الكاتب العربي المعاصِر والسلطة: بين المثقف «العضوي» والمثقف «التابع»

ليست معظم اتحادات الكتاب العربية سوى نوافذ رسمية للأنظمة العربية، تمارس من خلالها الرقابة على الكتاب عموماً، لرصد اتجاهاتهم الفكرية، ومعرفة السبل الواجب اتخاذُها لإركاع المشاغبين منهم وتدجينهم، مع ملاحظة وجود اختلافات نسبية في هذا القطر العربي أو ذاك.
أغلب الأنظمة العربية الحالية لا تُقِيم وزناً للثقافة، أوتُجِل مُنتِجيها، أو تحفل بتحسين أوضاعهم المعيشية، أو تجهد في منحهم حرية الرأي والتعبير؛ بل إن استراتيجيتها تنهض على تجويعهم، ومراقبتهم، وتضييق هامش الحرية عليهم، ولاسيما إذا كانوا مناهضين لسياستها، أو يتبنون فكراً مغايراً لما تقدمه في وسائل إعلامها؛ ولذلك لا عجب أن نجد معظم الكتاب الكبار يعملون من خارج هذه الاتحادات، ويمارسون دوراً فكرياً يتعارض معها، ويرفضون أن يكونوا أبواقاً لها، في حين تحاول هذه الاتحادات، التي هي بديل عن السلطة ونائب لها في حقلي الثقافة والسياسة، أن تغريهم ببعض الخدمات الاجتماعية، كالطبابة والتقاعد وما شاكل ذلك؛ ليقبلوا بتبني مشاريعها واستراتيجياتها، ويلوذوا بالصمت، ويغضوا الطرْف عما تقوم به في حقول الثقافة والتربية والإعلام من تزييف للوعي، وإعادة قولبة للعقول، وخلق نماذج شائهة يمكن أن تندرج في القطيع، وتتماشى مع آلية التطابق والتدجين التي تعمل على نشرها وإشاعتها في الفضاء الثقافي العام، لخنق معالم الفرادة والإبداع والخروج على النسق الثقافي المشتَرَك.
وما أكثر الكتاب العرب الذين يقبلون بالانضواء تحت لواء السلطة، ويندرجون في سياساتها، ويحققون لها ما تريد، ويكونون عوناً لها في التلصص على الكاتب، ومعرفة السبيل الأنجع لإكمال الهيمنة عليه وتدجينه، وإدخاله في جوقة المطبلين لها، والعاملين على تجذرَها، وإدامة استمرارها، بل ما أكثر المثقفين الذين يرفعون شعارات تدعو إلى الديمقراطية، لكنهم يحاربون في الوقت نفسه زملاءهم المثقفين، ويكيدون لهم عند السلطة نفسها، ويكونون أكثر عدوانية وتسلطاً عليهم من السلطة نفسها، ولا يجهرون بكلمة حق في الدفاع عنهم، أو يقفون إلى جانبهم لرد الحيف والظلم النازل بهم!
أجرت قناة «الحرة» في السنة الأولى من انطلاقتها، حواراً مع الشاعر السوري الراحل شوقي بغدادي حول تجربته الأدبية، وعلاقته باتحاد الكتاب العرب في دمشق، وسأله المذيع وقتها عن الإنجازات التي حققها الاتحادُ للكتاب السوريين، وكان جواب بغدادي: «إن أهم ذلك هو الطبابة، والتقاعد، وتأمين الدواء في حالة المرض». وقد جاء جواب بغدادي مُتواقتاً مع ما صرح به الأديب السوري الراحل ممدوح عدوان (1941- 2004) على فضائية «المستقبل» من إهمال الاتحاد له رغم إصابته بالسرطان، وكيف أن رئيس الاتحاد علي عقلة عرسان تعامى عن وضعه الصحي آنذاك، وتقصد إدارة الظهر له، ولم يستفسر عنه، أو يقف إلى جانبه في محنته الصحية، مع أن المسافة بين منزل عدوان ومقر الاتحاد لم تكن تتجاوز أمتاراً معدودة آنذاك!

الكاتب العربي بوصفه بصاصاً

وفي ضوء ما هو شائع عن العلاقة المتوترة التي تقوم بين الكاتب العربي والسلطة، ليس غريباً أن تُصِم اتحاداتُ الكتاب آذانَها عن أصوات المثقفين المستقلين، وتمارس دور الأخرس والأصم في الإنصات إلى مطالبهم، وتُضيق عليهم سبُل الحياة الحرة الكريمة، وتختار من بينهم من يصلح لدور (كاتب التقارير) و(البصاص) فتقربه إليها، وتجعله نافذ الكلمة فيها؛ بحيث يصبح ذا حظوة بين شرائح العاملين في حقول الثقافة والكتابة والإعلام، ويندفع بعضهم للتقربَ منه، والتزلف إليه، والكتابة عن إبداعاته التي تجاوزت في نظر بعضهم، فضاء هذا القطر العربي أو ذاك، وأهلته لأن يكون متنبي زمانه. ولذلك لا عجب أن يكف المهتمون بالثقافة ومحبو الكتاب عن حضور الأنشطة الثقافية المختلفة التي تقيمها اتحادات الكتاب في معظم الدول العربية، وأن تغدو قاعات هذه الاتحادات فارغةً تصفر فيها الريح، ولاسيما بعد أن فقد المتلقون ثقتهم بهذه الاتحادات، وأدركوا تهافت بعض الكتاب ، وشاهدوا بأم أعينهم تخليهم عما رفعوه من شعارات كي يحظوا بالتقرب من السلطة، ويستمروا في اعتلاء (الكراسي) والمناصب في بلدانهم.

معاقبة الخارجين على النسق

ولم يكن حال الكتاب المصريين في عصر النهضة عموماً بأفضل حالا من الكتاب العرب في وقتنا الحالي، رغم أن بعضهم اندغم بالسلطة وأمسى جزءاً منها، ولعب دور المثقف الخبير الداعم لها، والمحدث لبنيتها التكنولوجية كعلي مبارك، فقد مارست السلطة السياسية في عهد الملك فؤاد الأول (1868- 1936) دورها في التضييق على المفكر المتنور علي عبدالرازق (1888- 1966) وناصرت المتشددين من رجال الدين في إقالته من منصبه في وزارة الأوقاف، ووافقت على إخراجه من زمرة كبار العلماء في الأزهر، وفصلته من عمله بوصفه قاضياً شرعياً، عقاباً له على اختراق النسق الثقافي السائد، ودعوته إلى رفض فكرة الخلافة، وفصل الدين عن الدولة في كتابه «الإسلام وأصول الحكم» 1925، وعلى الرغم من أن علاقة طه حسين (1889-1973) بالسلطة مرت بتحولات كثيرة، وجعلته يستجيب للمشاركة في تولي مناصب فيها كمنصب وزير المعارف، وينتقل من مرحلة المثقف العضوي المتمرد في عهد الملك فؤاد الأول (1868- 1936) إلى مرحلة المثقف المهادن في عهد الرئيس جمال عبدالناصر (1918-1970) إلا أن السلطة في عهد عبدالناصر أدارت ظهرها إليه، وحاولت تركيعه، ولم توفر له حياة مستقرة، أو تتحمل نفقات علاجه في الخارج، حين اضطر إلى إجراء عملية جراحية، كما أنها تراجعت عن استكتابه في صحفها الرسمية، ولم تغدق عليه المال بسخاء كما فعلت مع الموالين لها، وفي مقدمتهم محمد حسنين هيكل (1923- 2016) ما أجبر زوجته سوزان بريسو (1895- 1989) على حمل طفليها ومغادرة مصر إلى باريس، خوفاً عليهما من الهلاك جوعاً، كما أن السلطة نفسها أدارت ظهرها لابنه مؤنس (1922- 2002) ولم توفر له فرصة عمل كريمة في القاهرة، مع أنه كان قد حصل على درجة الدكتوراه في تخصص علمي دقيق كانت مصر في أمس الحاجة إليه في ذلك الوقت، ما ملأ نفسه بالأسى والمرارة، وأجبره على مغادرة مصر، والبقاء طيلة حياته في باريس، كما ذكرت أمه سوزان طه حسين في كتابها «معك» الذي ترجمه بدر الدين عرودكي، وصدر عن دار المعارف في مصر في عام 1977، وقد أكمل الرئيس أنور السادات (1918- 1981) ما قام به سلفه في مناهضته للمثقفين المصريين، فوضع المعارضين منهم في السجون، وعذبهم، وقتل بعضهم، ولم يسلم من أذاه وشروره إلا القلة، واستمر الحال في عهد حسني مبارك (1928 ــ 2020) على ما كان عليه في عهد السادات، ولا يزال المثقفون المصريون يعانون الأمرين في عهد السيسي، وهو ما ترشح به كتابات عمار علي حسن، وسعد القرش وغيرهم من أدباء مصر ومثقفيها في الوقت الحالي.

صنع الله إبراهيم أيقونةً ورمزاً

وليس ببعيد عنا أن كاتباً جهير الصوت مثل صنع الله إبراهيم ثابر على معارضته لنهج مبارك وسياسته، واعترض على ممالأة وزير الثقافة فاروق حسني للسلطة، وتأييده المطلق لها، وتحوله إلى بوق صادح باسمها، واتخذ من منحه جائزة ملتقى الإبداع الروائي العربي الثاني في القاهرة في عام 2003 فرصة للجهر بمعارضته لها، ولم يشأ رفض الجائزة قبل تسلمها، بل وقف إلى جانب وزير الثقافة فاروق حسني، وأمين المجلس الأعلى للثقافة جابر عصفور (1944-2021) آنذاك، وتلا بياناً جاء فيه: «ولا يراودني شك في أن كل مصري هنا يدرك حجم الكارثة المحيقة بوطننا، وهي لا تقتصر على التهديد العسكري الإسرائيلي الفعلي لحدودنا الشرقية، ولا على الإملاءات الأمريكية، وعلى العجز الذي يتبدى في سياسة حكومتنا الخارجية، إنما تمتد إلى كل مناحي حياتنا… تفشي الفسادُ والنهب في وطننا، ومن يعارض ذلك يتعرض للامتهان والضرب والتعذيب. انتزعت القلةُ المستغلةُ الروحَ منا، وأمسى واقعنا مرعباً… كل ما أستطيع فعله هو أن أشكر مرة أخرى أساتذتي الأجلاء الذين شرفوني باختياري للجائزة، وأعلن اعتذاري عن عدم قبولها، لأنها صادرة عن حكومة لا تملك – في نظري- مصداقية منحها؛ وشكراً» وأكمل صنع الله إبراهيم توضيحه لما حدث بعد ذلك قائلا: «إن وزير الثقافة الأسبق فاروق حسني نفّذ خطة ذكية جداً في مصر لاحتواء المثقفين، وإبعادهم عن السياسة، ودعا إلى التفريق بين ما هو ثقافي وما هو سياسي، وأن يكون المثقف صاحب رأي معارض للنظام سياسياً، وفي الوقت نفسه يعمل ضمن مؤسساته، تطبيقاً لقاعدة التفريق بين ما هو سياسي وما هو ثقافي».

جابر عصفور والوقوع في الشبكة

كما وقع في شرك السلطة وإغراءاتها المادية ناقدٌ ومفكرٌ متنور طويل الباع هو جابر عصفور، إذ وافق على تسلم جائزة القذافي العالمية في الآداب في دورتها الأولى في عام 2010 ومقدارها مئة وخمسون ألف يورو، بعد أن رفض الكاتب الإسباني خوان خوتسيلو الترشح لنيلها، وقد سوغ عصفور قبوله لها بأنها ليست جائزة في حقوق الإنسان ليرفضها، بل هي جائزة في الأدب ونقده، ومن حقه أن يقبل بها ولو رفضها خوتسيلو نفسه، ثم تراجع عن موقفه ذاك بعد عام من نيلها، وقرر التنازل عنها مسوغاً رفضه لها بأن النظام الليبي ارتكب مجازر دموية بحق الليبيين أودت بحياة الآلاف منهم، ولذلك لا يشرفه أن تكون جائزة القذافي من بين الجوائز التي حصل عليها طوال مسيرته العلمية، وأوضح عصفور إثر ذلك أنه سيبحث عن طريقة ملائمة تمكنه من رد الجائزة إلى الشعب الليبي العظيم، ثم تراجع مرة أخرى عن تصريحه، وأكد في حوار مع صحيفة «اليوم السابع» (الثلاثاء1 مارس/آذار 2011) أنه لن يرد قيمة الجائزة المادية، بل سيحتفظ بها؛ لأنها منحة الشعب الليبي له، مردفاً أنه تنازل معنوياً عن اسم الجائزة، وتبرأ منها، أما القيمة المادية للجائزة، فسوف يحتفظ بها لأن لجنة التحكيم التي منحتها له تتكون من شخصيات عربية ودولية محترَمة، وتمثل العالم العربي والغربي، ولذلك لا يجوز أن يعيد مال الجائزة إلى الشعب الليبي، كما أن رفضها يشكل ـ في رأيه ـ إهانة لمبادئ الجائزة، وللجنة التحكيم التي يحترمها، ولذلك لن يقلل من احترامه لها بإعادة قيمة الجائزة المادية للشعب الليبي».
ومعلوم أن عصفور لم يكتفِ بقبول جائزة القذافي حسب، بل قبل أيضاً باستيزاره لوزارة الثقافة المصرية عندما كان الملايين من أبناء شعبه يهتفون بسقوط مبارك وإنهاء نظامه، وقد استنكر المثقفون الليبيون والعرب ما فعله، وكتب كثيرون منهم يطالبونه بالاستقالة؛ ما أجبره على التنازل عن كرسي الوزارة أيضاً، بعد أن أمضى تسعة أيام يعتليها. وليس حال المثقف العربي في الدول العربية الأخرى بأفضل حالا مما هو الحال في مصر، فقد ذكر حكيم مرزوقي في مقال أنه حين توفي المفكر والمؤرخ التونسي هشام جعيط اكتفت الجهات السياسية الرسمية بنعيه من خلال كلمات مقتضبة، ولم يشارك في جنازته من الرئاسات الثلاث والأحزاب السياسية الوازنة في البلاد، سوى رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي، في خطوة وصفها مراقبون بأنها (ضربة معلم) في إشارة واضحة إلى أن الزعيم الإسلامي أراد أن يقطع الطريق على خصومه السياسيين، ويوصل رسالة مفادها أنه يهتم بالشأن الثقافي. على الرغم من أن الرجلين لا يلتقيان عند أي أرضية فكرية مشتركة.

المثقف العضوي والمثقف التابع

أخيراً، أعتقد أن الكاتب تنتفي عنه صفةُ المثقفِ حين يغدو طالبَ سلطةٍ، وتتماهى رؤيته معها، كما يفقد صفةُ (المثقفِ العضوي) حين يغدو جزءاً منها؛ لأن السلطةَ تنشدُ الثباتَ والاستمرارية، أما المثقفَ فينشد التحولَ والتغييرَ المستمر، وقد يحمل رايةَ الثورة ويشارك في النضال ضدها إذا اقتضى الأمر ذلك، فيكون قدوة لغيره في الكفاح من أجل الحرية والديمقراطية والعدالة.
إن المثقف رجلُ كلمةٍ وموقفٍ معاً، وليس هتافاً للشعارات، أو متاجراً بها، وحينَ لا يبلور أفكاره التنويرية والثورية، ويموضعها في سلوك عملي يعبر عن مصالح الناس، وقضايا الإنسان في كل مكان؛ يغدو (طرطوراً) و(بوقاً) ولا يستحق صفة المثقف أيضاً. المثقفُ ليس حاملا لأفكار عظيمة وحسب، بل هو مجسد لها قبل الآخرين، وحينَ يخفق في أن يكون قدوةً لغيره على الصعيد السلوكي تتراجع قيمته، ويخفت نوره، ويصبح رجلا عادياً.

كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ف. ق.:

    ممدوح عدوان و شوقي بغدادي من جانب أول، وطه حسين وجابر عصفور من جانب آخر !!
    كلهم راحلون – لكن أين هو وجه المقارنة

إشترك في قائمتنا البريدية