الحياة اليومية في غزة: حكايات ومصائر

فنسان شنيغانس* | ترجمة: عبد المنعم الشنتوف**
حجم الخط
0

يسعى هذا النص الرحلي الذي نقدم ترجمته العربية إلى الاقتراب من الحياة اليومية لسكان غزة، في ظل الاحتلال الصهيوني، وما يفرضه من حصار وإغلاق وإذلال. ويعتمد المحامي والحقوقي الفرنسي فنسان شنيغانس في هذا الخصوص على شهادته الخاصة التي ترتبت عن إقامته صحبة زوجته في غزة لمدة سنتين وتحديدا ما بين أكتوبر /تشرين الأول 1998 وأكتوبر 2000.

النص

مدينة الشمس والرمل والغبار. هي ذي غزة التي يعيش فيها نصف مليون، وإن كان القطاع يضم ما يتجاوز الضعف. مدينة تثير الدهشة باتساعها وامتدادها وعدم اكتمالها وكثافتها. تثير هذه المدينة في البداية دهشة الغرباء وهم قلة، بسبب هذه المفارقة التي تتمثل في الفقر المدقع وعزة النفس في آن. لا وجود لمتسولين البتة وإنما حشود غفيرة يوحي مخبرها بتقشف باسم. ولا وجود لأطفال بثياب رثة وبالية، وإنما أسراب من التلامذة يضجون بالحياة ويرتدون ثيابا موحدة. وليس ثمة وجود لقاعة سينما، وإنما مركز ثقافي ومكتبة في طور الإنشاء. قلة من الأزقة المعبدة وبضع شوارع مزهوة بمتاجرها الحديثة. ثمة مفارقات أخرى تنثال مثل شلال تصل الوافدين الجدد وتتمثل في الدينامية العقارية؛ إذ تبدو المدينة بكاملها أشبه بورش بناء كبير في الوقت الذي يبدو فيه المستقبل غامضا. الأهمية المسندة لتعليم الأطفال في الوقت الذي تهيمن فيه العطالة. البذخ الذي يميز بعض المنازل الخاصة الواقعة على بعد خطوات من مخيمات اللاجئين. التمسك الشديد بالقيم العائلية، في الوقت الذي يردد فيه الكثير من الناس أنهم يفتقرون إلى المستقبل. الهيمنة المسبقة في سياق الحياة اليومية للطقوس الإسلامية وفي احترام للأديان الأخرى الممثلة تاريخيا.
لا تخلو مشاهد الحياة اليومية من المتعة والبهاء: العربات التي تجرها الحمير والمكتظة بأحمال الفواكه والخضر، أو كتل الإسمنت. أسواق تضج بالحياة والحركة وحوانيت الصناع التقليديين. أصوات المؤذنين المشروعة المختلطة بصياح الديكة وكلاكسون السيارات. مواكب أعراس لا نهاية لها، أو جلسات سمر حول كأس شاي أو فنجان قهوة في منزل أحد الأصدقاء. كانت أمهاتنا تتساءلن: هل تتناولون طعامكم بطريقة عادية؟
لا تفتقر غزة إلى الغذاء، وإن كان الاصح القول إنها ليست في حاجة إلى تلكم المنتجات التي يتعذر الحصول عليها من قبيل الجبن والنبيذ ولحم الخنزير المجفف. يأتي ما هو ضروري من مواد غذائية من إسرائيل وبأسعار مرتفعة. بيد أن الإنتاج المحلي من الخضر والفواكه مهم، كان يمكن الحصول بيسر على اللحوم والأسماك. غير أن الطعام الشعبي الوطني المكون من الكوسة المحشوة بالأرز يشكل في الغالب الوجبة الإجبارية لكل الأسر. وإذا كان الماء غير الصالح للشرب يتدفق من الحنفيات فإن الكل يعلم أنه ينبغي استعماله بحيطة وحذر. أما ما يتعلق بالكهرباء، فإن الاحتياط ضروري لأنه يجري قطعه مرات عدة ولفترات طويلة كل يوم. تبدو الحياة اليومية في غزة لأول وهلة غير مختلفة عن تلك الموجودة في مصر والأردن. غير أن ثمة حجارة تحت البحر، كما يقول المثل. وسرعان ما بدا خوضنا بحوار اكثر حميمية من وضعنا كأجانب يتمتعون بجواز سفر. وهو ما يعني حريتنا في الخروج من غزة، دون سيارة الرونو 4 الفلسطينية مكسبا مثيرا للاحتقار.
يقال عن قطاع غزة إنه سجن كبير وهذا صحيح، أن تكون فلسطينيا عاديا وتغادر غزة أمر ممكن لكن دون أمل في العودة. ونستثني من ذلك أن تذهب إلى إسرائيل ببطاقة ترخيص بالعمل تجري مراقبتها صباحا ومساء باستثناء فترات الحصار وهي عديدة.

إياد أو الاحتجاز

اصبح إياد الذي يتحدث الفرنسية بشكل جيد صديقا في غضون أسابيع. وقد روى لنا حكايته:
كان من الممكن أن أذهب إلى الخارج وأن اختار المنفى، لكنني ولدت وترعرعت هنا. إنه وطني والاحتلال متواصل؛ وهو ما يعني ضرورة أن أكون حاضرا. أن تقيم في غزة يشكل بمفرده فعل إيمان. يتعين عليكم أن تفهموا أنتم الأجانب أن الإسرائيليين لا ينتظرون غير نفي الغالبية العظمى منا. ويستلزم ذلك أنني سأبقى هنا، على الرغم من الأوضاع السياسية العصية على الاحتمال والحالة الاقتصادية الرهيبة، حياتي موصولة بأكملها بالسياسة منذ طفولتي. السياسة في المدرسة والجامعة والبيت، وهي كل حياتي وإن كان يستعصي عليك أنت أن تراها.
ثمة في حديث إياد نصيب وافر للذكريات ما دام الحديث عن المستقبل في غزة غير ملائم. وكان أن ساق بشكل طبيعي مرحلة انتفاضة 1987:
شاركت قليلا في انتفاضة 1988 وإن كان ابي رافضا لذلك. كنا نضع البصل في عيوننا قبل البدء برشق الحجارة كي نهيج دموعنا وكي تكون عيوننا جافة حين نتلقى الغاز المسيل للدموع. وكنا ندهن راحات أيادينا حين عودتي صحبة إخوتي في المساء بكريم نيفيا. يتعين عليّ الاعتراف بأن ابي كان يتفحص أيادينا كل مساء كي يتاكد من عدم رشقنا للحجارة. وكنا نفلت من العقاب بفضل الكريم. وفي هذه الفترة أصبح الجميع محافظين وأخلاقيين؛ وكان ذلك طبيعيا. لم يكن من اللائق أن نتسلى ونضحك وبلادك بأكملها مسحوقة من لدن «آخر» يمتلك كل السلطة. وإلى هذه الفترة يعود التضامن الشديد بين الناس والأحزاب السياسية أيضا. ولأول مرة تشتغل حركة فتح والجماعات الإسلامية والعلمانيون جنبا إلى جنب. وتمثلت الغاية المشتركة في وضع حد للاحتلال الإسرائيلي والخلوص إلى وطن حقيقي.
وحيث إننا كنا نتجاذب أطراف الحديث حول الشعور بالاحتجاز الخاص بسكان غزة، فقد روى لي إياد حكاية زواجه بميادة ابنة عمه المقيمة في السعودية. كانت أسرتانا موافقتين على هذا الزواج. وقد طلبت أسرة زوجتي ترخيصا بدخول غزة لكن الإسرائيليين بادروا إلى الرفض. وقد قررنا والحالة هذه عقد القران في مصر. حصلت صحبة والداي على ترخيص بالخروج مدته خمسة عشر يوما فيما رفض ذلك لإخوتي. وإذا كانوا قد وافقوا على خروجي فلأنني لم أكن وحيدا؛ إذ إن شابا بمفرده يشكل باستمرار مشكلة أمنية بالنسبة لإسرائيل. وبعد يوم من إتمام الزفاف في 15 يناير/كانون الثاني 1993 ركبنا سيارة أجرة كي نعود إلى غزة. كان الفراق فظيعا؛ إذ بكى والد زوجتي ثم زودني ببعض النصائح وقال لي إنني أخذت قلبه. لم يكونا يعرفان متى سيلتقيان. وقد انصرمت الآن ست سنوات، دون أن نتمكن من زيارة ذويها، ولو كان ذلك في القدس أو الضفة الغربية. خروجك من غزة يعني عدم قدرتك على العودة. ونحن نبذل قصارى جهدنا في سبيل حصولها بشكل شرعي على بطاقة إقامة إسرائيلية، لكن دون جدوى. قيل لي إن المسألة قد تتحقق إذا دفعت مبلغ 5000 دولار، لكن الإقدام على ذلك يعني القبول بالتعامل مع الإسرائيليين وأنا أرفض ذلك قطعا. كانت زوجتي سعيدة في بداية عهدها هنا وكنا منسجمين ومتفاهمين. وقد أنجبنا ولدا. لكنها لم تلبث أن وقعت نهبا للحنين إلى أسرتها بعد ذلك. وهي تشعر بأنها سجينة في غزة وحزينة باستمرار.
كان إياد يتطلع إلى مرور سرب من الطيور في ما كنت أنظر إلى الطائرات الورقية التي يصنعها الأطفال من مزق البلاستيك.

سامي أو الدين

ينبغي عليك كي تصل إلى منزل سامي الشاب الغزاوي الذي يبلغ من العمر ثلاثا وعشرين سنة وأصغر أحد عشر ابنا أن تمر بمتاهة من الكتل الإسمنتية. الجدران مغمورة بالرسومات القديمة للانتفاضة: أعلام وخناجر ووجوه المحاربين ومن يرشقون الحجارة. وبجوارها جداريات ـ على الأقل تلك التي يعود تاريخها إلى ما قبل أكتوبر 2000 – تتمحور مواضيعها حول الصحة والبيئة والتربية. وسرعان ما تتحول الأزقة إلى ممرات وترع ضيقة تحيط بها منازل مغبرة. وفي غياب باحة بأريكة تحت شجرة تين، فإننا نلفي غرفة استقبال تعتبر مفخرة سامي. جدار بكامله مزين بمشهد طبيعي يمثل جبلا يتدفق منه شلال مياه، وفي خلفية الصورة مشهد ثلج أبدي يتناقض بشكل صارخ مع الرطوبة التي تهيمن على المكان. وسرعان ما ذكرنا نداء المؤذن إلى الصلاة على حين غرة بان الدين يتحكم ليس فقط في سيرورة الزمن في غزة، وإنما بهيكل نمط التفكير والمشاعر والانفعالات. دعاني سامي حين سألته إلى الجلوس ثم شرع في الحديث باللغة الإنكليزية. انعكس ظل الأم على إحدى زوايا الجدار. لمحه الابن بحنو وهو يعرف أنها لن تفقه من الحديث شيئا:
أتذكر اليوم الذي علمني فيه الدين كيف أحترم أمي بأن أمسك بيدها. ذهبت في ذلك اليوم لرؤيتها وقبلتها بشكل خاطف. وما زلت إلى حدود الآن أقبل يدها كل يوم حين رؤيتها. غالبا ما ترتبط صورة الإسلام بمجانين الله وواضعي القنابل المتفجرة. بيد أن الحقيقة مختلفة تماما كما يبين ذاك سامي: شرعت في التردد على المسجد صحبة ابي منذ عام 1987 في بداية الانتفاضة. استمعنا إلى سيرة نبينا محمد. كانت قصص القرآن تثير إعجابي، خصوصا تلك الموجودة في سور البقرة والنمل والقمر والنجم. فهمت أيضا الجدل والرحمة. علمونا أيضا كيف نحترم آراء الآخرين، وأن لا نلوذ بالعنف. يتسم ديننا بالمرونة الشديدة وتكمن الصعوبة التي ينبغي علينا مواجهتها في معارضة ومناقضة التقاليد له، فإذا كنت تملك قطعة أرض في الإسلام ومت، فإن كل أبنائك ذكورا وإناثا سوف يرثون. بيد أن التقاليد هنا تقضي بأن لا تورث البنت، لأنها سوف تتزوج برجل أجنبي. وقد تحولت هذه العادة مع مرور السنين إلى قاعدة دينية. والشان نفسه بالنسبة للسلطة المطلقة للأب والتي لا أثر لها في النصوص؛ إذ لا تعدو كونها عادة. الدين الحقيقي أكثر بساطة وشفافية. ويكفي تطبيق جيد كي يجعله دينا معتدلا وحديثا يحض على الاحترام المتبادل بين بني البشر. وأعتقد أن غالبية سكان القطاع تشاطرني دون شك هذا الرأي. غير أنك حين تمر بكل المصاعب التي عشناها منذ خمسين عاما، خصوصا بعد توقيع اتفاقية أوسلو، وافتقارك إلى الحرية في التنقل حيث تريد، وحين ترى انعدام أي إمكانية للتواصل مع البلدان المجاورة، أو حتى فلسطينيي إسرائيل، أو القدس، أو الضفة الغربية، فإنك تفضل العودة إلى التقاليد؛ لأنها تضفي معنى قويا على الحياة. كانت البنات في ما مضى يذهبن للسباحة في البحر لكن ذلك لم يعد ممكنا الآن. ويعرف البعض يقينا من أين يشترون الكحول وأفلام البورنو، واعتقد صراحة بانهم مخطئون لأن الوقت ليس مناسبا لذلك.

كيف تتصور المستقبل؟

احلم بالسلام والعمل والبيت والأسرة، وإمكانية التعرف على العالم. أرجو السلام لكن ليس بأي ثمن. انظر عدد المستوطنات التي بناها الإسرائيليون فوق أراضينا وفي غزة أيضا منذ 1993. ويقول الإسرائيليون إنه لن يكون ثمة سلام إلا في حال استقرار الأمن، لكنهم يستمرون في الاستيطان فوق كل تلة خلف سياجاتهم الشائكة. انظر إلى حال الضفة الغربية؛ إذ يسلبون أرض بلادك عاما تلو آخر. وعليك أن تنظر وتكتفي بالنظر.
اقتحمت سحابة من الأشقاء والشقيقات الغرفة على حين غرة.
قال سامي: سوف يتابعون دروسهم بعد الزوال اليوم، وسيكون عليهم أن يدرسوا في فترة الصباح في الأسبوع المقبل. لا خيار لنا بسبب ندرة المدارس. كان الأولاد يرتدون سراويل تحت وزرات، وكان اكثرهم حماسة يسالني عن زين الدين زيدان، فيما كانت الصبايا الصغيرات يرتدين وزرات خضراء بياقات بيضاء. كانت أكبرهن ترتدي تنورة طويلة من الجينز ويحجبن رؤوسهن بمنديل. رمقنني خلسة قبل أن يتوارين استجابة لنداء أمهن. بيد أن الكبرى سرعان ما عادت وهي تحمل طبقا من الفواكه وعصير البرتقال.

*كاتب فرنسي
** كاتب ومترجم مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية