آلية تلقي حيدر حيدر في الفضاء الثقافي العربي

فخ المُطابَقة ومحاكَمة الوليمة

من أسف أن معظم من قرؤوا نتاج حيدر حيدر ( 1936-2023) القديم والجديد لم يتجاوزوا مفهوم القراءة المغلقة للنص الأدبي، رغم أن المُعطَيات المنهجية وآليات التلقي والتأويل تغيرت عن ذي قبل، وتجاوزت فخ المطابَقة الذي وقع فيه معظم نقاد السبعينيات والثمانينيات من القرن الفائت. وأظن أن أي متلق لا يحتاج، في الوقت الحالي، إلى أن نسوغ له ما نرمي إليه؛ ذلك أن محاكمة الأزهر والإخوان المسلمين في مصر لرواية «وليمة لأعشاب البحر» 1983، والدعوة إلى قطع رأس صاحبها، واتهامه بالكفر والإلحاد، بتهمة المساس بالدين الحنيف، وانتهاك المُقدسات، وتحقير الذات الإلهية، ليس سوى نتاج لهذا الفهم القاصر، كما أن المطابَقة بين ما قالته شخصيات (الوليمة) وما يعتنقه صاحبُها من أفكار ليس سوى نتاج لهذا الفهم الدوغمائي أيضاً؛ ولا أظن أن أحداً يحتاج إلى أن نبرهن له أن مهدي جواد في (الوليمة) ليس حيدر حيدر نفسَه، وأنه لا ينطِق باسمه، ولا ينوب عنه، بل هو شخصية فنية مُتخيلة ابتدعها صاحبُها لكي يتوكأ عليها في تقييم متن حكائي لمرحلة تاريخية محددة مرت بها دولتان عربيتان هما العراق والجزائر؛ ذلك أن (الوليمة) هي «رواية الأحلام المُجهَضة والخيبات المقيمة في الجسد والروح» كما قال عنها فخري صالح، كما أنها صرخة عميقة في فداحة العتمة المحيطة بالكينونة، كما يقول عنها خالد حسين، وهي «هجاءٌ للطغيان والحكم الشمولي والمتاجرة بالدين» كما وصفها رشيد العناني، وقد «قدمتْ حيواتِ شخصياتها بحميمية وصدق، وجعلتهم ينتصبون أمامنا نابضين بالحياة والدم الحار، وصورَتْهم في سعادتهم وشقائهم، وجعلتْنا ننجذب إليهم أيما انجذاب، ونحيا معهم حياتهم، كما قال عنها علي الراعي؛ ولذلك حين نتعامل معها على أنها نص مُتخيل فبوسعنا أن ندرك أن العبارات التي بُثتْ في مشاهدها الحوارية على لسان (مهدي جواد) تتناسب مع هُويته بوصفه شيوعياً سابقاً، وتعبر عن رأيه في الدين وموقفه منه، بل إن الوعي الذي تحمله هذه الشخصية هو جزءٌ من منظومتها الفكرية ورؤيتها الجمالية للحياة والكون، ومن الطبيعي أن يجهر صاحبُها في مواقف مُعينة بعبارات تتلاءم مع بنية شخصيته، وتتسق مع مستوى وعيه الجمالي، وما يمكن أن يرد على لسانه من منطوقات لفظية؛ وهكذا فإن موقف هذه الشخصية من الدين يجسد رؤيتها له، بوصفها شخصيةً مُتخيلةً محكومة بوعي معين، ولا علاقة له بموقف الكاتب الذي ابتدعها، وأي خلط بين الأمرين سوف يُعِيدنا إلى وهم المطابَقة الذي وقع فيه نقادُ السبعينيات والثمانينيات من جديد، كما أن «الحديث عن إلحاد المؤلف لأنه يورد على ألسنة شخصياته حواراً يرشح بالكفر، ينسف عملية التخييل التي ينهض عليها أي نص روائي، ويُضفِي على لغة الرواية سمة الحقيقة لا سمة المجاز التي تتأسس عليها، ويُلحِق الجنس الروائي نفسه بكتب العقائد، ويقلص فسحة الحرية والخيال في النصوص الأدبية، ويساوي بين الدعاية العقائدية والنص الروائي الذي يتوسل الخيالَ سبيلا لقول ما تقوله لغة الرواية المجازية» كما يقول فخري صالح.

نصوص حيدر ودمغة الطائفية

واللافت للنظر أن هذه الآلية في التواصُل مع الوليمة، استمرت عند التواصل مع روايته «مفقود» 2016؛ إذ حرص بعض من قرأها على تلمس المذهب الديني لصاحب «شموس الغجر» كما فعل بعض من قرؤوا نصي «الوليمة» و»الزمن الموحش» من قبل، ولم يروا في هذه النصوص جميعاً سوى أنها دليل على أن صاحبها (علوي) المذهب، مع أن صاحب (الفهــد) طالب في ورقة عمل قدمها في مؤتمر وطني عُقِد في المركز الثقافي في طرطوس بفصل الدين عن الدولة، ودعا إلى أن يكون الولاءُ للوطن أولا، وليس للانتماءات الطائفية، أو لأي انتماء آخر، كما عرّى، في (مفقود) النزوع الطائفي لدى المثقف السوري، وأدانه، منتصراً لـ(أخلاقية اللغة) مع حرص على تعرية الأشياء بشكل كامل، ومواجهة المحرمات بشكل نقدي وإنساني لا بشكل فج، كما جعل الصوتَ في الرواية عالياً ضد الطائفية والإرهاب، وسجل براءة ذمة من الجنون الذي اندلع في سوريا، وأحرق في طريقه الأخضر واليابس، كما يقول في حوار معه نُشِر في صحيفة «إندبندنت عربية بتاريخ 24 سبتمبر/أيلول 2020» ومع ذلك لم يرَ كاتبٌ كمحمد منصور بأساً في دمغ «الزمن الموحِش» بوصمة (الطائفية) مستنتِجاً أن صاحبها هو «الكاتب الأكثر طائفيةَ ووضوحاً بين كتاب طائفته» قارئاً افتتاحيتها السردية على أنها دليل على ذلك، مع أن هذه الافتتاحية ترد على لسان الشخصية الروائية فيها لا على لسان حيدر حيدر نفسه، وقد دفع هذا نبيل الملحم، إلى كتابة منشور استهجاني في صفحته فيسبوكية عقب وفاة حيدر بتاريخ 6/5/2023 يرد فيه على محمد منصور وأمثاله من دون أن يذكر أسماءهم، جاء فيه: «يوم كتب نجيب محفوظ «أولاد حارتنا» وكادت أن تقتله كتبها نجيب محفوظ الروائي، وليس نجيب محفوظ «السني» ويوم كتب حنا مينا «الشمس في يوم غائم» كتبها حنا مينا الروائي، وليس «المسيحي» ويوم كتب حيدر حيدر «وليمة لأعشاب البحر» كتبها حيدر الروائي وليس العلوي. بلغ «العيب» بنا أنْ لا نقرأ الروائي، نقرأ مذهبه، طائفته، دون أن نعتقد لحظة أن «الرواية» أكبر من طائفة، وأن الطائفة أضيق من حذاء رجل يبتكر أغنية أو قصيدة أو لحظة إشراق».
وبلغة نقدية أخرى: لقد قرأ محمد منصور «الزمن الموحش» على أنها وثيقة فكرية، ونص ديني لا على أنها بنية مجازية تخييلية حاولت تمثل الواقع بشكل فني، واستيعابه جمالياً بآلية إبداعية خاصة بصاحبها، وهو ما أحال قراءته إلى نص عقائدي لا علاقة له بالنقد الأدبي إطلاقاً.

بين رؤية الكاتب ورؤية نصوصه

والواقع أن هذه الرؤية الأيديولوجية للنص الأدبي التي احتكم إليها محمد منصور، وقع فيها نقاد آخرون ممن درسوا المُدونة الإبداعية لصاحب (الوليمة) قبل ثلاثة عقود ونيف، ومنهم مراد كاسوحة في كتابه «المنفى السياسي في الرواية العربية»؛ إذ طابَق كاسوحة بين الكاتب وشخصياته، ورأى أن «شخوص أي رواية هم ظلال وامتدادات أدبية مباشرة أو غير مباشرة للكاتب» كما ساوى بين الرؤية الأيديولوجية المُسبَقة التي تحكم توجه الكاتب، في رأيه، والرؤية المُشكلة في نصه، معتبراً أن كل نص ينبغي أن يجسد الدلالة التي ابتغاها صاحبُها منه، وأنه لا يمكن أن يحدث تناقضٌ بين ما رمى إليه الكاتب في نصه، والمستوى الدلالي الذي تجسد في هذا النص، وهي رؤية تجاوزها النقد الأدبي منذ خمسين عاماً ونيف، بعد تبني معظم المشتغلين في حقل النقد الأدبي لمقولة رولان بارت (موت المؤلف) التي طرحها في مقاله الشهير في عام ( 1968) ورأى فيها أن النص الأدبي يكتسب بعد إنجازه ونشره وجوداً موضوعياً مستقلا عن الكاتب، وأن علاقةَ الكاتبِ بنصه تنقطع بعد الانتهاء من نشره، ويغدو مجردَ قارئٍ له لا غير؛ وأن دلالة النص مبثوثةٌ في نسيجه، وتُستنبَط من خلال العلاقة الجدلية بين عناصره، ولا يجوزُ للكاتب أنْ يفرض الدلالة التي أرادها على قارئ النص وناقده، من موقع أنه الأدرى بنصه، والأقدر على استكناه دلالته؛ لأن الدلالة النصية لا تُستقى من فم الكاتب بل تُستنبَط من آلية تشكيل النص نفسه، وتجاوُر عناصره، وتناسُجها في بنية أدبية محددة.

مغالطة القصد في النقد

وقد ذهب الناقدً السوري خلدون الشمعة في كتابه «الشمس والعنقاء» إلى أن الناقد قد يستنبط من النصِ دلالة مغايرةً لما قصد إليه الكاتبُ، وأن رأيَ الكاتب في نصه لا يجوز أن يُعتَمد في الحكم على هذا النص؛ وأن «الخلق الفني ليس تعبيراً واعياً عن قصد الكاتب؛ إذ إن الكاتب لا يمارس عملية الإبداع بوصفها ترجمةً دقيقةً لمخططٍ قصدي مسبَقٍ» كما أكد أن «قصدَ الكاتب قائمٌ على التخييل الذي ينهض على قاعدة من الإمكان، وليس قائماً على التقرير الذي لا يحتمل إلا الخطأ والصواب» وأن «اعتبارَ قصدِ الكاتب أساساً في الحكم على العمل الفني، إنما يشير إلى اعترافٍ مفاده أن هذا العمل قاصرٌ عن النهوض بذاته، وبأدواته التعبيرية» وأنه لا بد من العودة إلى النص نفسه لقراءته واستكناه دلالته. ومن المعلوم أن الذين رفضوا مقولة (موت المؤلف) أرادوا البقاءَ في المحيط الخارجي للنص عند استنباط دلالته والحكم عليه، بينما ركز أنصارُ هذه المقولة، على أن النقد ينبغي أن ينصرف إلى بنية النص نفسها لا إلى خارجها، ولم يُجِيزوا للناقد الاستعانةَ بعامل خارجي في استنباط دلالة النص، وهذا شأن المشتغلين بالمناهج التاريخية والاجتماعية والنفسية، التي اتكأت على العامل الخارجي في مقاربة النص، ومحاولة تأويله، كجورج لوكاتش، ولوسيان غولدمان، وتيري إيغلتون، وغيرهم.

تركيب

أخيراً، أظن أن معظم الدراسات التي تناولتْ إبداعاتِ حيدر حيدر وقعت في فخ المُطابقة بين العالَم التخيلي الذي بناه في نصوصه الإبداعية والمرجع الخارجي الذي تُحِيل عليه هذه النصوص، كما فعلت قبله مع زكريا تامر، وعبدالسلام العجيلي، ووليد إخلاصي، وعبدالله عبد، وحسيب كيالي، وأحمد يوسف داود، وغيرهم، كما أنها تعاملتْ مع عالمه التخيلي على أنه انعكاسٌ للمرجع الخارجي لا على أنه انزياحٌ عنه، أو تحريفٌ له، ولم تحرص، عند مقاربتها لنصوصه، على البحث عن شعريتـها (أي، عن الخصائص النوعية التي صارت بها هذه النصوصُ أدباً) بل حاولتْ إخضاعَها لرؤية أيديولوجية مُسبَقة، والنظر إليها بوصفها وثائقَ اقتصاديةً أو اجتماعيةً أو سياسيةً ذواتِ دلالاتٍ معينةٍ؛ ولذا لم تكن هذه الدراسات سوى مقارباتٍ خارجيةٍ؛ لأنها لم تقترب من البُنى الداخلية لنصوصه إلا في ما ندر، ولم تبحث فيها عن الخصائص الجوهرية للمادة الأدبية، ولم تسعَ إلى معرفة كيفية تشكيل هذه الخصائص، وتواشُجها في كل فني مُوحد، بل بقيتْ عند حدود الفهم السطحي لعلاقة النص الأدبي بالمجتمع، سواءٌ أكان هذا الفهمُ تبسيطياً ساذَجاً، وهو يتحدث عن انعكاس البنيات الاجتماعية في النص الأدبي، أو وهو يُقيمُ تماثُلا بين البنيتين النصية والاجتماعية كما تقتضي نظرية الانعكاس لدى جورج لوكاتش. هكذا تماشت هذه الدِراسات مع هيمنة العامل الخارجي على النقد الأدبي السوري والعربي، ولم تلتفت إلى اكتناه خصوصية النص الإبداعي، أو تحاول الكشفَ عن العناصر البنائية والأسلوبية التي أسهمت في تخلقه؛ ما أوقعها في شرَك الشرح التعليلي، أو في شرْحِ الأصول التي انبثق عنها هذا الأدبُ، وهكذا وقفتْ حائرةً أمام وصف النًص، وأخفقتْ في تحليل بنيته، والكشف عن دلالته.

ناقد سوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية