«اعتبار» أسامة بن منقذ: هل هي شهادة التاريخ الذي يعيد نفسه؟

أشهر سيرة ذاتية

ألف أسامة بن منقذ نحو ثلاثين مُصنفا في الشعر والأدب والتاريخ، كتاب «الاعتبار» أشهر هذه التصانيف على الإطلاق. وقد وصل الكتاب في شكل مخطوطة فريدة، غير مكتملة، موقعة بإمضاء ابنه مرهف بن أسامة، ومؤرخة سنة 610 هـ. وُجدت في مكتبة الأسكوريال في إسبانيا، وقام المستشرق الفرنسي هرتويغ ديرنبورغHARTWIG DERENBOURG ، أثناء عمله في تكلمة فهرس العزيزي للمخطوطات العربية، بتحقيقها وطباعتها (1884- لايدن) وقد ألفاها على شكل قطع وأوراق متفرقة في ثنايا مخطوطات أخرى، مُعرفا إياها بـ»النص العربي لسيرة أسامة الذاتية».
كان أسامة بن منقذ قد نيف على التسعين، أو بلغها، عندما أخذ يدون ويستذكر أطرافا من سيرته الذاتية المسماة بـ(الاعتبار)؛ إذ قال: «ولم أدر أن داء الكبر عام، يُعدي كل من أغفله الحِمام. فلما توقلتُ ذروة التسعين، وأبلاني مرّ الأيام والسنين، صرت كجواد العلاف لا الجواد المتلاف، ولصِقتُ من الضعف بالأرض، ودخل من الكبر بعضي في بعض، حتى أنكرتُ نفسي وتحسرت على أمسي». كأنه يُودِعها شهادته للتاريخ، وأي شهادة مثلها اصطبغت بالدم، والمنفى، والشعور بالظلم والزراية، بقدرما تنفست في حضرة نفْسٍ ثابتة كالأشجار، وهمةٍ عالية لم تخضع لشروط العصر المجحفة، ولم تستسلم، حتى وهي في أرذل العمر. أليست السيرة الذاتية غير هذه الشهادة؟ ثُم إنها لا تستحق اسمها إلا إذا كانت لكاتبٍ يعيش مواقف حدية قصية (المحنة والألم، عسر التكيف، القهر السياسي، السجن، المنفى) أو كانت آخر إشارة شهادتية اعترافية يقوم بها على عتبة توديع الحياة. وهو لم يقصر سيرته على ذاته فحسب، بل جعلها ممتدة لتشمل عصره الحَرِج بكل تداعياته وآثاره، كما «لم يقصر عمله على المفاوضات الدبلوماسية؛ فهو قبل كل شيء فكر ثاقب ومراقب نافذ البصيرة سوف يترك لنا شهادة لا تُنْسى في عادات الإفرنج وحياتهم اليومية» كما يرى أمين معلوف.
فالكتاب يشتمل على مادة تاريخية وعلمية غزيرة ومهمة في تنوعها وشموليتها، تتعلق بطبائع المجتمع الصليبي وعاداته الثقافية والاجتماعية، لاسيما أن هذه المادة لم ينقلها أسامة من بطون الكتب، وإنما كان شاهدا بنفسه على كثير منها، أو كان طرفا فيها. وبعضها الآخر سمعه مباشرة ممن يثق بهم مثل، والده وأعمامه الذين كانوا بدورهم شهود عيان عليها، أو سمعه من كبراء القوم، المسلمين والصليبيين، الذين اتصل بهم؛ وذلك على امتداد قرن من الزمن (القرن السادس الهجري/ الثاني عشر للميلاد). وليس بدعا أن نجد المؤرخين والدارسين، بمن فيهم الغربيون أنفسهم، يعودون إليه ويعتمدون عليه في بحوثهم للمجتمع الصليبي، خلال هذا العصر: (أندري ميكيل، أمين معلوف، قاسم عبده قاسم، جيس روسل ورونالد كوهن، إلخ). كما يشتمل كذلك على مادة أخرى تتصل بأسماء الأعلام والأماكن المرجعية، وبمعطيات نادرة تخص جوانب من الحضارة والثقافة والاجتماع (الطعام والشراب، اللباس، الدعوات، الألقاب، المهن والصناعات، البدع والخرافات، مظاهر العمران، إلخ) وتخترقه مصطلحات العتاد الحربي من سيوف ودروع وأحصنة وأسلحة ورتب عسكرية (جَوْشن، منجنيق، قُنْطارية، لامة، كَزاغَنْد، مزراق، مجنوب، حِجْرة، مُقدم، سَرْهَنْك، إلخ).

مذكرات أم سيرة؟

الكتاب في الأصل مُذكراتٌ دونها أسامة بضمير المتكلم، وكانت حياته محور فصولها وأحداثها، منذ نشأته في قلعة شَيْزر، إلى أن شب عن الطوق وانخرط، فتيا، في خوض القتال ضد الإفرنج في حربهم على ديار المسلمين؛ فصار قائدا عسكريا أدلى بسيفه قبل قلمه في هذه الحرب التي سماها الأوروبيون «الحروب الصليبية». وكان أسامة ألحق بسيرته، بعد أن اكتمل له إملاؤها وكتب خاتمتها، مُلْحقا ضمنه بعض حكايات الصالحين وأخبارهم، وصورا من مشاهد الصيد والقنص والجوارح التي حضرها مع أبيه، في سهل الغاب القريب من شيزر، وما حولها، مع رجال عصره وغلمانهم. ولهذا، يظهر من أصل الكتاب وبنيته التأليفية، أنه:
* يعكس نموذج السيرة الذاتية في التقليد العربي الإسلامي، إذ صور لنا صاحبها الجوانب الحياتية المختلفة من حياته؛
*يمثل وثيقة تاريخية لقائد عسكري شارك في الحروب الصليبية ورصد آثارها المدمرة على واقع حياة الناس.
يمتلئ القسم الرئيس من السيرة بالحوادث والوقائع والمواقف والمصائر والمشاهدات والحِكَم التي سردها الأنا السيرذاتي من الداخل، بعد أن عاشها، وتأثر بها، ووجد نفسه في مواجهتها، ثم اعتبر بها. إن هذا الأنا في موقع متقدم من الحكاية، متورط في ما تعرضه ضمن نقلاتها المفاجئة، إذ نجده يخوض في الواقعة المسرودة، ويصنعها، ويستشف منها، بلا ادعاء أو اختلاق بطولة، كما في السير عند الإغريق والرومان القائمة على نظرية (الرجل العظيم). شب أسامة بن منقذ الصبي الذي تحيط به عناية الوالد والعم، عن الطوق مُبكرا وانطلق إلى ساحات الحرب يشارك فيها، مُبارزا شجاعا وقائدا عسكريا، ثُم يسوس تداعياتها المحتملة في ردهات الحكم، بوصفه مُفاوضا وخبيرا استراتيجيا جمع بين الحنكة وسعة الأفق وتدبير المرحلة جيوسياسيا، حسب اصطلاح العصر، بلا أنانية أو تهور.
يسترجع أسامة، في مراحل متقطعة من سيرته، جزءا من تربيته البيتية، وماضيه الشخصي، وسيرته بين أهله وأسرته (الأب، الأخ، العم، الجدة، الابن مرهف..) فيستعيد حوادث ومواقف وذكريات كثيرة منذ أن كان صبيا في قلعة شيزر. وفي سياق السرد، نكتشف تطور شخصية أسامة، وتأثرها بما يجري حولها من أحداث متسارعة. يظهر عليه سمت الإمارة والنبل، ويتميز بالشجاعة، وشدة البأس ومضاء العزيمة، إذ يقبل على حية فيقطع رأسها، ويستقبل أسدا فَيُرْديه صريعا، ويركب حصانين في إحدى المعارك، ويلبس عُدته ويتقلد سيفه حتى في نومه، ويذكر ضربة ضربها بسيفه يوم هجوم الإسماعيلية على شيزر. كما يتميز بالشهامة والكرم والتواضع، إذ يفتدي أسرى المسلمين، وينقذ واحدا من السودان، ويُحسن إلى عُرْبان الجَفْر، ولا تمنعه وجاهته أن يمدح خادمه بقوله: «رجلٌ جيد مقدام»؛ وأن لا يتحرج عن الحديث عن فشله في بعض المواقف. كما كانت شخصيته، على الدوام، تحظى بقدر رفيع من التربية والعلم والأدب، وكان أبوه يحضر له المؤدبين والمعلمين، من أمثال الشيخ العالم أبي عبد الله الطليطلي، الذي كان في النحو سيبويه زمانه: «قرأت عليه النحو نحْوا من عشر سنين، وكان متولي دار العلم في طرابلس». سريع البديهة، مؤمن بالله ومُسلم بأقداره ومجريات حكمه، وحسن التصرف في مواقف شديدة الخطورة؛ فكان عمه يقول عنه: «ما أراك كنْتَ إلا حاضر القلب، ما أدهشك القتال».

زمن الحرب والفتن

كُتِبت السيرة الذاتية في أجواء الحرب التي فُرِضت على صاحبها ووجد نفسه مدفوعا إليها، بل فُرضت على محيطه الإنساني والاجتماعي والبيئي. إنها، بمعنى آخر، سيرة حربية يتشابك فيها الذاتي بالجمعي. فهو يُركز في مجملها، لأكثر من اعتبار وقصد، على وقائع الحروب الصليبية التي عاشها ووقف في مقدمة الجبهة المستعرة ضد جيوش الصليبيين، ومستشارا في الملمات الصعبة التي حاطت به ودُفع إليها من بلد إلى آخر، في فترة حرجة بين ثلاث الحملات الصليبية الأولى، وصراع آل زنكي لاستعادة أراضي المسلمين من الإفرنج، الذين استقروا في مدن وقلاع من طرابلس إلى بيت المقدس. فهذا والده يحضه على ركوب الأخطار، ولم يعد ينهاه عن أي قتال منذ أن رآه يطعن حية ويُرْدي الأسد صريعا. وهذه أمه تُؤْثر أن تموت ابنتها على أن تراها مأسورة عند الإفرنج. وتلك جدته التي عمرت مئة سنة وهي تصلي واقفة، يأخذ بأصالة رأيها. وذاك أخوه الأمير عز الدولة فقد استشهد في قتال غزة. كما يحكي عن شجاعة والده الذي ينجو في معاركه لامتداد الأجل، وعن عمه الذي يمتحنه في مسألة حضور الذهن وقت القتال، والذي يفتدي أسيرة مسلمة كان تزوجها من أيدي الإفرنج.
وفي أطرافٍ أخرى من السيرة، يحكي أسامة عن فتنة في عسكر الفاطمية وعبيدها، ويحارب في صف ابن السلار، ثم يعود إلى الشام في مهمة رسمية ويفضل البقاء فيها ويرسل في طلب أسرته من مصر، ويُعين عباسا على قمع الثورة في القاهرة. وفي عسكر الشام يُسجل أسماء ثمانمئة فارس ويأخذهم للإغارة على الإفرنج، ثُم يصل وفرسانه إلى عسقلان ويواجه الإفرنج، ويستذكر بعض عجائب ما رآه في الحروب؛ من ذلك خذلان عسكر المسلمين بعد انتصارهم، وضرورة العقل في الحرب ووقت القتال. ويمتدح شجاعة النساء اللائي يُقاتلن في شيزر ويُثِرْن غَيْرة الرجال، بمن في ذلك امرأة تأسر ثلاثة من عسكر الإفرنج، وكذلك بطولة بعض الفرسان مثل جمعة النميري الذي «يهاجم الإفرنج، ويدافع عنا ويقتل ثمانية فرسان». ولم يتخلف عن ذلك علماء دمشق، وفي جملتهم الفقيه الفندلاوي والشيخ الزاهد عبد الرحمن الحلحولي، عندما نزلوا في سبيل الله لقتال الإفرنج، واستشهدوا: «فلما قاربوهم قال الفقيه لعبد الرحمن: «أما هؤلاء الروم؟» قال: «بلى!» قال: «فإلى متى نحن وقوف؟» قال: «سِرْ على اسم الله تعالى!» فتقدما قاتلا حتى قُتلا، رحمهما الله، في مكان واحد!». لا يخفي أسامة حنقه على هؤلاء الإفرنج الذين يستنزل اللعنات عليهم، وهو الذي فتح عينيه على جحافلهم الصليبية ونيرانهم الحاقدة، التي أشعلوها في بلاده من أرض الشام، في شيزر وحماة وأفامية. فهم سبب الويلات التي لحقت به ونغصت عليه حياته الهانئة منذ أن كان ابن الثانية من عمره، لكنه يقتحم ساحة الحرب بشجاعة ورضا نفس. ينقل سلسلة من المعارك الحربية والدسائس السياسية والوقائع الطريفة والخطرة التي عايشها، وإن لم يكن يهتم بالتأريخ لها بدقة وتوثيقها بالأيام والشهور؛ فقد يوردها حسبما تسمح به ذاكرته: «وسأورد من عجائبه، ومارسته في الحروب، ما يحضرني ذكره». فهو كان يسرد ويُصور، بأسلوبٍ حكائي يميل إلى الاقتصاد، بدل الاستطراد، وقائعَ حياته التي وجدها متناثرة كمتتاليات في ساحات الحرب ومفاوضاتها، ويصف الناس ومعايشهم التي تأثرت بهذا المناخ ووقعت تحت سمائه الملبدة بالدخان، مثلما يصف أحوال الزمان الذي لم يَخْلُ من قسوة وجبروت وتعصب. وإذا كان أسامة لم يلتزم في سرد سيرته نمط التسلسل الزمني، حيث لا تجري السيرة بطريق التذكر والاسترجاع على نسق تاريخي أو ترتيب كرونولوجي مُنظم، لكن يمكن إعادة ترتيب المتن الحكائي الذي تحكيه ذات السارد، منذ الطفولة حتى قبيل وفاته بزمانٍ يسير.
تبقى الوظيفة الأكبر مما جرى هو استخلاص العبرة، فإن شهادة التاريخ لا تسقط بالتقادم إلى أيامنا، وما أشبه زماننا بزمان أسامة، بل قُلْ ما أشبه قلعة شيزر بقطاع غزة؛ حيث كثرت الأباطيل، وسقطت الأقنعة، وغلبت الأطماع، واختل الأمن، وتخلت النخب عن أدوارها ومهامها الحقيقية، وتفشت قيم الخوف والهزيمة والانحطاط، التي تصالحت معها وسائط العصر الرقمية وأعانت عليها.

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية