السِّيرة والرُّجلَة وفنّ المطابقة

حجم الخط
0

الكتابة والرُّجلة هما الوصف العام للسيرة الذاتية التي كتبتها مؤخرا الروائية أحلام مستغانمي، الرُّجلة كلمة جزائرية بامتياز، لا يمكن لمن لم يعش في الجزائر أن يحيط بها علما، إنها مصطلح ثقافي يحمل في داخله أشكال المقاومة ضد الاسترجال، فالفرق بين الاسترجال والرجلة واضح وبيّن، الأولى (الاسترجال) حالة تغيير للخلق حين يصبح الجسد موضوعا للتحويل، أما الثانية (الرُّجلة) حالة صناعة تاريخ من البطولة حين تصبح الأنثى موضوعا لفعل نبيل تام وخارق، بلغة أرسطو حين يفرق بين المأساة والملهاة، أن تكون رجلة بلغة جزائرية معناه تكون فحلا/بطلا بمقاييس القصص الشعبية عن الأبطال الخارقين.
هنا فقط نستطيع أن نُوضِّح حالة الكتابة في نص «أصبحت أنت» كيف تحاول البنت أن تكون رجلة كأبيها، وتصنع بطولتها التي تريد، باستنساخ تجربة أبيها، بإنتاج بطولة خاصة بها، بطولة شعرية وأدبية تفتح من خلالها كل الملفات الصعبة والبشعة، لوطن صنع رجالا كبارا، أو رجالا صنعوا وطنا سرعان، ما تنكَّر لهم ليستفيقوا على حفلة تنكرية تتبدى فيها الأقنعة كأن يصبح القواد والحركي بطلا، ويصبح البطل مجنونا. تلك الأقنعة الساترة جعلت المتكلمين في ذلك التاريخ مجرد «ماريونات» تتحرك لتعيد الأدوار التاريخية الكبرى نفسها، لذلك تستعيد السيرة رُجلتها عبر حب البنت لوالدها، لتُعدِّل وضعية التاريخ وتخرج من حالة المريض في السبيطار (المستشفى) إلى حالة التطهير الأدبي.
فالجنون في النهاية مجرد مشروع لم يكتمل بعد كما السيرة نفسها لم تكتمل، تحكي تلك الازدواجية والضبابية في تاريخ السيرة بين «هو وهي» تحركت حالة الانشطار الرهيبة والمكلفة. فهل يمكن أن تتحقق المطابقة بين سيرتين وأفقين وزمنين؟ بهذا توحي لنا سيرة «أصبحت أنت» أي أنّها تمضى في شكل سيرة على سيرة، أو سيرة من وجهة نظر سيرة، ذلك أنّ السيرة الكبرى للأب تعد بمثابة الرصيد، أو لنقل بمثابة الأرشيف للسيرة الصغرى للبنت.
هنا يختلط علينا النموذج الكلي بمفهوم السيرة التي تتعقد علاقتها لا في اتجاه ما يحدث، وإنما في اتجاه ما حدث للوالد، أي أن الساردة تربط عقدها التوثيقي مع سيرة الأب الذي رسم ملامح سيرة ابنته، من خلال الميثاق التعاقدي الذي يربط البنت بأبيها فتحكي عنه لتصل إليها، أو لنقول إنه لا سيرة لها إلا داخل سيرة أبيها، هذا النوع من الحكي يُخلِّص البنت من نرجسيتها وأنانيتها لصالح الانبهار الكبير بسيرة أخرى إلى درجات ذوبان البنت في تاريخ والدها، حتى يخيَّل إلى القارئ أنها ليست سيرة بمعنى الكلمة بقدر ما هي نوع من كتابة الضيافة، وذلك لانمحاء الذات لصالح ذات أخرى عليا متخمة بالنضال والحروب والمعارك والجنون.
وهنا تكون السيرة في مواجهة التاريخ، لما تحمله من معان خطيرة وغير دقيقة، ذلك أنّ السير ليلا يكون في العادة تحت تأثير قوى خارجة عن الذات كمن تلبسه الشيطان بالمس، هي كتابة اللايقين واللاحقيقة، الكتابة عن الأهواء والعواطف والمشاعر الدفينة التي اضطهدها التاريخ، وفق منطق الذكورة الصلب، هنا نكون إزاء شكلين من السيرة:
– السيرة الأبوية الغارقة في الكفاح والجنون.
– السيرة الطفولية الغارقة في الحلم والشعرية.
يمثل الشكل الأوّل الجانب الصلب من كتابة تاريخ رجل شارك بعنف في بناء الاستقلال، وانخرط بجنون في بناء الدولة الوطنية. ويمثل الشكل الثاني الجانب الجمالي السائل من التاريخ، لذلك تتكلم كل أطياف النعومة والسيولة بالعطر والورد والحب.
السيرة التي بين أيدينا تحتوي على 302 صفحة من القطع المتوسط، صدرت عن دار هاشيت أنطوان سنة 2023، تبدأ بإهداء غريب عكس السيرة التي تحمل فيها ذاكرة الأب، فالإهداء هنا هو للأم ويحمل اعتذارا على ما يمكن أن يحمله من أشياء تعتبرها الأم وخزًا بسيطا في حياتها لامرأة أحبّت رجلا ربما مال قلبه إلى غيرها.
في مراوغة غريبة، أن الإهداء الذي جاء متأخرا باعتراف يؤرق شكل الخطاب، إلا أنه اعتراف من جهة البنت التي تحمل أسرار أبيها، أو إهداء بالوكالة عن الأب: «اعتبريه هدية متأخرة من أبي فلا تواصلي معاتبته هناك.. رغم كل شيء لقد أحبك». تحيلنا الإحالة المضاعفة للمطابقة في «أصبحت أنت» على مشروع تفكيكي للأنا، في حالة التلاشي والاضمحلال في تاريخ الأب، لكنه تاريخ مشوب بالحذر والجنون والعبقرية، كل أمراض المثقفين الذين يقتلهم النسيان لتعيد الكتابة في حالة المطابقة مع ضمير الإحالة «هي» التي أصبحت «هو» لذلك لا تتحرك متعة السير إلا في عالم «هو» حيث «هي» مجرد ظل أو بلغة تفكيكية شديدة الصلابة هي مجرد تابع أو طبقة في تاريخ الفحولة، حيث أورثها هواياته ونضالاته التي توسعت دائرتها إلى حد الجنون، فالسير في جنح الظلام أو الدلج يجني على الساردة لتصبح مجرد همس غير معين أو غير محدد إلا من خلال المرافقة الحكواتية له «هو» ما تزال الهيمنة الذكورية تشتغل في نص «أصبحت أنت» حتى تصل الساردة إلى لحظة فاصلة من تشكل وعيها على العالم ليتأسس الحكي في شكلين مختلفين لكنهما مهمان:
– حالة الجنون التي تجسد سيرة الوالد.
– حالة العقل التي تجسد رواية البنت.
هذا التفكيك هو وحده الذي يفصل الرابط بين السيرة والرواية، تتجسد السيرة في الحكاية عن الأب ويتشكل ملفوظ الرواية في الحكاية عن رغبة البنت، وهنا تشكل فارقا علميا بين شكل السيرة وشكل الرواية وما يربط بين الشكلين من ميثاق تعاقدي يردم الهوة بين السيرة والرواية، ولعل مقام هذا المعارضة لا يسمح لنا هنا أن نوسع في دقائق الفرق بين فن السيرة وفن الرواية. تتحدد المطابقة مع الفقد، وحينما يمحى الجسد يصبح مجرد شبح تتوضح الحدود وتتسرب ملامح المعشوق إلى الذات العاشقة، فالمطابقة تتجاوز الشعور المباشر إلى حالة عدم التمييز لتصبح الذات مجرد رأي في المرآة، حالة الانعكاس على سطح المرآة لا تجعل الذات الشبيهة بين صورتين، بل هي صورة واحدة تذوب معها التفاصيل، تلك العلاقة بين السارد والمسرود تتداخل إلى الحدّ الذي تنعدم فيها الكينونة في تاريخ الصورة، أو المتخيّل الذي يتخذ دور البطل، أو لنقل الصورة التي تتعالى لتصبح مجرد بنية مستقلة عن الزمان والمكان، بل يصبح الزمان والمكان فائضين عن الحاجة إذا ما تعلق بالحكاية كلها.

الصورة التي تنمّحي لتصبح أكبر من الشكل العارض الذي يمثله الأب، قد تصبح وطنا لتعيد تلك الحاجة/ الزاوية تشكيل الذات/ البنت/ الأب/ الوطن
«لعلك كنت وطني إذن فقد كبرت الخسارات بعدك».
تتوسع المطابقة في جهات كثيرة من استحضار كل ما كان يملكه الأب ويدافع عنه ليصبح بشكل ما، ما تملكه البنت وتدافع عنه، تلك المطابقة الصورولوجية اضمحلت لصالح مشروع لغوي يتلاعب بحدود الأبوية، ليعيد إنتاج الحكي عن البنت، لتخلق لنا نوعا من السيرة المسترجلة حين تفجر كل قنابل التاريخ التي شارك فيها الأب. «كل ما اقترفت من جرائم حبٍ يمكن أن يسجلّ ضدك، في كل محضر ضبط عاطفي، لم أكن أنا، بل أنت، العاشق المتهم، في كل القضايا الكبرى الخاسرة التي بكيتها، كنت أبكي بعينيك أنت، في كل مرة واجهت فيها لصوص الوطن كنت نيابة عنك، ارفع الصوت وأدفع الثمن في جنوني وبعقلي، كنت تماما كما أردتني أن أكون نسخة عنك». تتضخم سيرة الوالد من خلال تقنية الاسترجاع بين:
– جنون المرض
– مرض التاريخ
حيث يصبح التاريخ هو المرض الأكثر فتكا، الذي يشوه سيرة الأنثى أحلام ويجعلها تحتمي بقناعٍ من جنس الجنون يتحول بفعل ذلك إلى شاعرة، وهو التطابق الكلي بين:
– رجل التاريخ المصاب بالذهان
– أنثى الحال المصابة بعشق التاريخ
يقيم رجل التاريخ (المريض) في النضال ويتنصل من الراهن، وتقيم الأنثى بشعرية لتُشكل تنصلا مضاعفا عن الراهن، تعمل الأنثى على تعرية الحاضر وفضحه وكشف ألاعيبه وكيف أصبح يشكل خطرا على التاريخ.
إما لأنّه ليس في مستوى التاريخ (النضال) لأن السيرة أكثر فلسفة من التاريخ نفسه، وبالتالي حصول الصدمة بين بطولات الماضي، وانهيارات الراهن، حين يصبح أبطال الأمس مجرد باحثين عن الثروة، ويبدأ الجشع والرأسمال، وهنا وبعبقرية شديدة تلعب السيرة على تفتيته.
كلما كان الحكي عن البطولة كانت السيرة، وكلما كان الحكي عن الأنثى كانت الشعرية، لأنه لا سبيل لمواجهة الراهن إلا بتأثيث الخراب الذي يسكنه. هذا النص الجسور والعنيد يفكك عبر لغة شعرية مذهلة كل ألاعيب التاريخ ليصدم بحاضر محنط برواية خاطئة، لتعيد تلك اللغة الشعرية ترتيب حالة خراب الراهن من أجل بلوغ التطهير المطلوب من كل الجنون التاريخي الذي أصبح مرضا عاما.

كاتب جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية