في ديوان «حينما تمضي حرا»: سيرة ذاتية مباشرة

في دنيا الشعر يتماثل الواقع مع الخيال المحض أحياناً ويصعب التفريق بينهما، وكلما نضجت أدوات الشاعر اقترب من بناء عالمه الفني بطريقة لا تسمح للخيال أن يكون وشلا يدعو للأسى، أو أن ينفلت من زمام العقل. هنالك أيضا لمسة الشاعر في استعارة بعض العناصر من واقعه الخاص، أي من تجربته الشخصية في الحياة، كما أنه يلجأ في بعض الأحيان إلى حيل ووسائل حسية لإضفاء نوع من الرونق والرواء على ما يقوم به من عمل، وتأتي في الأخير الخطوةُ الأهم، وهي محاولة إقناع القارئ أن ما أمامه في القصيدة ليس خيالا على الإطلاق، لأنه مرتبط بأحداث واقعية جرت له أو لغيره، وقد آلت إليه في هذا الصورة بواسطة صنعة الفن.
في مسرحية «حلم ليلة صيف» يضع شكسبير العاشقَ والمجنون والشاعر في صف واحد: «إنهم ممتلئون جميعا بالخيال/ وعين الشاعر، إذ تدور في هياج جميل، تنقل الطرفَ من السماء إلى الأرض، ومن الأرض إلى السماء». الهياج الجميل إذن، بالاشتراك مع عين الخيال، يصنعان القصيدة العظيمة، وميزة هذه أنها تمكننا من الاقتراب من العالم الذي نعيش فيه أكثر لغرض اكتشافه، وهذه إحدى المفارقات التي يلاقيها الدارس لفن الشعر، فكلما ازداد الشاعر تحليقا في فضاء خياله صار أقرب إلى دنيا الواقع. نستطيعُ عدّ هذا الأمر دليلا على امتلاك الشاعر قدرة هائلة من الملاحظة والمثابرة، فهو يريد أن يرى من واقعه أكثر من أي شخص آخر، وبالتالي يعيش حياته بطريقة أوسع. كما أنه يخزّن بهذه الطريقة قدرا أكبر من الحقيقة التي تمثل التاريخ، ولهذا السبب نحن نعرف ما يدور في حقبة زمنية معينة، بواسطة كتب الشعر، أكثر مما تقدمه لنا الصحف الصادرة في ذلك الزمان، ولهذا السبب أيضا تموت الصحيفة اليومية بعد زمن قصير من تاريخ صدورها، بينما يظل القراء يطلبون كتب الأدب، رغم مرور مئات وألوف السنين على تأليفها.
يفتتح عبد الزهرة زكي ديوانه «حينما تمضي حراً» بحديقة مبتكرة يؤكد فيها عزلته مرتين، الأولى في ابتعاده كثيرا عن محيطه الذي يعيش فيه، والثانية في عنوان المكان الذي أطلق عليه اسم (حديقة الخواص) وهو عنوان القصيدة أيضا، يزوره فيها الشحاذ الأخرس، وامرأة تعرف عليها الشاعر في رواية فرنسية من القرن التاسع عشر، وكذلك الأرملة العاقر، والمعلم الرواقي، والجندي، والملك المنفي الذي «لم يبقَ من مُلكه غير الروح» ويأتي معهم أيضا الموسيقي الأعمى والشاعرة والحكيم، «يأتون فرادى في الليل/ في كل ليلة/ حين يكون الشاعرُ وحيداً في حديقةِ خواصه». يقدم عبد الزهرة زكي لضيوفه الكؤوس، والخبز: «وحتى إذا ما انفض الليل/ وانفض معه الزوارُ الليليون اللا مرئيون/ فرادى/ لا أحد يرى أحداً/ يودعهم الشاعر..» ثم يلتقط من الموائد فتات الكلام والنبيذ والضوء والخبز، يكتب بها قصيدته، ولا يعرف القارئ شيئا آخر عن شخوص اللقاء، سواء قبل حفلة العشاء هذه، أو بعدها. في قصيدة أخرى عنوانها «الحياة الحقة» يرى زكي في إطلالة عبر شرفة منزله طريقا تزدحم فيه العجلات، مع ساحة تنتصب فيها التماثيل، وتحل مع الاثنين، من أجل أن يكون المكان خاصاً بالشاعر، الصحراء البعيدة: «حياةٌ ثانية كانت لي تحت الشرفةِ/ في الشارع/ في الساحةِ/ قرب الصحراء/ لكن حياةً أخرى/ غيرهما كانت لي».
تتكرر الحدائق في هذه المجموعة الشعرية: (حديقة العشق) (حديقة الخلاص) (حديقة النسيان).. وغيرها مما لا يمكن تحقيقه لو لم تسكن اللهفة الشديدة إلى التجديد (أي الهياج الجميل بتعبير شكسبير) قلبَ الشاعر. ورغم المصاعب التي تحيط بموضوع اضطراب الحواس، نرى عبد الزهرة زكي يحاول خلط التراب مع الذهب في حديقة (الحرية) ويصنع منهما تمثالا طائرا، ثم «مسد الشاعرُ الجناحين بهمسٍ منه/ فارتفع بهما الطير» ويمثلُ أمامنا في النهاية سؤال عن علاقة التبر والتراب مع الطائر، وليس هناك ما يشير إلى جواب، حتى لو أننا فتشنا أنحاء وزوايا هذه الحديقة، وتطلعنا إلى سمائها متأملين وباحثين. توصف اللغة في الأدب الحديث بأنها هروبٌ تلمح أكثر مما تؤكد، مستظلة دائما ببلاغة شاحبة وظيفتها تحريك السواكن وإيقاظ الوعي، لكن ما يطلبه عبد الزهرة زكي لا يتحقق بواسطة النثر، بسبب قوانينه التي لا تسمح بانفلات الخيال إلا بنسب محسوبة لو تجاوزها الكاتب دخل في منطقة الوهم الحرام. وهنا تكمن فائدة التجريب، تتحول القصيدة فيه إلى نوع من الأحلام، وعندما يغالي الشاعر في قدرة الخيال يصبح الحُلم بعيدا وقصيا جدا، المعيشة فيه تشبه السباحة في فضاء كوكب جديد، كما يتحول الإنشاء الشعري إلى لعبة من المعاني لا يتسلى بها أحد غير الشاعر، وربما يشاركه بعض القراء ممن يستطيع أن يحل شِباك عُقد قصيدته، وهذا الأمر يفسر سبب انزواء الشِعر في الوقت الحاضر عن الجموع، ولجوئه إلى أماكن لا تطأ أرضها أقدامُ عامة الناس.
يُعد عبد الزهرة زكي أحد الأصوات المتميزة في الشعر العراقي، ويُحسب له بالإضافة إلى ذلك موهبة استطاع أن يديمها بما تحتاجه من هواء شعري ونسغ نثري صافٍ، مصدره الخبرة في حياة الصحافة والأدب، بالإضافة إلى التجربة في الحياة، وفي السنين الأخيرة اجتذبه عالم السرد فجرب كتابة الرواية.
إننا نعلم اليوم عن حياة شعرائنا الأقدمين أكثر من ناثرينا، فسنين طرفة بن العبد والنابغة الذبياني والشنفرى، مشغولة بأحداث نتبينها في قصائدهم، بينما تقدم لنا مؤلفات الجاحظ مسيرة غسقية في أرض رمادية ومناخ لا نرى فيه شيئا تقريبا من حياة الرجل، وهذا يعود إلى الاختلاف الجوهري فيما يبدو بين عالمي الشعر والنثر، ولو لم ينشأ أدب المذكرات في العصر الحديث لصح هذا الكلام عن أدب اليوم. حاولتُ مرةً دراسة شعر سعدي يوسف من خلال حياته المبثوثة في كتبه الشعرية، وحضرتْ ثلاثة عناوين رئيسة لدى الشاعر مباشرة من الذاكرة، لتؤرخ وتلخص سنوات ترحاله في دروب الحياة، والشعر:
الأخضر بن يوسف، وقصائد أخرى قصائد باريس، شجر إيثاكا والشيوعي الأخير
طفولة الشعر تختلف عن فتوته، وهذه لا تشبه بالطبع الدرجة الثالثة من السلم، التي سوف تتسع، وتتسع، ولن يأتي يوم تنتهي عند تخومه. التقسيم الثاني لحياة الشاعر قام به سعدي يوسف نفسه في ديوانه «حياة صريحة»؛ سبعة فصول حواها الكتاب هي كل ما رأى الشاعر في دنياه: العائلة، المدينة، النضال، السجن، المرأة، الحانة، النهر. بينما تمر الحياة، تظل القصيدة مرآة يرى فيها الشاعر وجهه وسط واقعه الموجع والمُسِر، ووسط أيامه الناعمة والقاسية وعديمة اللون، ووسط دفقات القلق ونوبات ذعر القلب، اللتين تتقاطعان مع رؤاه السحرية في النهار والليل.
للشاعر المكسيكي خوسيه إميليو باتشيكو هذه الكلمات المضيئة: الشعر الذي أبحث عنه/ يشبه دفتر المذكرات/ حيث لا خطة ولا قياسات». الحياةُ حين تُكتبُ شعرا تهبُ لنا حيواتٍ أكثر، ولكي يبقى ذِكرُ الشاعر، لا بد أن تتحول سنين عمره إلى قصائد تتداولها الأجيال، بخلاف القصة والرواية، حيث يتوارى المؤلف خلف الأضواء، لأن ظهوره يُفسد العمل من أساسه، كلما عمد الشاعر إلى تقديم سيرته الذاتية المباشرة إلى القارئ، صار يقتفي آثار قَدَره الشعري والطبيعي في الوقت نفسه، ونتاجُه في الحقيقة ما هو إلا نسخ لهذا القَدَر، يطلع عليه القارئ دون إضافة أو طرح، ومن غير تزويق ورتوش.

كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية