«السترات الصفراء»: لماذا يريدونها في تونس حمراء؟

رأيناها في نسختها الأصلية صفراء فاقع لونها، حين اكتسحت قبل أسابيع شوارع باريس. ويبدو أننا سنشاهد قريبا كما تقول التوقعات، تلك الشوارع في نسخة مقلدة تختلف عن الأولى في الشكل والمضمون . فهناك على الضفة الأخرى في تونس من يتلهف اليوم لاستيراد تلك السترات، شرط ان تكون معدلة على مزاجه الحزبي، فتصير حمراء قانية بلون الدم. وسواء أكان الامر نوعا من الجنوح العابر وراء موجة استنساخ أعمى لواقع يريد البعض إسقاطه بوعي أو بدون وعي على ظرف مختلف ومغاير؟ أم كان في الاصل ترصدا متعمدا لفرصة الانقضاض على ديمقراطية لم تعد تسع باعتقاده لقدر من الاختلاف والتنوع، يسمح بقبول الجميع بمن فيهم الطرف الاكبر والاكثر تمثيلية، اي الاسلاميون، فإن الايام المقبلة ستكون حبلى وبلاشك بالعديد من التطورات وصعبة وثقيلة جدا في كل الأحوال على تونس.
فإذا كان الفرنسيون لبسوا تلك السترات الصفراء وخرجوا للتظاهر، لأنهم ذاقوا صاعا واحدا من مرارة الأزمة التي عصفت بهم، فمن بمقدوره الآن أن لا يتخيل حال التونسيين الذين يذوقون بدل الصاع اثنين وأكثر، جراء كل الأزمات التي مرت وتمر بهم، وإذا كان اقتصاد دولة صناعية كبرى مثل فرنسا صار يعاني الآن، وربما سيعاني أكثر غدا في حال استمرت موجة الاضطرابات، فكيف سيكون الحال إذن مع اقتصاد دولة صغيرة قليلة الموارد ومكبلة بالكامل بقيود صندوق النقد الدولي؟ هل أن تقويض التجربة ونسف البيت على رؤوس ساكنيه سيكون في تلك الحالة هو الحل الامثل للخروج من ذلك النفق المظلم؟ لقد كتبت مجموعة من الشباب على مواقع التواصل الاجتماعي السبت الماضي، اي في عز المواجهات التي حصلت بين السترات الصفراء الفرنسية وقوات الشرطة، أنها تعلن عن « تأسيس حملة (السترات الحمراء) لإنقاد تونس في ظل غياب المصداقية والتصور، وضبابية الرؤية لدى الطبقة السياسية الحالية، وتعمق الهوة بينها وبين الشعب التونسي». وربما كان مثل ذلك الكلام سيكون وجيها ومقبولا في عصر آخر غير العصر الذي يعيشه هؤلاء، ولكنه يبدو الآن خارجا تماما عن السياق. فمن هو ذلك البطل المنقذ الذي تحتاجه تونس اليوم بالفعل؟ هل هو الشباب الذي يخرج للشوارع غاضبا مزمجرا ومنفلتا من كل ضابط وقيد؟ أم هو على العكس ذلك الشباب الذي يجد ويكد لأنه يفهم أن التغيير يبدأ أولا وقبل كل شيء من نفسه، وأن لا شيء يتحقق بالاتكال على الاخرين أو بانتظار معجزة تنزل من السماء؟ ثم هل أن هناك حقا ما يمنع التونسيين اليوم أو غدا من نقد الأوضاع والاحتجاج والتعبير السلمي عن ضجرهم وسخطهم من السياسيين، وتبرمهم من أوضاعهم المعيشية الصعبة، ويضطرهم للبس السترات الحمراء والمغامرة بالتعبير العنيف عن همومهم؟ هل هم يعيشون مثلا كما تعيش معظم الشعوب العربية الأخرى تحت نظام استبدادي يدوس على حرياتهم بالجزمة؟ ثم ما الجدوى من قيام حملة احتجاج لا أحد يعلم إن كانت ستكون سلمية أم لا؟ وليس معروفا ما طبيعة الأطراف التي تقودها أو الهدف الأصلي منها؟ أليس مشكل تونس الآن كما يقر الجميع اقتصاديا واجتماعيا، قبل أن يكون سياسيا بالأساس؟
لقد كان المسؤولون الحاليون يرددون دوما في كل زياراتهم الخارجية أمرين، فقد كانوا يقولون في كل الدول العربية التي زاروها، إن أهل مكة أدرى بشعابها، وإن الثورة التونسية ليست للتصدير، ثم كانوا يعلنون في الدول الغربية التي يقصدونها أنه لا وجود لربيع عربي، بل إن كل ما في الأمر، إن هناك بوادر لربيع تونسي. ولكنهم لم يكونوا حريصين بالقدر الكافي على تأمين بلدهم وتجربتهم من عوامل الوهن والتآكل وحمايتها، من شتى التهديدات الداخلية والخارجية التي كانت تحدق بها من كل جانب. وفيما كانوا يعلمون تمام العلم أن الحزب الفائز بالانتخابات، أي حزب النداء، لم يكن سوى تجمع ظرفي ومؤقت لاصحاب المصالح، ويدركون جيدا كيف أن الطموحات الشخصية الواسعة لقيادييه بمن فيهم ابن الرئيس نفسه، كانت ستؤدي به عاجلا أم آجلا الى التحلل والتفسخ الكامل، الأمر الذي حصل بالفعل بعد أن تشظى وتحول بلمح البصر إلى ملل ونحل، وأحزاب تتصارع فيما بينها على نصيب من كعكة السلطة، لم يقدم أولئك المسؤولون، وفي مقدمتهم الرئيس نفسه على فعل شيء، بل ظلوا ينظرون للأمر بكثير من السلبية. ولربما لم يبد قائد السبسي الذي توقفت أحلامه على الارجح عند باب قصر قرطاج، حماسا كبيرا لبقاء حزب النداء واستمراره بثوب ديمقراطي، ورأى أن الأفضل، ان لا يكون الوريث المحتمل له داخل الحزب وحتى الدولة رهنا فقط بلعبة الانتخابات التي قادته يوما إلى القصر.
وكان من الطبيعي ان تنعكس تلك الصراعات التي احتدمت بين اجنحة النداء على الدولة وأن يظهر الائتلاف الحكومي بشكل مضطرب ومهزوز، أمام الرأي العام المحلي، ثم يزداد الامر تعقيدا بتفكك التوافقات التي قادت لتشكيل الحكومة ضمن ما أطلق عليها وثيقة قرطاج، وتمسك الرئيس بخيار إزاحة رئيس حكومته، الأمر الدي عارضته ووقفت ضده حركة النهضة بشدة. لقد راكم كل ذلك من مشاعر اليأس والاحباط التي غذاها الإعلام المحلي، وهو ينقل بالتفصيل مهاترات السياسيين وصراعات الديكة التي لا تنتهي، وجعل قوى داخلية وخارجية تلعب على الوتر الحساس لشباب ظل يرى كيف توسعت مظاهر الفساد واستغلال النفوذ، وتفاقمت في الوقت نفسه أزماته أمام الصعود الصاروخي للأسعار وغلاء المعيشة، مقابل الاثراء الغامض والفاحش لبعض النافذين والمحظوظين. ولكن المفارقة التي حصلت مع ذلك في تونس هي ان بعض اطراف الحكم باتت هي التي تدفع اليوم نحو سيناريوهات الهدم والتخريب، وهي التي تواصل بشتى الطرق صب الزيت على النار، ومحاولة جر البلد نحو المجهول. إنها تفعل ذلك فقط لأنها تشعر بدورها بنوع آخر من اليأس والإحباط من تلك الديمقراطية التي لا ترى انها ستعود عليها وعلى المدى الطويل بالنفع، وستمكنها من تثبيت أقدامها مجددا في مفاصل السلطة. ولأنها لن تتورع ابدا عن فعل المستحيل حتى تجهض التجربة وتوقف المسار بأي شكل كان، فهي لا تستنكف من أن تمد أيديها لأكثر من جهة خارجية ترغب بدورها في قتل الاستثناء التونسي. وكل ما يفعله الطرفان بعدها، انهما يستغلان الغضب المشروع للناس لشراء المزيد من الضمائر والانفس الضعيفة. أما الهدف فليس مجرد تغيير السترات الصفراء الفرنسية باخرى حمراء تونسية، بل تصوير الديمقراطية ذاتها على انها عبث وفوضى لا سبيل لوقفهما، إلا بظهور بطل منقذ لن يخرج بالتأكيد من بين صفوف الشباب، الذين يهبون للتظاهر في الشوارع مهما كانت الوان ستراتهم. ولكن المخططين يغفلون في كل مرة عن امرين اثنين وهما ان هناك مكرا فوق مكرهم وشعبا فوق مكائدهم لا يقبل بأي حال حمامات الدم التي يسعون جاهدين لاغراقه فيها.

*كاتب وصحافي من تونس

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية