الغرب بين استهداف سفارة المكسيك وإيران

خلال الأحداث الأخيرة التي وقعت ابتداء من 2022 فقد الغرب الكثير من أخلاقه السياسية، بسبب مواقفه المزدوجة تجاه قضايا حساسة للغاية مثل الحرب الأوكرانية وقضية السفارة المكسيكية في الإكوادور، ويحدث هذا في وقت مفصلي من تاريخ تطور العلاقات الدولية بسبب التغييرات الجوهرية التي تمس الخريطة الجيوسياسية باقتراب نهاية هيمنة الغرب.
في هذه الصفحة، عالجنا كما عالجت مقالات في هذه الجريدة ومنابر أخرى، ازدواجية المعايير لدى الغرب في تباكيه على ضحايا الحرب الأوكرانية التي تشنها روسيا ضد هذا البلد، ثم صمت غالبية أعضائه، ولاسيما التيار الأنكلوسكسوني عن المجازر التي ارتكبتها إسرائيل في حق الشعب الفلسطيني ووصلت إلى الإبادة. وكيف عمل هذا التيار على تضخيم ضحايا الحرب الأوكرانية وتبرير ضحايا المحرقة الجديدة، التي يشهدها العالم في القرن الواحد والعشرين، كما ذهب إلى ذلك عدد من رؤساء العالم، خاصة في أمريكا اللاتينية مثل الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا والكولومبي غوستافو بيترو.

ترتفع الكثير من الأصوات في الغرب محذرة من أن سياسة الكيل بمكيالين لم تعد تنفع، ويجب ضرورة إعادة النظر في هذه السياسة

وانضاف مؤخرا حادث آخر إلى قائمة الأحداث التي تبرز الكيل بمكيالين في السياسة الدولية، فخلال الأسبوع الماضي، حدث هجومان على تمثيليات دبلوماسية، الأول استهدف القنصلية الإيرانية في سوريا، والثاني يتعلق باقتحام قوات شرطة دولة الأكوادور في أمريكا اللاتينية السفارة المكسيكية، لاعتقال النائب السابق لرئيس الحكومة خورخي كلاس، الذي منحته المكسيك اللجوء السياسي ساعات قبل الهجوم يوم الجمعة الماضي، انتفضت أمريكا اللاتينية ضد قرار رئيس الأكوادور دانييل نوبوا، ونددت به، بل حتى المعارضة في الإكوادور اعتبرته خرقا سافرا للاتفاقيات الدولية حول التمثيليات الدبلوماسية. وانضم الغرب مسرعا إلى هذه الإدانة. غير أن المثير للتساؤل، وإن كان الأمر في حالة الغرب لم يعد مثيرا للاستغراب، هو لماذا في الأسبوع نفسه، ندد الغرب باقتحام الشرطة لسفارة المكسيك لاعتقال مسؤول سياسي متهم بالفساد، وهدد بعقوبات ضد الإكوادور، والتزم الصمت في حالة الهجوم الإسرائيلي على التمثيلية الدبلوماسية الإيرانية في العاصمة دمشق، الذي خلف قتلى؟ بل قامت دول مثل فرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا بمعارضة المقترح الذي تقدمت به روسيا لإدانة إسرائيل في مجلس الأمن، ولا يفكر الغرب في التنديد، بل في محاولة تهدئة الوضع خوفا من الانجرار إلى حرب شاملة تريدها إسرائيل، لإعادة تشكيل خريطة الشرق الأوسط. استهداف إسرائيل إيران يعتبر عملا إرهابيا بكل المقاييس، ولا يدخل في نطاق الحرب، وإحجام الغرب عن التنديد يعني أنه يؤيد العمل الإرهابي، هذا الإرهاب الذي قام بمحاربته بعد تفجيرات 11 سبتمبر/أيلول الإرهابية. كان من شأن تنديد الغرب بهذا الهجوم ولو في حده الأدنى تهدئة طهران، لكن لم يحصل.
في غضون ذلك، لا يوجد اختلاف بين الأمس واليوم، وربما المستقبل في تصرفات هذا الغرب، بمعنى سياسة الكيل بمكيالين التي تفتقد للأخلاق. إذ يكشف التاريخ كيف أن هذا الغرب خاصة الأنكلوسكسوني كان في طليعة دول العالم التي عادة ما تتخذ مواقف في العمق دينية مسيحية – يهودية مضادة لكل ما يتعلق بنهضة عربية وإسلامية، وإن كان يجري تغليفها بمبررات سياسية. وهذه السياسة ليست وليدة العقود السابقة، خاصة بعد انفجار الصراع العربي – الإسرائيلي، بل هي تعود إلى الماضي، وهي ممتدة من الحروب الصليبية إلى يومنا هذا. ومن أبرز الأمثلة في هذا الشأن، كيف عاش الغرب، خاصة أوروبا ما بين القرن الثامن عشر وحتى الحرب العالمية الأولى ثقافة حقوق الإنسان والحريات الليبرالية، لكنه في المقابل انطلق في غزو مناطق من العالم وتحويلها الى مستعمرات. وشهدت هذه المستعمرات جرائم حرب خطيرة، مثلما حدث في المغرب والجزائر والكونغو، إضافة إلى أكبر عملية تجارة العبيد في العالم التي يطلق عليها من باب التخفيف «الرواج الثلاثي» بينما في الأصل والعمق «الموت الثلاثي».
تجري كل هذه التطورات في وقت يشهد فيه العالم تحالفات جديدة وانقلابات عسكرية وطموحات لدول بهدف إثبات ذاتها والدفاع عن مصالحها في العالم. وإذا كانت أمريكا اللاتينية سباقة إلى إعادة النظر في العلاقات مع الغرب، ثم آسيا، يأتي الآن الدور على افريقيا، ولعل منطقة الساحل الافريقي خير عنوان لهذا التغيير الجيوسياسي، من خلال قرار دول، طرد الفرنسيين والأمريكيين. ومنذ أسبوعين فقط، قامت حكومة النيجر مثلا بطرد القوات الأمريكية من أراضيها بعدما فعلت ذلك مع القوات الفرنسية خلال يوليو/تموز الماضي. واتهمت النيجر الغرب بتشجيع الإرهاب في منطقة الساحل لتعزيز نفوذه. ومن يمتلك ذاكرة قوية خاصة في المقارنة بين الأحداث السياسية، تكفيه استعادة تجربة «الجيش السري للحلف الأطلسي» وما نفذه من عمليات إرهابية في السبعينيات والثمانينيات في دول مثل بلجيكا وإيطاليا، لمنع اليسار من الوصول إلى السلطة. هذه المقارنة ستلقي الضوء على دور بعض القوات الغربية التي لا تحارب الإرهاب، بل تفاقمه.
ترتفع الكثير من الأصوات في الغرب محذرة من أن سياسة الكيل بمكيالين لم تعد تنفع، ويجب ضرورة إعادة النظر في هذه السياسة. ومن أبرز هذه الأصوات التيار اليساري في الحزب الديمقراطي الأمريكي، الذي يندد بما يعتبره انخراط واشنطن في تأييد جرائم إسرائيل في فلسطين. ومن أوروبا، يبقى الصوت الأبرز هو صوت رئيس الحكومة وزير الخارجية الفرنسية الأسبق دومينيك دو فيلبان الذي يحذر الغرب من انتفاضة ما يصطلح عليه «الجنوب الشامل». لا يمكن للغرب تطبيق سياسة الكيل بمكيالين في القضايا الدولية، ثم يتباكى بشأن ما يعتبره الاكتساح الصيني والتركي والروسي لبعض مناطق العالم.
كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية