راهِنُ السردية العربية

إذا كنّا نفتقر إلى شخصيّة مستقلّة خاصّة بنا، وإلى سياق يتعالق معها ويحتضنها، ويساعدها على التّجذُّر، فسنبقى تابعين للآخر في كلّ شيء، وسنبقى نمتح منه دون تبصُّر، أو استثمار ما نتلقّفه منه دون وعي. والمشكلة أنّ استعارتنا من الآخر ليست مقصورة على النّقد الأدبيّ وحده، بل تطال مناحي حياتنا كلَّها. وحين نغدو مستقلّين عن الآخر، ولنا هُويّتنا الخاصّة، وآليّاتُ تفكيرنا ومناهجنا المنبثقة من نصوصنا وفكرنا وسياقنا، فسنكون قادرين على إبداع ما نحتاج إليه من مفاهيم ومصطلحات معاً. ولا يعني هذا أنّنا ينبغي أن نتقوقع على أنفسنا، بل ينبغي علينا الانفتاحُ على الآخر والإفادةُ ممّا ابتكره، على أنّنا ينبغي ألّا نستعير إلّا ما تستدعيه حياتُنا ونصوصُنا، فذلك هو السّبيل الوحيد لبقائنا فاعلين ومبدِعين ومتحرِّرين من الآخر معاً.
وفي وضع كهذا لا أظنّ أنّ هناك أفقاً مفتوحاً للسّرديّات العربيّة؛ أو أنّها يمكنُ أن تتخلّص من أزمتها البنيويّة بسهولة؛ كما يهجس الباحث المغربيّ سعيد يقطين في ما يكتبه من مقالات في (القدس العربيّ) وسواها؛ لأنّ هذه الأزمة انعكاسٌ لأزمة وجوديّة طاحنة تطال آليّات كتابة أصحابها على أكثر من مستوى؛ ولأنّ هذه السّرديّات ليستْ منبثقةً من تجربة عربيّة صِرْف، خاضها العربُ في مواجهتهم للنّصّ السّرديّ العربيّ، وإنّما هي نتاجٌ لتأثُّرهم بالآخَر؛ ولهذا تفتقر إلى اكتساب شخصيّة مستقلّة خاصّة بها تميّزها من غيرها، وتجعلها تجلّياً لتناسُجها مع سياقٍ عربيٍّ معيَّن، وفضاء ثقافيّ محدَّد.
وأظنّ أنّ تشكيل شخصيّة مستقلّة خاصّةٍ بالسّرديّة العربيّة غير ممكن في الوقت الحاليّ؛ كما يهجس بذلك نقّاد آخرون منهم نادية هناوي، وعبدالفتّاح كيليطو في مجمل ما كتبه، ولاسيّما في كتابيه (الغائب / دراسة في مقامة للحريريّ (1987) و(المقامات / السّرد والأنساق الثّقافيّة – 1993) فضلا عن عبدالله إبراهيم في كتابه (السّرديّة العربيّة / 1992)، الذي حاول فيه تمثُّل سرديّات الآخر، والإفادة منها في دراسة الموروث الحكائيّ العربيّ، مع عدم إخضاع هذا الموروث لمعيار خارجيّ مستمَدّ من موروث سرديّ آخر، ودراسته من خلال تعالقه مع المحضن الثّقافيّ، الذي تكوّن ضمنه، يُضافُ إلى ذلك ما قام به سعيد يقطين نفسه في كتابه (الكلام والخبر/ مقدِّمة للسّرد العربيّ- 1997)؛ ومحسن جاسم الموسوي في كتابيه (ثارات شهر زاد / فن السّرد العربيّ الحديث-1993) و(سرديّات العصر العربيّ الإسلاميّ الوسيط 1997)، ويرجع ذلك كلّه في رأيي إلى أنّ مجتمعاً تابعاً كالمجتمع العربيّ، يعيش ذيلا للآخر، ويندغم فيه معتزّاً بذلك، لا يمكن أن يُنتِج ما يدلّ على اكتمال شخصيّته، وبناء هُويّته المستقلّة، قبل أن يتحقّق له ذلك في الواقع الموضوعيّ، كما إنّ أشهر السّرديّين العرب المعاصرين لم يستطيعوا التّحرّر من الآخر، بل ظلُّوا تابعين له، ومقبلين على استعارة مناهجهم وأدواتهم ومفاهيمهم ومصطلحاتهم منه.
وفي اعتقادي أنّ سرديّتنا العربيّة الحديثة لا تزال تعاني من مغبّة تقليد الآخر والنّهج على منواله. ويعود ذلك إلى عدم وجود سياقٍ اجتماعيّ وفكريّ واقتصاديّ متحرّر من هيمنة الآخَر. وقد حال هذا دون ظهور شخصيّة عربيّة مستقلّة وسرديّة عربيّة تتلاءم مع طبيعة النّصّ، الذي تواجهه. وقد يكون القرنان الثّالث والرّابع الهجريّان فتحا الباب لتكوين مثل هذه السّرديّة؛ إلا أنّ المجتمع العربيّ نكص من جديد، وتقوقع على نفسه، ولم يكمل رحلته المعرفيّة باتّجاه تحقيق ذاته، وبناء شخصيّته، كما أنّه أقصى العقلَ، واحتفى بالنّقل، وهو ما أعاده إلى حظيرة التّبعيّة والتّكرار والاجترار؛ ممّا جعل من إخفاقه في إنتاج سرديّة خاصّة به نَتاجاً طبيعيّاً لهذا التّماهي والنّكوص والتّراجع.
وفي ظنّي أنّ (السّرديّات) تتويجٌ لجهد عالميّ مشترَكٍ، وليستْ نتاجاً لجهود أمّة بعينها، وفي هذه الحالة يتعذّر على العرب تشكيلُ شخصيّة خاصّة بهم، كما تأمل نادية هناوي وغيرها؛ لأنّ العرب يعيشون في قرية كونيّة واحدة، تقاربت فيها العقولُ، وامتزجتْ فيها الخبراتُ، وأمسى من المستحيل أن تنعزل فيها أمّةٌ عن غيرها، وتبدع نظريّة خاصّة بها في العلوم الإنسانيّة عموماً، وفي السّرديّات خصوصاً.
إنّ ما يُنجَز في حقل السّرديّات في الوقت الحاليّ هو تراكمٌ معرفيّ لما نهضتْ به أممٌ مختلفة قبل قرون عديدة، وما يكتبه بعضُ النّقّاد العرب، في حقل السّرديّات، يشكِّل نوعاً من استثمار ما هو موجودٌ، ولا يُعَدُّ ابتكاراً خاصّاّ بهم؛ فالعربُ، أو غيرهم من الأمم الأخرى، لا يستطيعون ابتكار سرديّة جديدة منقطعة الصّلة عمّا قبلها، وإنما هي إجراءاتٌ يقومون بها، تضيف تطبيقاً جديداً إلى ما اجتُرِحَ في هذا الحقل من مفاهيم نظريّة، وتشكِّلُ تأكيداً لدقّته النظريّة ورحابته، وهذا ينطبق على ما قام به عبد الفتاح كيليطو، أو محسن جاسم الموسوي، أو عبد الله إبراهيم، أو فيصل درّاج، أو جابر عصفور، أو يمنى العيد، أو صلاح فضل، أو صلاح صالح، أوغيرهم.
لقد بدأت السّرديةُ العالميّةُ في وضع مفاهيمها النّظريّة مع أرسطو وكتابه (فنّ الشّعر)، الذي يعَدُّه الباحثون كتاباً تأسيسيّاً في تاريخ الشّعريّة الغربيّة والعالميّة، والذي يمكن اعتبار السّرديّة جزءاً منها. وقد كان لهذا الكتاب تأثيرٌ كبيرٌ في تشكيل الشّعريّة العربيّة نفسها بعد ترجمته إلى اللُّغة العربيّة في القرن الثّالث الهجريّ؛ إذ أفاد الفلاسفة والنّقّاد والكتّاب العرب من هذا الكتاب على أكثر من مستوى، وحاولوا تمثُّله وتبْيِئَته في الفضاء الثّقافيّ العربيّ، بدءاً من الجاحظ، والتّوحيديّ، ومروراً بابن سينا، والفارابي، وابن رشد، وانتهاءً بحازم القرطاجنّي في كتابه (منهاج البلغاء وسراج الأدباء)، الذي حاول فيه استثمار منطق أرسطو، وتوظيفه في تشكيل الوعي العربيّ لتمثُّل السّرديّة الأرسطيّة، ثم حدث شرخٌ في هذه السّرديّة وعطالة، إلى أن هلّ علينا النّاقد السّوريّ خلدون الشّمعة في سبعينيّات القرن المنصرم بمجموعة أبحاث نقديّة لافتة؛ أضافت جديداً إلى الوعيِ النّقديّ العربيّ، وحاولت استلهام المناهج النّقديّة الأنجلو- سكسونيّة ولاسيّما في كتابه (الشّمس والعنقاء/ 1974)، ثمّ في كتابيه اللّاحقين (النّقد والحريّة / 1977)، و(المنهج والمصطلح مداخل إلى أدب الحداثة /1979). وقد واصل الشّمعة في مشروعه النّقديّ بلورة مجموعة من المفاهيم النّقديّة في الحقل السّرديّ العربيّ، غير أنّ مشروعه لم يثمر على المستويين النّظريّ أو التّطبيقيّ، أو يترك صدى له في الفضاء الثّقافيّ السّوريّ أو العربيّ، بسبب هيمنة النّقد الأيديولوجيّ على هذا الفضاء في سبعينيّات القرن المنصرم وثمانينيّاته، واهتمام هذا النّقد بالمستوى الدّلاليّ للخطاب السّرديّ، لا بآليّة تشكيله الفنّيّ. ثمّ قام النُّقادُ المغاربة بشكل خاصّ بصياغة بعض ملامح هذه السّرديّة، في مجمل إنتاجهم النّقديّ، وإنْ كان التّأثُّرُ بالآخر، والانضواءُ تحته هما السّمةَ الغالبةَ على هذا النّتاج، كما يذهب إلى ذلك عبد الله إبراهيم في كتابه (الثّقافة العربيّة والمرجعيّات المستعارة / 1999)، وقد نستطيع أن نشير إلى الجهود الحاليّة التي يبذلها النّاقدُ المغربيّ سعيد يقطين نفسُه للخروج من تحت عباءة الآخر في مقالاته، التي كتبها في صحيفة (القدس العربيّ) منذ شهور، وهي تنمّ عن وعي نقديّ حصيف، ورغبة عارمة في القطع مع مرحلة سابقة، عُدَّ فيها يقطين أحدَ النّقّاد العرب، الذين استعاروا مرجعيّات الآخر، وتتلمذوا عليها، وكتبوا في ضوئها بعض ما أنتجوه من كتب نقديّة، كما يذهب إلى ذلك عبد الله إبراهيم نفسه في كتابه (الثّقافة العربيّة والمرجعيات المستعارة). ويتجلّى هذا بشكل خاصّ في كتابيه (انفتاح النّصّ الرّوائيّ / 1989) و(تحليل الخطاب الرّوائيّ/ 1989). أمّا كتابه (الكلام والخبر / مقدِّمة للسّرد العربيّ)، فهو محاولة لافتة للتّحرُّر من إسار الآخر، وقد ألحقه بمجموعة كتب أخرى منها (الرّواية والتّراث السّرديّ/ 1992)، و(ذخيرة العجائب العربيّة/ 1994) و(قال الرّاوي / البنيات الحكائيّة في السّيرة الشّعبيّة – 1997)، ثمّ (قضايا الرّواية العربيّة الجديدة/ 2012)، و(السّرديّات والتّحليل السّرديّ / الشّكل والدّلالة/ 2012) وغيرها. ونأمل أن تفضي هذه الأبحاثُ المهمّة إلى تحفيز النُّقّادِ العرب على المشاركة في بلورة حاضر السّرديّة العربيّة، وتجلية ملامحها على أفضل وجه ممكن في الفترة القادمة.

كاتب سوريّ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية