مُفتي الديار اللغوية

أفضل ما جاءت به في رأيي اللسانيات أنها ألغت الوسائط بين اللغة ومنجزها. ونقصد بالوسائط نمطا من الناس يدعون أنهم الأعرف من غيرهم باللغة، وأن عليهم أن ينكّدوا على الناس بأن يصوبوا الاستعمالات أو يتهمونها بقلة الفصاحة، أو غير ذلك من الأحكام التي تجعلهم كالمفتين في اللغة. هناك فرق بين تعليم اللغات والإفتاء فيها، التعليم يعتمد طريقة نقل العلوم وتبسيطها من غير أحكام ذوقية أو ذاتية، والإفتاء يجعل المعلم أو المتعالم كالوصي على اللغة، بينما اللغة ملك مشاع توجد في أذهان المتكلمين جميعا، وأن كل مستعمل للسانه الأصلي من المفروض ألا يحتاج من يصلح له، لأن كل متكلم للسانه الأصلي هو حسب شمسكي، عارف به قادر على إصلاح نفسه. أما إذا احتاج معلما، لا مفتيا، لتعلم اللسان فذلك دليل على أن ذلك اللسان ليس لسانه الأصلي.
وفي العربية التي لا نتعلمها إلا في المدارس، أو في غيرها من المؤسسات فإن كثيرا من الوسطاء، يدعون أنهم حماة هذه اللغة وأنه دونهم قد يدك عرش اللغة وتذهب رياحها، هكذا يروجون ويصدقهم الخائفون من اللحن. الحقيقة أن الإفتاء في اللغة كان قديما قدم النحو العربي نفسه، فقد أفتى النحاة بأشكال لم تكن مستعملة وقاسوها على كلام مستعمل بشهادة سيبويه شيخ النحاة.
نقرأ في الكتاب وفي باب من أبوابه: «هذا بابٌ منه استكرهه النحويون، وهو قبيحٌ فوضعوا الكلام فيه على غير ما وضعته العرب». أنت ترى هنا أن النحاة تدخلوا في الاستعمال، بأن أجروا استعمالين مختلفين مجرى واحدا: نعني أنهم استعملوا المصدر (تَب) من الفعل (تب) قياسا على استعمال (وَيْل) فقالوا (ويْحٌ له وتب) و (وتبا له وويحا).[ الكتاب، 1/176]. يؤرخ النحوي هنا لتعديل الكلام بسلطة من له سلطة التغيير، لكنه تغيير لن يحدث بين عشية وضحاها، بل يحدث بعد عقود وقد حدث ذلك فعلا في كلام الناس اليوم، وهذا دليل على أننا لا نتبع أحيانا كلام العرب بل طريقة المُفتين في النحو حين يسمحون بسلطة العلم لاستعمال أن يتداول قياسا على استعمال آخر. الحقيقة أن هذا لا يحدث في اللغة التي يتكلمها الناس دون وساطة معلم، بل في اللغات التي يعلمها معلم.

بعض أفكار النحاة العرب في النحو لا يمكن حملها على العلم، بل على الفتوى بما في ذلك رأي سيبويه نفسه في قوله إنه: «يجوز في الشعر ما لا يجوز في الكلام من صرف ما لا ينصرف.. وحذف ما لا يحذف» ويورد نماذج من أشعار العرب كالأعشى والعجاج والفرزدق، ويختتم الباب بكلام حوى العبارة التي ستوسم بها الظاهرة حين قال: «وليس شيء يُضطرون إليه إلا وهم يحاولون به وجْها» (الكتاب 1/32) ولذلك سمي تنوين ما لا ينون وما شابهها «ضرورة شعرية». لقد تحدثنا في مقال سابق في «القدس العربي» (31 مايو/أيار 2016 عنوانه أسطورة قديمة اسمها الضرورة الشعرية) عن هذا بما أغنى عن إعادته؛ لكنا نذكره ههنا لنبين كيف أن النحوي يمكن أن يقدم فتوى في ظاهرة لو محصت النظر فيها لما كانت تعتمد ركائز علمية، إذ ما ضر شاعر أن يجري الكلام على القاعدة؟ أو ما الذي دعا النحوي إلى أن يبيح للشاعر أشياء ولا يبيح له أخرى؟ وما سلطة نحوي نظريته لاحقة على شعر قيل قبل عصر النحو والتقعيد بقرون، حتى يسمي ما قيل سابقا ضرورة؟ ألا يمكن أن يكون ما سمي ضرورة عادة لهجية قديمة؟ التنوين وعدم أجرائه رأي نحوي تنتمي إلى الوَرَلسان (أي وصف النحوي للسان معين وإصداره رأيا فيه) ولا علاقة له بحقيقة إنجاز العرب لكلامها (بما في ذلك الشعراء). والقول بأنه يمكن للشعراء أن ينونوا ما لا ينون ضرورة هو فتوى أكثر من أن تكون رأيا علميا.

ومثال هذه الفتوى أن النحوي يجد في كلام العرب وهو يدرس (نِعْمَ) و (بئْسَ) أن حسان بن ثابت يقول (ألست بنعم الجارُ يُؤلِفُ بيتَهُ// أخَا قلةٍ أو مُعدِمُ المالِ مُصرما) فيفتي بناء على هذا الكلام أن (نعم) اسمٌ لأن حرف الجر لا يدخل إلا على الأسماء فهي ليست فعلا بذلك. ويجد نحاة آخرون أن العرب تقول (نِعْمَت المرأةُ وبِئْسَت الجاريَةُ) فيستدلون على أنهما فعلان باتصال الضمير المرفوع الذي لا يتصل إلا بالأفعال، فأنت ترى أن الإفتاء مبني على ملاحظة الظواهر، وإصدار الرأي العلمي اعتمادا على القرائن التي يمكن أن تكون متضاربة.
في العصر الحديث توجد أنواع من الفتاوى الفقهية، التي يقترن فيها الديني بالنحوي، فعلى سبيل المثال يمكن أن تجد في بعض المواقع على الشبكة العنكبوتية سؤالا موجها إلى من يستفتى بهذا النص: «هل يَجُوزُ قَوْلُ الناسِ أثنَاءَ الإعْرابِ عَن لفظِ الجَلالةِ الله مَفعولا بِهِ مَنصُوبا؟» يجيب العارف المفتي: «نعَم يَجُوزُ، لا حَرَجَ فِي ذلكَ، فَقَد ذَكَرَ الإمامُ العيُونِي أن النحوَ يَتَعَامَلُ مَعَ الكَلمةِ، والكَلامِ لا معَ الذواتِ، فلا بأسَ بِقُولِكَ، الله: مفعولٌ بِه، لكن الأفْضَلَ أن نَقُولَ عن لفظِ الجَلالةِ: اسمٌ مَنصوبٌ على التعظيمِ تأدُبًا في الإعرابِ».

قد يفرحك أو يحزنك أن المفتي أجاب بالإيجاب، أو النفي، لكن الإشكال ليس في جواب المفتي، بل في شرعية السؤال أصلا وفي شرعية الجواب من بعده. هناك خلط بين معنى المفعول به في الاصطلاح النحوي ومعناه في اللغة أو المعجم. فالمفعول في اللغة أن يكون قد فعل به فاعل فعلا بقطع النظر على الفعل وهذا في رأي السائل لا يجوز، لأن الله فاعل للوجود ولكل ما اتصل به من كيانات وأفعال. مفعولية الله التي تطرح ههنا هي مسألة في أصلها كلامية، لكن ثقافة العامة بسطتها وجعلت من الإجرام المحرم أن تقول إن الله مفعول ويوصف بذلك في الإعراب. لكن المفعولية في النحو ليست المفعولية في اللغة؛ المفعولية النحوية أن يكون الاسم أو ما حل محله مؤديا معنى المفعولية في الكلام، بعد أن يكون الفعل قد فرغ فيه معنى في محل النصب. في الكلام يجرى الإعراب على الألفاظ جميعا إجراء واحدا، لأن العلاقات الإعرابية لا تميز في الاستحقاق بين الوحدات المعجمية وقيمها الدلالية أو المرجعية. فرارا من هذا الضرب من الحرج عدل المعربون اللفظ وهناك من بات يستعمل العبارة التالية في وصف لفظ الجلالة أن كان منصوبا فيقولون: منصوب على التعظيم وهذا كلام معياري لا معنى له في علم النحو.
صحيح أنه يمكن في هذا النحو أن يقال «منصوب على معنى كذا» إذا كان ذلك المعنى معنى نحويا معروفا فعلى سبيل المثال قال نحاة الكوفة ومن لف لفهم في نصب المفعول معه، إنه منصوب على الخلاف واعتبروا الخلاف معنى لأجله نصب المفعول من نوع (سرتُ أنا والشاطئَ) فـ(الشاطئَ) منصوبة عند الكوفيين من النحاة على الخلاف، والخلاف معنى نحوي يقصد به أن ما بعد الواو في المثال السابق معناها مخالف لما قبلها وهذا يعني أن الواو ليست للعطف لأن العطف يكون بين مشتركين أو أكثر في دلالة واحدة كما في (سرت أنا وزيدٌ) فكلاهما يشترك في المسير لكن (سرت أنا والشاطئ) لا يشترك الطرفان في السير لأن الشاطئ لا يسير. وبالرجوع إلى قولهم منصوب على التعظيم فينبغي أن يكون التعظيم عاملا معنويا لأجله يبرر نصب لفظ الإله وهذا لا أساس له في كلامهم. العلوم محصنة بأحكامها التي ترتبط بموضوع ذلك العلم وبأسسه النظرية فإن دخلت معطيات لا علاقة لها بذلك العلم تحول العلم إلى فتاوى، ولا تحتاج العلوم مفتين، بل تحتاج مفكرين شكاكين أو مؤمنين بالعلم لأصوله شارحين.

أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية