«بيت من زخرف» رواية المصري إبراهيم فرغلي: توازيات البنية والتوجيه السردي

عادل ضرغام
حجم الخط
0

في روايته «بيت من زخرف» يقدم الروائي المصري إبراهيم فرغلي رؤيته لإشكالية مستمرة تؤرق العقل أو العقلانية العربية على مرّ العصور، وهي إشكالية التوزّع والمواجهة مع مقابل شرس يؤمّن وجوده باستقوائه بالشعبوية الدينية الجاهلة وبالسياسة وألاعيبها وبوجودها المهيمن، ولهذا نجد التوجه أو الاتجاه العقلاني يحمي إمكانية وجوده واستمراره بأطر غير معهودة، منها فكرة الخبيئة أو الدفن التي لا تحمل سوى الاستمرار والانتظار حتى يصبح السياق ملائما لتقبل النزوع العقلي.

تجمع الرواية بين لحظات زمنية لصالح الفكرة، وتستطيع من خلال آليات شديدة الإتقان والدهشة أن تقيم عالما متماسك الأجزاء، للدلالة على توجه أيديولوجي يخطط الطريق للسير والحركة. هي رواية تبعث بداخلنا الرعب بسبب هذا التوحش والتشدد الديني والانغلاق، وذلك من خلال الإشارة – في ظل الحجاج السردي الذي تقيمه – إلى نتائج هذا التوحش، في مقابل انزواء وسلبية أصحاب التوجه العقلاني والفكري والفلسفي، وعدم قدرتهم على الفعل والتنظيم. لا يعرض العالم الروائي في هذه الرواية عالما وحيدا أو زمنا واحدا، لكنه يقدم لنا مجموعة من الأزمنة واللحظات والأحداث المتداخلة في نص روائي وحيد، وهدفه لا يتمثل في إثبات أن الزمان يكرّر نفسه، فالنص يتعاظم على فكرة الزمن في معناها المعهود، فيقدمه لنا زمنا ممتدا بوصفه طبقات متداخلة بعضها فوق بعض، تحيل كل طبقة فيها إلى طبقة أخرى، من خلال توازيات عديدة، تتمثل في الشخصيات والعوالم، والإشكاليات الكبرى التي تقابل شريحة محددة من البشر.
تعتمد الرواية اعتمادا أساسيا على التخييل، من خلال حيل فنية ترتبط بمخطوط متخيل كتبته لبنى القرطبية إحدى طالبات ابن رشد أثناء نفيه بمدينة إليسانة مدينة اليهود، وتترجمه راحيل صديقة لبنى وإحدى طالبات ابن رشد إلى العبرية، ويصل إلى يد مترجمة فرنسية في القرن السابع عشر الميلادي فتنقله إلى الفرنسية، ثم يقع الكتاب أو المخطوط في يد ألفارو عاشق الكتب القديمة والمخطوطات، ثم في يد مانويلا رفيقته التي تكتب سيرة متخيلة لابن رشد اعتمادا على يوميات لبنى، وتدفن هذه السيرة معها في قبرها، وبعد وفاتها تستخرج جليستها ماريا إيلينا بمساعدة أستاذها بالجامعة المصري إسكندر الذي يشابه في كل تشكيلاته نصر حامد أبوزيد (وقد أهديت الرواية إلى روحه)، فيكتب الكتاب بكل ملابساته. من خلال هذا التلاقي يندمج الزمنان في معالجة إشكالية واحدة تتعلق بثبات الفكر العربي من خلال ثبات إشكالياته المطبقة في كل زمن.

بنية العمل والتوازيات

تنتهج الرواية نهجا بنائيا قائما على وحدة العوالم وتشابكها وارتباطها بالرغم من الفارق الزمني، ففي جزئية ما في النص الروائي، يدرك القارئ أن هذه العوالم التي قد تبدو متباعدة للوهلة الأولى منسجمة في إطارها البنائي. فالرواية هي رواية اللحظة الراهنة وكل لحظة شبيهة، وارتباطها بابن رشد ارتباط التشابه والثبات والتوازي. فالرواية تبدأ بالأستاذ الجامعي المصري (إسكندر)، وتنتهي منتصرة لخياراته في العودة والنزال. ففي الجزء الأول هناك وقوف مع وجود الأستاذ الجامعي بجامعة قرطبة، من خلال قبلة العهد مع إحدى تلميذاته ماريا إيلينا، دون معرفة بسبب تواجده وحيدا بقرطبة، أو إشكالياته التي يعانيها، سوى تمرير جزء منها خاص بصورة جليلة التي تطل في لحظات محددة دون إفصاح كامل عن الإشكاليات.
ترك النص الروائي لكل الشخصيات المؤثرة في عصر ابن رشد الحركة، وأعطاها منصة السرد حتى لا تكون هناك مصادرة أو تحيّز، مستحضرا وجهة نظر كل شخصية على حدة، وهذا التوجه أعطاه ـ أي الروائي ـ الحرية في التعبير عن طبيعة العصر، وما يوجد فيه من اتجاهات فكرية عديدة، ففي كل جزئية بساردها الخاص هناك هدف يتوجه إليه، بداية من صوت القماري الذي يصل بالعجائبي إلى مداه، من خلال صور الطيور التي ترمز إلى الأفكار التي لا يستطيع أحد منعها أو حرقها. مرورا بصوت الابن الذي يصف مراسم نقل رفاته إلى قرطبة بعد دفنه في مراكش قبلها بشهور، وانتهاء بصوت (المشاء) ابن رشد نفسه، والنسّاخ، والورّاق، وابن جبير، وابن زرقون، وابن عربي.
لم يستخدم الروائي نسقا تراتبيا في الجزء الثاني للتعبير عن سياق ابن رشد في حياته، بل قدّم نسقا مشدودا للانتقاء والهدف، ففي الجزئيات أو الفصول التي تحمل عنوان (المشاء) التي يسردها ابن رشد في فترات مختلفة من عمره، توقف النص السردي عند جزئيات وثيقة الصلة بمناح ضرورية في تكوينه، ففي الفصل الأول للمشاء هناك استجلاء لارتباطه بفتاة أسماها طروب، ولانفتاحه المبكر على التأمل والتفكير العقلي والفلسفي في بداية تكوينه وارتباطه بالتفكير في حياة الناس والبشر. وفي الجزء الثاني الخاص بالمشاء يقدم ـ انطلاقا من تدرج التكوين – إشارات لتعلمه، وللسياق الحضاري المملوء بالتعايش بين الأديان، وتكتمل هذه الفكرة في الجزء الثالث حيث تلحّ فكرة التعايش بديلا للسيف والقتال والصراع، ويجعلها أساس الحضارة. وفي الفصل الرابع والأخير للمشاء نصل إلى ذروة التكوين، ودوره في توليد خطاب فلسفي قائم على انفتاح التأويل للنصوص بعيدا عن تثبيته داخل مذهب أو توجه محدد، يتجلى ذلك في تبجيله لأبي حامد الغزالي كفقيه في كتبه الأولى، وفي حمله عليه في رده على كتابه «تهافت الفلاسفة».
أما الفصل أو الجزء الخاص بابن عربي، فقد جاء لتأسيس مساحات الريبة بين الجانبين، أي بين أهل الفكر وأهل العرفان، فكل واحد منهما- وإن كان يجلّ ويعرف قيمة الآخر- يضع صاحبه في مكان مقابل. وفي جزئيتي النسّاخ والورّاقين هناك مجال لرصد تطور ابن رشد، وتحوّله من حال إلى أخرى، من إكباره للغزالي كفقيه إلى رده عليه، بالإضافة إلى دوره في تذويب التناقض بين الفكر الفلسفي والنصوص الدينية في كتابه «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال»، بالإضافة إلى كون هذين الجزئين يشيران إلى قيمة هذه الحوانيت بوصفها صورا قديمة لمدارس وجامعات.
بداية من القسم الثالث حتى الأخير يجد القارئ نفسه أمام نص دائري متعدد الإسهامات والخطابات، فهناك بيت من زخرف تتعدد طوابقه، وتنتمي إلى لحظات زمنية مختلفة، لكنها تتشابه في التناظرات والتوازيات والإشكاليات الثابتة. هناك سارد مهيمن في كل جزء، ولكن هذه الهيمنة تسمح في بعض الأحيان بكسرها، لإيهام القارئ بوجود مخطوط، وإيهامه ـ أيضا ـ بوجود فجوات تستلزم مغايرة في حركة السرد وفي الضمير السردي، حتى يتم التغلب عليها وإكمالها. فالرواية في ظل ذلك وفي سياق هذه الأقسام توهمنا أنها موزّعة بين خطابات قديمة وخطابات آنية، وأن هناك عددا من المساهمين في الإنجاز الكتابي للحكاية من خلال فاعلين مشاركين، بداية من لبنى القرطبية صاحبة النواة المخطوطة، ومرورا بمانويلا كاتبة سيرة ابن رشد المتخيلة، وانتهاء بالأستاذ الجامعي المصري، ففي البداية يقول لطالبته ماريا إيلينا: (سأكتب كل شيء، بما فيه طلبك المساعدة مني، وكيفية تنفيذي المهمة، ثم قصة صاحبة الوصية، وما يمكن ان يستفاد من أوراق مانويلا المدفونة معا).
في نهاية العمل تتكشّف للقارئ في ظل حضور الفكرة الخاصة بالثبات، وفي ظلّ غياب التأويل والتخييل عن العقل العربي في ميراثه الطويل، وفي ظلّ انفتاح الرواية على مطلق زمن الأزمة، مع عنايتها بأزمتي ابن رشد والأستاذ الجامعي المصري، مجموعة من التوازيات في كل أزمة. فهناك ابن رشد (المعلّم) يقابله الأستاذ الجامعي المصري بطبيعته الخاصة مع طلابه بتوجيههم نحو العقل النقدي، فهناك مساحات قوية للارتباط بينهما، وهناك الباحثة أو الطالبة لبنى في سياق ابن رشد، وماريا إيلينا في سياق الأستاذ الجامعي المصري. فالمرأتان تشكلان في كل إطار مساحة للاستشفاء لكل واحد منهما، ومساحة لفاعلية المرأة وقيمة دورها، وهي فكرة من الأفكار المبكرة لابن رشد، اهتدى إليها بسبب سياقه الحضاري المنفتح. وربما يضاف فارق السن بين الرجل والمرأة في كل قسيم كاشفا عن تواز خاص.

التوجيه السردي

يرتبط التوجيه السردي بكل عناصر النص الروائي، سواء في مجمل الاختيارات الخاصة بالزمان أو المكان، أو في تشكيل الشخصيات وبنائها، أو في بنية الحدث وتجهيز النقلة التالية للحركة والتوجه. وإذا كان التوجيه السردي مهما لكل عمل روائي بشكل عام، فإنه في الرواية التي تستقوي بأيديولوجيا حتى لو كانت أيديولوجيا المهزومين يعدّ جزءا أساسيا في بناء العمل الروائي وتشكيله، وفي تشكيل فكرته الأساسية وإشكالياته المعرفية. ففي مثل هذه الروايات هناك ـ ربما بدون وعي مقصود ـ نماذج تتشكل، وتتجلى بوصفها أدوات حاملة لفكرة وظيفية سردية، وتؤدي هذه الوظيفة في إطار عملية الحجاج التي تظهر في النص الروائي في انتصارها للعقلانية وللتأويل الفكري، في مقابل التشدد المتدثر بفهم خاص ثابت للنصوص في شكله الأولي البدائي الذي لا يحيد عنه.
ويمكن أن يظهر التوجيه السردي في تشكيل الشخصية بشكل لافت في شخصية زياد، فقد قدّم في الرواية من خلال تدرّج كشفت عنه استرجاعات وارتدادات خالته مانويلا، فالطفل الذي تصفه كان هاديا مغرما بالقراءة والرياضة، يتحول في لقطة تالية إلى حالة من حالات التشدد. فقد كشف النص الروائي عن طبيعة تشدده في ظلّ الطبقة الزمنية الخاصة بمانويلا، ومن خلال الأم بيلار البرتغالية الأصل، والأب كمال المصري، وتحركه أثناء طفولته بين دول عربية كثيرة. وتكشف اللقطة الثالثة عن كونه مقاتلا في أفغانستان، بجلباب أفغاني، وبوجه متجهم، وفي اللقطة الخيرة نراه متورطا في هجوم مدريد 2004، ومن ثم يتعرّض للاعتقال، تقول الرواية مشيرة إلى الترابط بين ما حدث له وما حدث من سلوك معاد لابن رشد من العامة، إلى أنهما صورتان للتشدد (أيمكن أن يكون واحدا من هؤلاء المتشددين الذين طردوا ابن رشد من المسجد قبل ألف عام؟). وفي السياق ذاته يمكن أن نقف عند شخصية جوليستان أو (جي جي) ذات الأصول الكردية، وعند دورها في النص الروائي الذي يقف عند حدود المساعدة في إيصال النص النهائي الذي انتهى منه إسكندر بعد ترجمته إلى زياد، فقد جاء التشكيل التوجيهي المنمط لهذه الشخصية مناسبا للقيام بدورها الجزئي في العمل الروائي، بوصفها واحدة من فريق المجندات اللواتي واجهن الدواعش في سوريا، وهي تعرف طريقة للتواصل مع هؤلاء، وانتقلت إلى آيسلندا بعد أن طلبت الهجرة.
ثمة نوع من التوجيه السردي، يمكن أن نطلق عليه توجيه الحدث الطارئ اللحظي، لأن الرواية لا تمارس تبئيراً على الحدث بقدر ممارستها على أثر الحدث خاصة بالبطل إسكندر. فالحدث الطارئ اللحظي المهم في تأثيره في حركة النص الروائي يتمثل في وجود امرأة غجرية تقرأ الطالع في ساحة الماسكيتا (وهي ساحة لها حضور دوري في النص الروائي، بوصفها مكانا مهما كاشفا عن روح التعايش المرتبطة بتجاور الأديان الثلاثة). وهذه المرأة تقابل إسكندر وماريا إيلينا، ويهتم إسكندر بعينها التي تسقط من محجرها وتتحرك على الأرضية، ولكن ماريا إيلينا تدرك أنها من ألاعيب الغجر في الضحك على السيّاح الساذجين، ويبتعدان عن المكان.
في هذه الرواية – في ظل استحضار الإهداء إلى روح نصر حامد أبوزيد، وفي ظل وجود تشابهات وتماثلات دالة – لا نستطيع أن نفصل بين شخصية إسكندر أو سعد الدين عن شخصية المثقف والمفكر المصري الكبير نصر حامد أبوزيد، وارتباطه الحيوي بفكر ابن رشد. الرواية بهذا الاقتراب والتداخل بينهما تؤسس وتشير إلى طريق واحد للحركة، يرتبط بحرية العقل والتأويل، فتسليم الكتاب الخاص بسيرة ابن رشد والذي شارك في صياغته المفكر المصري إلى زياد المتشدد المنضم إلى جماعات دينية، يوجهنا في النهاية إلى أن الطريق للانتهاء من هذه الإشكالية لن يتمّ إلا بالفصل بين ما هو ديني، وما هو دنيوي بشري، وأن العقلانية بأطرها الفكرية تمثل مخرجا وحيدا من هذه السلطة القابضة على العقل العربي في كل عصوره المختلفة.
إبراهيم فرغلي: «بيت من زخرف»
دار الشروق، القاهرة 2024
431 صفحة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية