سيزا قاسم… وسؤال النقد والمنهج

تُعَد الناقدة المصرية سيزا قاسم (1935 – 2024) من أوائل النقاد العرب الذين حاولوا تبيئة المناهج النقدية الأوروبية، واستثمار تقنياتها في دراستهم للنص الأدبي العربي الحديث، خلال العقود الخمسة الأخيرة من القرن المنصرم، وقد ظهر كتابها النقدي الأول «بناء الرواية / دراسة مقارنة لثلاثية نجيب محفوظ» عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في عام 1984، وهو في الأصل أطروحة دكتوراه نوقشت في جامعة القاهرة عام 1977، وقد صدر الكتاب قبل عام واحد من صدور كتاب الناقد المغربي سعيد يقطين «القراءة والتجربة/ حوار التجريب في الخطاب الروائي الجديد في المغرب» الصادر عن دار الثقافة في المغرب عام 1985، وحاول فيه هو الآخر الاتكاءَ على مناهج النقد الأوروبية في دراسته للنصوص الروائية في المغرب، غير أنه بقي في مجمل دراساته أسيراً لاستبداد النموذج السردي الأوروبي، كما يذهب إلى ذلك عبدالله إبراهيم في كتابه «الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة».
وقد لوحظ أن الناقدة سيزا قاسم استطاعت تمثُل المنهج البنيوي، وطبقته بوعي وحرفية في دراستها لثلاثية نجيب محفوظ؛ إذ لاحقت في كتابها «بناء الرواية» التقنيات التي استخدمها نجيب محفوظ في كتابة الثلاثية، وقارنتها بتقنيات الرواية الغربية المشابهة والمعروفة باسم رواية الأجيال، وأخلصت عند تحليلها للثلاثية لطبيعة هذه النصوص، وراعت خصوصيتها، ولم تُحملها ما لا تحتمله، ثم طورت منهجها في قراءة النص وتأويله متجاوزة المنهج البنيوي، من خلال استثمارها لآليات القراءة والتحليل التي يأخذ بها أنصار (المنهج السميوطيقي) الذي اشتركت مع نصر حامد أبوزيد (1943 – 2010) في تأليف كتاب عنه حمل عنوان «مدخل إلى السميوطيقا» وصدر عن دار الياس العصرية في القاهرة في عام 1986.

السميوطيقا منهجا للقراءة والتحليل

وقد اشتمل كتاب «مدخل إلى السميوطيقا» على مجموعة من المقالات والدراسات المؤلفة والمترجَمة لنخبة من النقاد المصرين والعرب، هم : فريال غزول، وأمينة رشيد، وعبدالرحمن أيوب، ونصر حامد أبوزيد، وعبد المنعم تليمة، وكامل الحلفي، وقد نهضت سيزا قاسم في الكتاب بتأليف دراسة مهمة حملت عنوان (السميوطيقا: حول بعض المفاهيم والأبعاد) تطرقت فيها إلى المفهوم العام لهذا المنهج، وأهميته في اكتشاف التطابق بين شكل التعبير وشكل المحتوى، ثم درست بتأن النظام السميوطيقي للعلامة، وما ذهب إليه أفراد جماعتي تارتو وموسكو حول العلاقة بين الدال والمشار إليه، ولاحقت آلية توضع النظام السيميوطيقي في النص الأدبي، وميزات الرؤية السميوطيقية، ثم وقفت عند مفهوم (سيميوطيقا الثقافة) واستعرضت رأي إيفانوف في حديثه عن (علم السميوطيقا) وكيف ذهب إلى أن الأنظمة السميوطيقية «أنظمة مُنمذِجة للعالم» لأنها في رأيه تضع عناصر العالم الخارجي في شكل تصور ذهني يتوضع على هيئة نسق أو نموذج، ثم فصلت في الحديث عن علاقة اللغة بنسقها، وكيف تتدرج الأنظمة السميوطيقية في قدرتها على خلق النماذج الفنية أو الأدبية، وختمت دراستها بالوقوف على مفهوم النص لدى جماعتي موسكو وتارتو، وكيف تتجلى الأنظمة السميوطيقية في نصوص يولدها فعل الثقافة، فيغدو النص الثقافي عندئذ هو الوحدة الصغرى التي تتكون الثقافة من مجموعها بوصفها بنيةً كبرى. وختمت الناقدة دراستها بالإشارة إلى أن أهم ما قدمته السميوطيقا هو قضية الوساطة بالنسبة إلى العلوم الإنسانية، إذ إن هذه العلوم تختلف عن العلوم الطبيعية من حيث اهتمامها بالمادة التي يبدعها الإنسان وهي (العلامات).

القارئ والنص: منهجان لقراءة العلامات والنصوص

أما كتابها الثالث «القارئ والنص/ العلامة والدلالة» الصادر عن المجلس الأعلى للثقافة في القاهرة عام 2002، فهو حصيلة لاتكائها على المنهجهين السميوطيقي والهيرمونطيقي في قراءة النصوص المختارة في الكتاب، وقد أشارت في المدخل إلى أن المنهج السميوطيقي يسعى إلى تعريف العلامات التي يبدعها البشر وتصنيفها وتحليلها، بينما يسعى المنهج الهيرمونطيقي إلى كشف الطرق والوسائل التي تمكن المتلقي من فهم النصوص، وفي رأيها أن كلا المنهجين تطوير لعملية القراءة، وتقنين لها، ومعالجة لجميع المشاكل المتعلقة بها، ولذا اعتمدتهما معاً لقراءة العلامات والنصوص، وفي ظني أن أدوات هذين المنهجين أمستْ طيعة بين يديها، واستطاعت توظيفهما بحصافة في سبر النصوص الموجودة بين يديها، واستكناه ما تختزنه من دلالات؛ ولذا لم تبق في كتابها أسيرة للمنهجين اللذين اهتدت بهما بقدر ما أمسى المنهجان نفسهما أداة طيعة بين يديها في القراءة والتحليل وإطلاق الأحكام الجمالية.
يتألف كتاب «القارئ والنص/ العلامة والدلالة» من مدخل وسبعة فصول، وأربعة ملاحق، وقائمة بأسماء المراجع الأجنبية والعربية المعتمدة فيه. وقد عرضت الباحثة في المدخل مسوغات الاعتماد على منهجيها النقديين المعتمدين على القراءة والتحليل، ونبهت إلى أن القراءة خبرة محددة في إدراك شيء ملموس في العالم الخارجي، ومحاولة للتعرف إلى مكوناته، وفهم وظيفتها ومعناها، وهي عملية مركبة ومعقدة ذات مراحل ومستويات متعددة، ولها أربعة مستويات، الإدراك فالتعرف، فالفهم ثم التفسير، وعندها أن الإدراك هو مستوى حسي يعتمد على الحواس، أما التعرف فينطوي على عملية ذهنية تستكنه الطبيعة السيميوطيقية لهذا الشيء بوصفه علامةً، وينتمي إلى نظام سيميوطيقي، وله جانب معنوي هو الدلالة. أما الفهم فهو محاولة لفك شيفرة العلامات، وهو المستوى الأولي للتوصل إلى الدلالة، وقد تتوقف عملية القراءة عند مستوى فك شيفرة الشيء، وقد تتجاوزها إلى محاولة معرفة ما تختزنه من مستوى أعمق يحتاج إلى عملية تفسير؛ أي قد تكون الدلالة المُتعرف إليها غير كاملة؛ ولذا لا بد من البحث عن شيفرة جديدة تكمل الشيفرة الأولى، وتُوصِل المتلقي إلى المعنى الثاني أو معنى المعنى. أما الفصل الثاني من الكتاب، فقد خصصته للحديث عن (أبعاد السيميوطيقا) وقد درست فيه الكفاءة السميوطيقية وآلية تجليها في النص، ثم تحدثت عن طبيعة النص السميوطيقي، وتعدد الشيفرات فيه وكيف تلجأ الثقافات إلى أنواع مختلفة من الشيفرات كي تصوغ خبراتها الحياتية والعلمية والجمالية في نصوص محددة، وانتقلت في الفصل الثالث إلى دراسة سيميوطيقا المكان، فوقفت عند أنواع الأماكن، ودلالتها السيميوطيقية، وعلاقة المكان بالسلطة، وخصصت فقرة لدراسة المدينة بوصفها حقيقة سيميوطيقية، ثم انتقلت إلى تناول شعرية المكان في معلقة امرئ القيس، فدرست الأطلال، وأسماء الأماكن في المعلقة، وما اختزنته في ثناياها من دلالات، وختمت وقوفها بدراسة وحدة المكان في المعلقة، أما الفصل الرابع فقصرته على دراسة سيميوطيقا الزمان، وآلية تجلي البنيات السيميوطيقية الزمنية في الأعمال الفنية والأدبية، واهتمت عند دراستها لهذه البنيات بالحديث عن آلية تحول الظاهرة الفيزيقية إلى علامات سيميوطيقية تمكن البشر من فهم عالمهم، وتضفي عليه دلالات نفسية وروحية وثقافية، تثري حياتهم، وتخلق أواصر التفاهم بين أفراد الجماعة في تعاملهم مع بعضهم بعضاً. وقد أولت في الفصل الخامس اهتماما واضحا لدراسة العلاقة بين القارئ والنص، وتقصت مستويات القراءة عند العلماء المسلمين والمسيحيين معا، ووقفت عند ما سمتْه مرحلة (فهم الفهم أو منبع الدلالة) وختمت حديثها في هذا الفصل بالإشارة إلى أن القراءة في المستوى السميوطيقي تعني أن القارئ يتفاعل مع النص من منطلق معرفته باللغة التي تشكل بها، أما المستوى الهيرمونطيقي فهو المستوى الذي يشعر فيه القارئ بأنه أمام بعض المشكلات التي لا يتمكن من فك بعض ألغازها، ولذا فهو بحاجة إلى إجراءات لمساعدته على التوصل إلى هذا الفهم، ومنها الاعتماد على قواميس ومراجع بغية فهم المفردات الجديدة التي صيغ بها النص. وقد اختارت الباحثة في الفصل السادس (شرح الشريشي على مقامات الحريري) مثلا تطبيقيا لدراسة الإبداع الذي تجلى في ما سمته النصوص الموازية، فعرضت منهج الشريشي، كما تبدى في مقدمته للشرح، ووقفت عند الخطوات التي اتبعها، وكيف حرص على رد المعنى إلى المعنى الأصلي، ثم اتكأ على الاستشهاد، والتفسير المجازي للمفردات، ولم ينأى بنفسه عن الشرح الخارجي للمتن، واستعان بالأمثال، أو ما سمته التفسير بالإخبار، أو التفسير بالوصف، وكيف أفضى به ذلك إلى التفسير من خلال التناص، وختمت كتابها بفصل عقدته للحديث عن مفهوم القراءة في التصوير والأدب، فوضحت مفهوم القراءة، وتطرقت للحديث عن الفارق بين الكلمة والصورة، ونبهت إلى أن قراءة اللوحة تقوم على تعلم العلامات التصويرية كما تقننها كل ثقافة على حدة، لا على نوع من التعرف التلقائي والبدائي، إذ إن كل ثقافة تتبنى أشكالا معينة للتعبير عن نفسها، وتتناسج هذه الأشكال في الأطر العامة لحياة الجماعات، ويغدو من الطبيعي أن تعتمد القراءة على معرفة الشيفرة التي أُبدع العمل الأدبي او الفني في ضوئها لتغدو القراءة ممكنة ومنبثقة من طبيعة العمل نفسه.

كاتب سوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية