القصة القصيرة… كتابة الواقع بعيدا عن التنميط

ينتمي كل نص مكتوب إلى جنس أدبي بعينه، وينبغي أن يحقق الشروط التي يتصف بها هذا الجنسُ كي يُتَاح له الانضواءُ ضمنه؛ فيُقال: هذا النص رواية أومسرحية، وذاك قصة أوقصيدة، ومع هذا فهناك بصمة فنية خاصة بكل كاتب تجعله متميزاً عن أقرانه في مَوْضَعة مفهوم الجنس، وآلية تناسُجه في الفضاء الثقافي الذي يرمح ضمنه، وهذا يعني أن الكتّاب الذين ينشرون نصوصاً تنضوي تحت مصطلح أدبي معين، قد لا يتساوون في السوية الفنية التي تحققها نصوصُهم، رغم انضوائها تحت مفهوم الجنس الأدبي نفسه، إذ إن بعضهم قد ينال إعجاب النقاد أو المتلقين في ما كتبه، وقد يخفق آخرون في ذلك، رغم أن الطرفين كتبَا نصاً نمطياً واحداً، ولعل هذا هو ما جعل القصة القصيرة التي كتبها زكريا تامر، في نهاية الخمسينيات من القرن المنصرم، مختلفةً، من حيث بنيتها الفنية، عن القصة القصيرة التي كتبها أقرانُه في الفترة نفسها، ومحلقة فوق السياق الذي يعيش فيه، وكذلك الأمر مع الرواية الحداثية التي كتبها إدوار الخراط ( 1926- 2015) في عقد السبعينيات من القرن نفسه؛ إذ ظلت هذه الرواية مُغيبة عقدين من الزدون أن تحظى بقراءة منصِفة، أو حكم جمالي يرتقي إلى مستوى ما حققه صاحبُها من خصوصية وفرادَة، والأمر نفسه يسري على ما كتبه محمد خضير في كتابه (بصرياثا)؛ إذ شكل صدورُه، في عام ( 1993) نوعاً من الاختراقِ لمفهومِ الجنسِ الأدبي؛ ومفهومِ النمط النصي القار؛ لأنه نص سردي مُتخيلٌ عن المكانِ، كما أنه سيرةٌ ذاتيةٌ لصاحبه في الوقت نفسه، فضلا عن أنه سيرةٌ لمجموعةٍ معينةٍ شاء صاحبُها محمد خضير أن يتحدث باسمها، ويجعلَ من كتابه صوتاً معبراً عن رغباتهاِ وإحباطاتها وأحلامها، ويعكسَ حضورَها المعنوي في مدينته المُتخيلة، وفِي وجدانهِ ومسارِ حياتهِ، ولم يحظَ هذا الكتابُ بالاهتمام الذي يستحقه في الفضاء الثقافي العربي إلى أن تلقفه مترجمٌ إنكليزي، ووجد فيه تشكيلا أدبياً وفنياً يُناهِضُ السائدَ؛ فقررَ الاحتفاءَ به، وترجمَهُ إلى اللغة الإنكليزيةِ؛ وهكذا غادر الكتابُ سياقَهُ العربي، وهاجر إلى لغةٍ أخرى، ولقِي فيها تجاوُباً يماثل التجاوبَ الذي لقيه كتاب (داغستان بلدي) في أوساط القراء والمثقفين العرب.
وفي ظني أن مفهوم الجنس الأدبي قيد التشكل باستمرار، وفي تحوُل دائم يتوازى مع الواقع الموار من حوله؛ ولذا لا يمكن الوصول إلى حدود ثابتة له، وكل محاولة لوضع قوالب له، محكوم عليها بالإخفاق؛ لأن الأجناس الأدبية تنفر من التحديد والجمود، وتستعصي على القولبة والتنميط، ومن الخطأ الاحتكامُ في قراءتها إلى معايير نقدية ثابتة، أو حصرُها ضمن قوالب جامدة؛ كما أنها تخضع، في علاقتها بالواقع المرجعي، والسياق الذي تتعالق معه، للتعديل والتجدُد باستمرار، ومع أن منظِرين كُثُراً سعوا إلى تحديد مفاهيمها، بدءاً من أرسطو حتى الآن إلا أنها بقيتْ بمنأى عن التأطير في ضوء علاقتها السيالة مع الواقع الموار، الذي تُحِيلُ إليه، وليست القصة القصيرة سوى أحد هذه الأجناس التي بقيتْ قيد التشكُل باستمرار، ولم يفلح النُقادُ ومنظِرو الأدب في الاتفاق على مفهوم محدَد لها، رغم محاولاتهم المستمرة في ذلك.
ومع أن أغلب الذين خاضوا في تجنيسها ظلوا مختلفين حول مفهومها القار، إلا أن أغلبهم مال إلى اعتبار التكثيف الزمني وطول الشريط اللغوي سمتين من سماتها الأساسية، بحيث أصبَحا، في رأيهم، الحدين الفاصلَين بين ما يمكن أنْ نعده (قصةً قصيرةً) وما يمكن أن نطلق عليه مصطلح (رواية) ونعني بالتكثيف الزمني، هنا، اختيارَ واقعة حياتية واحدة مكثفة الإيقاع، تتمحور حول شخصية مأزومة، وسردها من خلال حبكة محكمة البناء، وهذا ما جعل إدغار ألان بو يصفها بأنها تتسم بوحدة الانطباع الذي تُحدِثه لدى القارئ، على أن تُقرَأ في جلسة واحدة، وتُحدِث كلُ كلمة في نسيجها اللدِن التأثيرَ الذي وضعه المؤلفُ لها، هذا التأثير الذي ينبغي، في رأيه، أنْ يتم الإعدادُ له مع أول جملة في افتتاحيتها السردية، ثم يتدرج حتى النهاية، وعندما يصل القارئُ إلى (الذروة) أو (لحظة التنوير) تكون القصة القصيرة قد بلغتْ خاتمتها المنشودة.
القصة القصيرة، وفق هذا المفهوم، تكثيفٌ زمني ولغوي للحظة راهنة، أو عابرة، أو كامنة في اللاشعور، أو اللاوعي، على أن يستطيع الكاتبُ من خلالها الإمساكَ بجوهر ما يجري في زمنه وعصره، واستيعابه استيعاباً جمالياً، والقبضَ على لبه، ونيلَ إعجاب قارئه بدءاً بافتتاحيتها السردية، ومروراً بخيطها القصير الوامض، ووصولا إلى خاتمتها الواخزة اللماحة، التي يمكن أن تنفتح على أمداء لا متناهية، وتُستنبَط منها تأويلاتٌ لا حصر لها، فإنْ أفلحت القصةُ في ذلك أمستْ قادرةً على نيل اهتمام قارئها، واكتساب إعجابه، والتأثير فيه. وأظن أن ما أبدعه تشيخوف، وغوغول، وإدغار ألن بو، وغي دي موباسان، وزكريا تامر، ومحمد خضير، وإبراهيم صموئيل، وجميل حتمل، ويونس محمود يونس، ورباب هلال، ونظراؤهم من الكتاب العالميين والسوريين والعرب، ينضوي تحت هذا النوع من الكتابة القادرة على أن تكون متناسجةً مع زمنها، وشاهدةً على عصرها، مع تمكُنها من إحداث تأثير كبير في ذائقة المتلقي، ووعيه الجمالي معاً.

كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية