بطرس المعري في بيروت: عن الحروب والحب والهواء الملوّث بالسموم

حجم الخط
1

يتوقع الزائر لأي معرض للفنان السوري بطرس المعري، خاصة من يعرفون تفاصيل فنه وأسلوبه، أن يلتقي عن قرب وحميمية ويلامس يوميات حيّة من بلده الأم، تظهر بشكل جلي في معظم لوحاته، وأن يسير معه في رحلة يمكن أن تبدأ من ساحة باب توما في دمشق، وصولاً لأحد مقاهيها الصغيرة أو أحيائها القديمة، وهو يسمع اختلاط أصوات وروائح وحكايات حب وحرب.
لم يخرج معرض المعري الأخير في غاليري «كاف» في العاصمة اللبنانية بيروت عن هذا الخط كثيراً، إلا أن قرار الفنان بأن يطلق عليه «سمٌّ في الهواء»، وهو عنوان الرواية الأخيرة للكاتب اللبناني جبور الدويهي، الذي رحل عنا مؤخراً، يعطي أبعاداً جديدة ومختلفة للمعرض الذي ضم قرابة أربعين لوحة متباينة الحجم والموضوع. أبعاد تتسم بالسوداوية حيناً، والحنين حيناً آخر، ومزيج فريد من الثقل والخفة، يلمسها قارئ الرواية، وزائر المعرض أيضاً، الذي يخرج من نطاق الحديث عن سوريا ليحكي عن سمِّ يجتاح هواء المنطقة برمتها، خاصة أن الرواية تعايش كل الأحداث المفصلية في لبنان خلال العقود الأخيرة. «السماء قاتمة والشيطان يتحكم في الدنيا وسينحبس المطر عقاباً لمرتبكي الخطايا»، تكتب والدة بطل الرواية في نهاية إنجيلها قبل وفاتها، ويقول وهو راوي الحكاية بأن «الميل إلى الخراب لا يأتي مما يحدث معنا في يوميات الحياة، بل مما نحمله داخلنا ولا نعرف متى يخرج إلى العلن ولا يمكننا التحكم فيه». نلمس هذا الجو في المعرض الذي يغلب السواد على لوحاته، وحتى على معظم جدران صالة العرض في تآلف جميل، رغم قتامته، وينحسر قليلاً ضمن مجموعات تبدو وكأنها تواجه الموت والحزن بالحب والألوان وبعض الأمل.
كما يضم المعرض المستمر حتى الثامن عشر من الشهر الجاري، كتابي المعري (خريج كلية الفنون الجميلة في دمشق عام 1991)، المعنونين «كيوبيد الدمشقي» (2018) و«رؤيا الدمشقي» (2021)، الصادرين عن دار أطلس في دمشق، فيمكن تصفحهما أثناء الاطلاع على اللوحات، أو اقتناؤهما.

زوارق وثور وزمن جميل

على الأغلب ستكون الثلاثية السورية التي تحتل أكبر جدران صالة العرض، هي أول ما يلفت الزوار لتأمل تفاصيلها الغنية، التي تبين انتقال المدينة من حالة الهدوء والسكينة، رغم غليان يتضح في بعض أجزائها، إلى حالة الحرب والدمار، بل لنقل الخراب على كل المستويات، إذ نرى أماً ثكلى مفجوعة بابنها، وموتاً في كل مكان، وحمامة تحمل غصن زيتون في فمها وتحاول الهروب. ويهدأ المشهد قليلاً في الجزء الثالث مع مجموعة من القوارب التي تحاول العبور إلى بر الأمان، أو «الهروب» كما يفضّل الفنان نفسه استخدام المصطلح، ويتابع رسم تلك الزوارق الورقية الصغيرة خارج اللوحة وعلى الجدار، كاتباً تحتها عبارة «سنرجع يوماً» وتعكس أمنية شخصية وجماعية. ثلاثية مقابلة تحمل عنوان «سمٌّ في الهواء»، وتبدو فيها أيضاً حالة من عدم الاستقرار والصراع المدمر الذي يقلب الأمور رأساً على عقب، وأشخاص يَقتلون وآخرون يُقتلون، وفي الزاوية السفلى اليمنى جزء من دمار مرفأ بيروت وهو حدث ختم به الدويهي روايته. وسط الثلاثية نعود لرؤية زورق صغير، على أمل أن يكون قادراً على إنقاذ ما يمكن إنقاذه من هذه «المعمعة»، والهروب بهم، وبجانبها بورتريه صغير للدويهي ضمن إطار خشبي وزجاجي. تعود الزوارق للظهور في مجموعة مجاورة مؤلفة من خمس لوحات، بطلها هو «الثور»، نراه تارة يلعب بكرة صغيرة، إما بقدمه أو بقرنيه، وأحياناً واقفاً وأمامه كرسي خيزران كالذي اعتدنا رؤيته في معظم المنازل والمقاهي الشعبية السورية، وفي إحدى اللوحات يظهر هذا الكرسي مقلوباً بطرف مكسور. لا نعلم إن كان الثور هو من خرّبه، ووقف بعدها مزهواً ينظر إلينا، أو أنه جاء بعد الخراب حاملاً الزورق الورقي على رأسه كطوق نجاة حتى إن كان هشاً.
وفي تناسق لافت، تتجاور إحدى وعشرون لوحة صغيرة، تتفاوت مواضيعها بشكل كبير، لكن لا يصعب العثور على ما يوحدها: تفاصيل «من الزمن الجميل» كما يحلو للفنان أن يكتب على إحداها؛ كيوبيد الدمشقي يطير في عتمة الليل؛ عنترة وعبلة على صهوتي حصانيهما مذكرَين بفناني الرسومات الشعبية مثل أبو صبحي التيناوي وبرهان كركوتلي، الذين أثروا في مرحلة سابقة على عمل المعري؛ أشجار زيتون؛ برتقالة صغيرة؛ وصولاً لأمور أكثر إيلاماً، مثل انفجار مرفأ بيروت، وثور بوجه متألم كتبت فوق بالفرنسية كلمة «الحرب».
ولا تغيب الزوارق حتى ضمن مجموعة أخرى مختلفة عن كل ما سبق، وهي أربع لوحات تظهر فيها أجزاء من أجساد عارية، يمتزج فيها الطابع الحسي والجمالي بعنف لا يمكن إغفال ملاحظته، مع مسامير أو دبابيس تخترق تلك الأجساد، لكن الزورق الورقي مجدداً يكسر حدّة هذا العنف.

هواء ملوّث

لم يكن اختيار عنوان المعرض بالمهمة السهلة، فمكان العرض هو بيروت، التي كانت وما زالت واحدة من أهم العواصم الثقافية، والمنطقة كلها تعيش اضطرابات متتالية باتت هي الإيقاع اليومي لحياة الملايين من سكانها، وفي الوقت ذاته فإن اللوحات، كما هي عادة الفنان في معظم معارضه، متنوعة وليس بالضرورة أن تكون هناك ثيمة أو ألوان أو قياسات توحدها. «ونحن في مرحلة اختيار العنوان واستكمال اللوحات، كنت أعمل لإتمام ثلاثية لم أكملها منذ سنوات، وهنا خطر ببالي الدويهي وبيروت والتفجير، ورأيت أن المدينة التي أعطت الكثير للعالم العربي تستحق أن نقدم لها تحية ومساهمة، لنقول إنها ما زالت موجودة كمكان يعرف كيف يقدم ويتلقى الأعمال الثقافية»، يقول المعري المقيم في مدينة هامبورغ الألمانية في حوار مع «القدس العربي». بذلك اكتمل العمل على الثلاثية ضمن هذا المنحى، وعنوان وتفاصيل رواية «سمٌ في الهواء» تدور في ذهن الفنان: «يمكنني أن أقول إنه عمل فني من صلب ما نعيشه، ومحاولة مني لأن أحس بالآخرين وأتشارك معهم آلامهم»، يضيف، ولا ينكر بأن الاسم ودلالاته تحمل الكثير من الثقل، «لكن السم موجود في الهواء فعلاً، لماذا المواربة؟ الهواء ملوث في بلادنا، والناس يستحقون أن يعيشوا بشكل أفضل».
وكما في كل أعماله السابقة، سواء كانت لوحات، أم كتباً، أم مجموعات الرسومات التي ينشرها بشكل دوري على صفحته على فيسبوك، يرغب المعري أن يقدم للمتفرج ما يمكن أن يحبه ويتآلف معه ويحرضه على رؤية زوايا وأفكار مختلفة كل مرة، وأن يشدّ الأشخاص غير المهتمين بالفن عموماً وغير المطلعين، لتصبح زيارة صالات العرض أمراً مألوفاً بالنسبة إليهم، ويخرج الفن من حالة نخبوية كثيراً ما يتسم بها. وهنا يقول: «أعتقد بأن هناك ميزة في تنوع مواضيع اللوحات وتسلسلها بشكل تدريجي متناغم، إذ يمكن للزائر أن يأخذ انطباعات عن الحرب والعنف والمأساة، وأن يشاهد طبيعة صامتة، ولوحات حسية، وأخرى بمواضيع طريفة يسهل التآلف معها. أشعر بسعادة حقيقية عندما أرى ابتسامة ترتسم على وجوه الزوار، فرغم جدية ما أطرحه، أستطيع أن أدخل بهجة إلى قلوبهم».
ولعل هذا ما دفع الفنان قبل أن يغادر عائداً إلى مكان إقامته الأوروبي، إلى أن يرسم على أحد الأبواب الداخلية لصالة العرض حمامة تحمل غصن زيتون وتطير وسط مجموعة من الأوراق والأغصان، ويكتب وسطها «صباح الخير أيها الأصدقاء. سلام». كأنها تحية للزوار والبلاد بأكملها.

كاتبة سورية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول بلي محمد من ارض المملكة المغربية:

    فقط بعض النقط نضعها في فضاء هد ا الفن الدكي العظيم الدي لايشيب المحير التشكيل وما ادراك لكن ادا سمحثم شكرا وأزوج الشكر بابتسامة التشكيل مثله مثل باقي الفنون المتميزة المحافظة على أسرارها و ستظل وسيلة من وسائل التعبير لكن بطرق فنية عالية عالمه الواسع جد ا مليئ بااللوحات مختلفة لاشكال والمعاني كدالك رسمت من طرف أقلام ريشة متميزة جد ا شربت من نهره الدي لاينفد و نكرر الكلمة سيظل التشكيل يفاجئ وتكتب عنه لاقلام مادام هد ا الوجود وتحية لكاتبة السطور المحترمة

إشترك في قائمتنا البريدية