بروايات الثورة.
الإعلاء من شأن الماركسية بوصفه نظرية مندثرة تشكل هامشا، في مقابل نظريات المتن التي ما زال تأثيرها مستمرا، وإن تشكلت بالتدريج وفق نظريات (الما بعد) التي حددت أنواع وأشكال الأدب التي تموضع وتسيّج رؤية خاصة لهذه البلدان من خلال رؤية وتمثيل ثابتين، لم يقف عند حدود الإعلاء، لكنه يتجلى في شكل آخر، حيث يمرّر النص الروائي تشويها لكل هذه النظريات التي تؤسس توجها عدميا يرتبط بتأمل البنيات لدى رولان بارت. فالنوع الكتابي الذي راج في ظل هذه النظريات نوع يروّج لعصر العولمة الأمريكية، ويروّج لنهاية وتفتيت السرديات الكبرى لكل بلد يستقوي بثقافته ونماذجه، مما يؤدي – في منطق الرواية – إلى فقدان القضايا الكبرى لأهميتها، ويتم الاستعاضة عن كل ذلك بأنواع مثل الروايات البوليسية والخيال العلمي والروايات التاريخية التي تشكك في قيمة المؤسس استنادا إلى فكرة نفي الأصل الثابت للخطابات التاريخية. وهي كلها توجهات كتابية تفتت ارتباط الكتابة بحدود واقعها، تقول الرواية: (إن السيد رولان بارت وطغمته كانوا يؤسسون لفساد العالم، وشيوع مبدأ المنفعة على حساب الفضيلة والحكمة).
مارس النص الروائي نوعا من التشويه الواضح في كتابة الاسم (ابن بارتيه)، فمع سيادة نظريته وهيمنتها أصبح الكاتب وحيدا، لا ينتمي إلى طبقة مثل البرجوازية أو البروليتاريا، وفي ظلها انفصلت الكتابة الروائية عن الواقع. وتكرّر التشويه ذاته مع مفكر مثل دريدا، حيث يتحوّل في النص الروائي إلى (جاك بن دريديه)، وهو – في منطق الرواية والأطروحة بداخلها – الابن المدلّل للمؤسسة الفكرية الغربية، حيث عمل على الترويج لها بوصفها بديلا للثقافة الماركسية، تقول الرواية (إن هذا رجل مخبول.. إننا نستمع إلى سيمفونية مشروخة لفلاسفة ومفكرين يعملون بجدية الفئران وعزيمة النمل الأبيض، على تقويض العالم).
ولكن هذا الاستخدام أو التوظيف قد يشير إلى طبيعة ألف ليلة وليلة، بوصفها نصّا من نصوص الهامش ضد المتن السائد في زمنها. ووجودها هنا يعتبر وسيلة من وسائل مقاومة الهامش المهزوم متعاظما على قوة المتن المنتصر في كل لحظة، فألف ليلة وليلة تمثل الصوت الهامشي على تنوّع تجلياته مقابل منظومة أدب رسمية، وصورة الخلفاء والحكّام بها الكثير من التشويه، وكأن الهامش يؤسس لنفسه في هذا الحكايات وجودا مساويا، ويهشم في الآن ذاته الوجود الرسمي أو الطبقة العليا، ونص الف ليلة وليلة يتعاظم على هامشيته بمناح عجائبية تصنع له تفردا موازيا لكتلة وثقل المتن، وكذلك في نص رواية «بهجة الغواية» يصنع المهزومون وجودهم، وقدرتهم على الاستمرار (الأستاذ الجامعي المهزوم المراقب لواقعه المتفسّخ، والثورة بتجلياتها الآنية والسابقة والمستقبلية) من خلال الاستعاضة عن الواقع المهزوم بواقع عجائبي يقوم البطل بصناعته، يتمثل في الدمى التي تتحرّك، فيحدث ذلك تجسيدا لحركة الهواجس النفسية الداخلية، ومزجا بين الخيالي والواقعي. فالهواجس الذاتية النفسية تحوّلت – ربما تحت تأثير الزمن المستقبلي وتوقع اكتشافاته، فالرواية تمتد زمنيا إلى 2038 – إلى دمى من البلاستسليكون أو الهولوجرام، حيث يتاح له لقاء ومناقشة أصدقاء ينتمون إلى لحظات زمنية سابقة في مقاه مثل (دوماجو) أو (لا فلور).

تعدد الخطاب

الرواية في ظلّ منحاها المعرفي السابق الخاص بمحاولة التعاظم على الهزيمة في إطار مستويات عديدة تنتهج آلية فنية ترتبط بتعدد الخطابات، وربما يكون الخطاب الأكثر حضورا بجانب خطاب السرد البنائي متجليا في خطاب الصور التي تشارك في إنتاج النص، بل تجعل الوعي بالنص وعيا مغايرا منفتحا على واقع الصورة، سواء أكانت سفينة أو نجمة سينمائية أو أداة تعذيب في أزمنة غابرة.
في النص الروائي هناك الخطاب السردي القائم على الغياب، وهو خطاب يرتبط بمقاربة الحكاية الأساسية للنص الروائي، المتمثلة بالأستاذ الجامعي، وحكايته مع طالبة الدكتوراه، وابنته وابنه وجاره، وهو خطاب خاص كاشف عن البطل اليساري المؤمن بتفوقه وقضيته بالرغم من الهزائم على أصعدة عديدة، وبالرغم من انعزاله، وعدم القدرة على الفعل، لأنه خارج متن الفساد المحيط بالتعليم الجامعي، فنبصر فعله واقفا عند حدود مراقبة التفسّخ الذي يحلّ بالسياق الفردي والجماعي على مستوى الحالات الخاصة بالثورة. وقد أسس النص الروائي لهذه المراقبة من خلال التوجيه السردي في مكان السكن، حيث جعله في آخر دور بالعمارة، فالبطل يطلّ كأنه نيتشه في إطلالته على الواقع العام، ومراقبة تحولاته وتفسخه من سياق إلى سياق، من المشاركة إلى الانعزال.
يتأسس في ظل هذا الخطاب ارتباطه التعويضي بالدمى ومدينتها المتخيلة التي تأتي وكأنها إشارة للتقدم العلمي المناسب لزمن الرواية من عام 2034- 2038م، وبوصفها تجسيدا لهواجسه الناتجة عن الفقد والوحدة والهزيمة والانعزال، فكأن ارتباطه بها يشكل عوالم بديلة تساعده وتعطيه القدرة على الاستمرار في الحياة، والتمسك بالمتخيل النموذجي على المستوى الفردي والجماعي. وفي ظل هذا الخطاب تتشكل علاقته بطالبة الدكتوراه، حيث ينفتح النص السردي على النقد المباشر لمجتمع الجامعة، وتحوّله من قاطرة تنوير تقود المجتمع إلى مؤسسة للتكلّس يعشش فيها الفساد، ويصبح البطل (المعلّم) الذي يحارب أنواعا من الجهلة والضباع في أردية إنسانية.
ثمة خطاب أخير في النص الروائي، وهو خطاب النصوص الشعرية التي تأتي في مقدمة بعض الفصول، وتتمثل قيمته في كونه يشكل الفضاء الذي يحمل فحوى النص السردي. فالنصوص الشعرية التي كتبها الروائي في مقدمات بعض الفصول تشكل الأفق العام للتأويل، ولها دور في خلخلة النظرة إلى الحكاية، وإخرجها من محدوديتها بوصفها حكاية عادية بين أستاذ وطالبة دكتوراه، إلى منحى يتشكل في إطار سياق عام. فحين يقول النص الشعري في بداية في بداية الفصل التاسع والعشرين (نهداك ملحمتان/ تحتل شواطئهما فيالق الرومان/ بأربعة آلاف فارس/ يختلّ نهرها الخالد/ ذاك الذي قايض آخرته بالدنيا/ على سفوحهما يتقاتل جحافل التتار والصليبيين والتركمان/ يحتل عنق الدلتا المعتمد البريطاني) يشعر القارئ أن مفتاحا تأويليا وضع هنا عن قصدية، وأن هذا التأويل له تأثير في زحزحة الحكاية في نواتها الصلبة.
فالفنان فيما يخص المرأة والوطن يستطيع أن يخلق لهما الصورة التي ترضيه، وتشعره بانسجامه، من خلال تداخل الواقع والخيال، وإزالة الحواجز بينهما، خاصة إذا أدركنا أن هناك تعددا آخر يرتبط بالتعدد الشكلي، والتنوّع المستمر لهذه الذات الأنثوية، فهي سوزي المنقبة، وهي السافرة الحرة في الآن ذاته، وكأن مسوح الشكل التي تعتور هذه الذات الأنثوية/ الوطن لم تفلح في القضاء على روحها الحرة التي تطلّ كل فترة في تكرار دوري، فالمرأة هنا قد تكون رمزا لهذا الوطن في حالته الثورية التي تنشأ في ظل وجود (معلّم) مهمش يعزّز شعورها بالتفرد، ولكنها حين تطل برأسها، يختطفها النسق المهيمن، وتتفسخ وتفقد قيمها ارتباطا بسياقها الجديد، وربما يكون مشهد مناقشة الأطروحة في نهاية الرواية كاشفا عن ذلك. والنص الروائي لم يترك هذا التأويل مغلقا، بل نراه يؤسس لهذا التأويل من خلال إشارات بسيطة مكتنزة، وقد نراه واضحا في أكثر اللحظات واقعية وإيروتيكية التي تقلل من مساحة الرمز، وتوجّه نحو الدفق الواقعي، فالرواية تقول على لسان سوزي، حين كتب شعرا في نهديها (ضحكت سعيدة وقالت إنه يساري قُح، يستطيع أن يخلط التاريخ بالجسد، وعشق الوطن بالأنثى، والنضال بالجنس).

فتحي إمبابي: «بهجة الغواية»
المحروسة للنشر، القاهرة 2022
622 صفحة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية