احتجاجات جورج فلويد وقطاع غزة

هل أصبحت الاحتجاجات ضد الحرب في قطاع غزة تتخذ منحنى يشبه الاحتجاجات ضد مقتل جورج فلويد خلال مايو 2020، الذي تسبب في رجة سياسية واجتماعية ومنعطفا في المجتمع الأمريكي، حيث بدأ بمراجعة مواقفه من التاريخ الأسود للعبودية، وسياسة التمييز العنصري، هل سيتكرر في القضية الفلسطينية؟ وهكذا، تعيش الولايات المتحدة على إيقاع الاحتجاجات الطلابية، التي تشهدها أكثر من 90 جامعة من شرق البلاد إلى غربها مرورا بالوسط والجنوب، حيث يتظاهر الطلاب في اعتصامات ووقفات وإضرابات من هارفارد إلى لوس أنجلس وشيكاغو وكولومبيا.
بدأت الاحتجاجات في يناير الماضي، عندما شرع أنصار إسرائيل في الكونغرس الأمريكي بملاحقة بعد عمداء الجامعات، وهذه المرة ليس بسبب التساهل مع الفكر الشيوعي، كما حدث في حقبة المكارثية في الخمسينيات، بل بتهمة التساهل مع معاداة السامية، لأنهم رخصوا لتظاهرات مضادة ومنددة بجرائم إسرائيل ضد الفلسطينيين. وقد تكون حملة اليوم أسوأ إرهابا من حملة مكارثي، لأن مناهضي اليوم يناهضون عمليات الإبادة، التي تصورها وتنقلها وسائل الإعلام العالمية يوميا. وقدمت عميدة جامعة هارفارد العريقة كلودين جاي استقالتها يوم 3 يناير الماضي، رافضة الضغوط والاتهامات. وقبلها، قدمت عميدة جامعة بنسلفانيا ليز ماغيل استقالتها، بعدما جرى اتهامها بالتساهل مع معاداة السامية. ويحتفظ التاريخ الأكاديمي بمنزلة غير مشرفة لعميدة جامعة كولومبيا نعيمة شفيق، من أصول مصرية، لأنها سايرت اللوبي اليهودي على حساب ما هو أكاديمي، ما يجعل عددا من الطلبة والأساتذة في كولومبيا يطالبون برحيلها في أقرب وقت، وأضفى عليها البعض لقب «سيسي كولومبيا» نسبة إلى القمع الذي يمارسه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
وتفيد معظم التحاليل حتى الآن بأن هذه الاحتجاجات تعكس تغييرات عميقة في المجتمع الأمريكي، لأنها تمس حليفا تاريخيا للسياسة الخارجية والعسكرية الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية، وفي منطقة حساسة مثل الشرق الأوسط. وعلاقة بهذا، تبرز هذه الاحتجاجات رفض الجيل الأمريكي الجديد استمرار الانحياز الأعمى لواشنطن باسم جميع الأمريكيين في قضايا دولية حساسة مثل، القضية الفلسطينية، حيث يتعرض الفلسطينيون لإبادة حقيقية بينما واشنطن التي ترفع راية حقوق الإنسان تعمل على تسليح إسرائيل. ويطالب الطلبة بإنهاء الجامعات الأمريكية التعاون مع نظيراتها الإسرائيلية. وبالفعل، خضعت إدارات بعض الجامعات لمثل هذه المطالب ومنها، جامعة براون العريقة في رود آيلند.

تبرز احتجاجات الجامعات رفض الجيل الأمريكي الجديد استمرار الانحياز الأعمى لواشنطن باسم جميع الأمريكيين في قضايا دولية حساسة مثل، القضية الفلسطينية

وتتعدد المرجعيات لقراءة احتجاجات الجامعات الأمريكية، بين من يستعيد مايو 1968، انتفاضة طلاب فرنسا وجزء من أوروبا، ويجد نقاط التقاء كثيرة. والبعض يقتصر على خاصيات المجتمع الأمريكي، ويستحضر احتجاجات جيل الستينيات وبداية السبعينيات ضد حرب فيتنام، التي تورطت فيها الولايات المتحدة وتركت جرحا عميقا في الضمير الأمريكي، غير أنه، يجب البحث دائما عن الحدث الأبرز الذي سبق الحالي (الاحتجاجات) بفترة، وتكون الفترة الزمنية بينهما قصيرة. ولهذا، يمكن اعتبار هذه الاحتجاجات مستوحاة نسبيا من الاحتجاجات ضد حرب فيتنام في الستينيات، غير أنه يجب اعتبارها مستوحاة أكثر، بل امتدادا مباشرا للاحتجاجات التاريخية التي شهدتها الولايات المتحدة بين مايو ويونيو 2020، ونعني ما ترتب عن مقتل الأمريكي من أصول افريقية جورج فلويد على يد الشرطة في ولاية مونتانا. وكانت المجلة التقدمية الأمريكية «ذي نايشن» قد رصدت نوعا من التقارب والتضامن بين احتجاجات جورج فلويد التي قادتها حركة «حياة السود مهمة» والقضية الفلسطينية، وذلك في مقال لها يوم 30 أكتوبر الماضي. وإبان مايو 2020، رسم الفلسطينيون رسوما تضامنية على الجدار العازل، مع جورج فلويد في رسالة مفعمة بالتضامن. وطيلة 2021 حملت حركة «حياة السود مهمة» الرايات الفلسطينية في لقاءاتها، واعتاد أنصارها ارتداء الكوفية الفلسطينية. وساهمت هذه الحركة خلال السنوات العشر الأخيرة في التأثير على رؤية نسبة من الأمريكيين لقضايا الشرق الأوسط، ومنها تعزيز التضامن مع القضية الفلسطينية، إذ أن أفرادها من أنشط الجماعات في شبكات التواصل الاجتماعي. وتاريخيا، أظهر الأمريكيون من أصول افريقية تعاطفا مع الفلسطينيين، وكان مالكوم إكس قد دعا الى تأييد الفلسطينيين خلال الستينيات قبل مقتله. وينتقل هذا التضامن بقوة الى صفوف الأمريكيين من أصول لاتينية، ويتغلغل في صفوف الأمريكيين البيض كذلك. وعليه، حركة الجامعات تشكل منعطفا جذريا في رؤية الأمريكي للقضية الفلسطينية، وتعد بداية ضعف حقيقي للوبي الصهيوني الذي يجد نفسه في موقف دفاع لأول مرة بسبب جرائم الإبادة التي ارتكبها الكيان خاصة ضد الأطفال. وأحداث جورج فلويد ما زالت أمام أعيننا وحاضرة في ذاكرتنا، ويمكن استحضار ثلاثة مشاهد قوية بين جورج فلويد واحتجاجات الجامعات اليوم. المشهد الأول وهو أن الاحتجاجات في عفويتها وقوتها في الجامعات تشبه الاحتجاجات التي اجتازت شوارع المدن الأمريكية، بل نسبة من المحتجين، سواء طلبة أو ناشطين حقوقيين في احتجاجات جورج فلويد يشاركون ويؤطرون بعض احتجاجات الجامعات الأمريكية. وعلاقة بالمشهد الثاني، لا يختلف مشهد الرئيس الأمريكي جو بايدن وهو يضفي نعت الفوضيين والمعادين للسامية على الطلبة المحتجين ضد جرائم الكيان عن الاتهامات الشنيعة التي وجهها سلفه في البيت الأبيض الجمهوري دونالد ترامب على المناهضين للعنصرية إبان أحداث جورج فلويد. ويبقى المشهد الثالث والأخير غير مكتمل، إذا كانت احتجاجات جورج فلويد قد عصفت بحظوظ إعادة انتخاب الجمهوري دونالد ترامب سنة 2020، الذي خسر أمام المرشح الديمقراطي الحالي جو بايدن، فهل سيتكرر المشهد نفسه مع جو بايدن في انتخابات نوفمبر المقبل، بسبب احتجاجات فلسطين؟ وحول غياب الاحتجاجات في غالبية الجامعات في العالم العربي ضد حرب الإبادة، فنكتفي بـ»من دون تعليق».
كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية