الباحث اللبناني في الشؤون الجيوسياسية زياد الصائغ: دخلنا مرحلة استئصال كل الأيديولوجيات الدينية المُعَسْكَرة في المنطقة

حاورته: رلى موفّق
حجم الخط
0

يرى الباحث اللبناني في الشؤون الجيوسياسية زياد الصائغ أن المشهد الجيوسياسي من أوكرانيا إلى الشرق الأوسط، وتحديدا في فلسطين المحتلة، هو مشهد مترابط ويتعلق بإعادة تشكيل التوازنات الدولية والتوازنات الإقليمية بشكل جديد، وأن هناك سقوطا للحالة الديكتاتورية في النظام العالمي التي تقودها روسيا، والتي تقود أيضا محور إيران وكوريا الشمالية، وقد دخلنا مرحلة استئصال كل الأيديولوجيات الدينية المعَسْكَرة والمؤدلجة.
الصائغ الذي يشغل منصب المدير التنفيذي لملتقى التأثير المدني (ملتقى يعمل على قيام دولة المواطنة السيدة الحرة العادلة المستقلة في لبنان بحوكمة سليمة وسياسات عامة مستدامة) يعتبر أن التطرف اليميني الإسرائيلي والتطرف لدى ولاية الفقيه يُصفّيان بعضهما من خلال أذرعهما، ولكن مَن يدفع الثمن الكبير هي فلسطين. وكما بدأ الإشكال من القضية الفلسطينية التي هي القضية المركزية في الشرق الأوسط، سيبدأ بها الحل. وسنكون أمام دولتين لا محالة.
وفي قناعته، أن سقوط كل ما يسمى «دين مُعَسْكَر ومؤدلَج» يتحقق لأن الحالات الوطنية بدأت بعزل هذه المنصات المرتبطة بأجندات عابرة للحدود، لكنها بحاجة لوقت. وبتقديره أن ما بُني خلال أربعين عاما يحتاج إنهاؤه إلى خمس أو عشر سنوات؛ ولكن ما قد يُسرَّع الأمر في المنطقة أن حالة الخليج العربي أخذت بجرأة مسار تطوّر سريع، وحسمت خياراتها بالانتهاء من الأيديولوجيات الدينية وانتهاجهم دولة المواطنة، فيما إيران ستبقى معزولة بعدما اكتشف الغرب خطأه الاستراتيجي بالتحالف معها لمواجهة العالم العربي، متوقعا إنهاء الحالة الإيرانية من داخل إيران، حيث المجتمع الإيراني مجتمع حيوي.
ولفت إلى أن سردية العودة إلى الحرب الأهلية بعيدة عن الواقع، لأن الحرب تحتاج إلى أطراف مسلحين، فيما مصادر التمويل سواء أكان بالسلاح أم المال غير متوفرة، وما يجري راهنا هو عملية تهويل بالحرب الأهلية من قبل فريق «محور إيران» داعيا إلى عدم استهانة أحد بحيوية المجتمع اللبناني وفهمه أنه لا يمكن أن يُعيد تجربة الحرب رغم أن هناك محاولات لزجه في حرب داخلية، ومؤكدا أن لبنان في لحظة استئصال التطرف الديني في المنطقة هو الذي يستطيع أن يعود إلى تأدية دوره الحضاري وهذا هو التحدي الأساسي. وهنا نص الحوار:
○ حرب غزة في منطقتنا وحرب أوكرانيا في أوروبا يؤثران على الوضع كله، مع العلم أن حرب أوكرانيا تمر بمرحلة هدوء إلى حد ما وتبرز الحرب في غزة، ورغم كل المساعي عن وقف لإطلاق نار لكن مَن يتابع الأجواء الإسرائيلية يستبعد ذلك، فكيف سينعكس استمرار الحرب على المنطقة وعلينا في لبنان؟
• المشهد الجيوسياسي من أوكرانيا إلى الشرق الأوسط، وتحديدا في فلسطين المحتلة، هو مشهد مترابط ويتعلق بإعادة تشكيل التوازنات الدولية والإقليمية بشكل جديد، وغير منفصلين عن بعضهما، فالحرب قائمة على أوكرانيا من خلال قرار روسيا بالاعتداء على سيادة أوكرانيا الذي دفع بالغرب لأن يذهب باتجاه المواجهة، ولو أن هناك سردية أخرى تقول إن «الناتو» هو الذي اقترب من الحدود الروسية وهددها، ولكن دخول أوكرانيا إلى «الناتو» لا يعني حربا على روسيا بقدر ما هو تموضع استراتيجي على الحدود الروسية، وعندما ذهب النظام الروسي باتجاه استباحة سيادة أوكرانيا نحن لم نكن في هذه المرحلة. وفي الوقت نفسه، روسيا تقود محور في هذا العالم، يضم إيران وكوريا الشمالية. إذا الهجوم الروسي لم يكن فقط لمواجهة «الناتو» في أوكرانيا، إنما سبق ذلك ما أعلنه بطريرك روسيا عن أن دخول روسيا إلى سوريا في 2015 «حرب مقدّسة» ومن بعدها تلاه حضور متقدّم للحرس الثوري، بعدما كان حزب الله كان أكثر مثولا في الحالة السورية في العام 2014.
أنا أقرأ مشهد التوازن العالمي، فروسيا تقود محور من ضمنه إيران وكوريا الشمالية، والصين ما زالت إلى حد ما براغماتية ولم تلقِ بثقلها العسكري، لكنها عملت أكثر على الأصعدة الاقتصادية والمالية والسياسية، وعلى الصعيد الدبلوماسي في مجلس الأمن.
○ هل يمكن اعتبار الصين من «المحور»؟
• الصين ما زالت في مكان ما براغماتية، والقنوات ما زالت مفتوحة بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية وعلى أعلى المستويات وهناك زيارات رسمية بينهما. ما نعيشه جيوسياسيا هو على 3 مستويات. المستوى الأول، هو إعادة تشكيل نظام عالمي جديد وبتوازنات جديدة، ولكن لن يكون هناك مكان فيه في المرحلة المقبلة لما يسمى الأنظمة الديكتاتورية الشمولية، بما فيها النظام الروسي، فالوضع الداخلي الروسي مغلق، لكن هناك تصدعات كثيرة فيه على مستوى «الاستابلشمنت». هناك سقوط للحالة الديكتاتورية في النظام العالمي التي تقودها روسيا، وعلينا أن نراقب الموقف الصيني، هل ستذهب بكين باتجاه أكثر براغماتية، ليس بالمعنى الاقتصادي بل بالمعنى السياسي حتى لا تخلق إشكالا مع الولايات المتحدة الأمريكية في تايوان؟ أم هي ستذهب باتجاه صدام معيّن قد تتناغم فيه مع كوريا الشمالية، لأنه من الملاحظ أن كوريا الشمالية تصعّد باتجاه كوريا الجنوبية.
أما المستوى الثاني الذي هو مرتبط بالحالة الروسية، والذي يعتقد الناس أنه مختلف، فاسمه «الأديان المُعَسكَرة» أي أن الكنيسة الروسية تحدثت عن حرب مقدسة، وإيران تقود حرب تحرير مقدسات وحرب عقائدية، ورفعت شعار مواجهة التطرف السنّي وغذّت حالات تطرف، حيث هناك حالة مُعسكَرة على الصعيد الشيعي. بعد بروز تنظيم» داعش» والقضاء عليه، بدأ يتكشّف الآن أن هذه الحالة كانت جزءا من تناغم مصالح بين بعض الغرب وإيران، للإطباق على الحالة السنيّة.
فإذا قلنا إننا بدأنا حالة سقوط الديكتاتوريات ومن ثمَّ بدأنا حالة سقوط الأديان المعسكَرة، بمعنى أن «داعش» انتهى وولاية الفقيه تعاني في المنطقة بأكملها، فهذا يستدعي على المستوى الثالث أيضا أن نذهب إلى المنطقة ونقرأ ما يجري فيها. نحن دخلنا مرحلة استئصال كل الأيديولوجيات الدينية المعسكَرة، بدءا من اليمين الإسرائيلي المتطرف. مَن ينظر إلى ما يجري اليوم من عدوان إسرائيلي يُخيّل إليه أن هذا انتصار لآلة القتل الإسرائيلية، لكنه في الحقيقة انهيار كامل لمعسكر اليمين المتطرف، يليه انهيار كامل للمعسكر الإيراني المتطرف، الذي يقود أحد أذرعه في فلسطين وهي «حماس». وأيضا تخوض أوروبا الآن معركة انتخابية بمواجهة اليمين المتطرف عندها، والذي يتطلع إلى روسيا كحليف له، وإلى إيران بوصفها حالة توازن مع العالم السنيّ، في وقت أن هذه الحالات متجهة صوب ثلاثة انهيارات.
○ بأي معنى وكيف؟
• بمعنى أن هناك قرارا لدى «الناتو» بأن لا تراخي في مواجهة روسيا، وأن الحرب ضدها يجب أن تذهب إلى آخر مدى. هذه النقطة الأولى، أما الثانية فقد بدأ الرأي العام الغربي بإسقاط الغطاء عن اليمين الإسرائيلي المتطرف بشكل كامل، والكلام يتصاعد حول «حل الدولتين». والنقطة الثالثة هي أن أوروبا التي كانت متحمسة للاتفاق النووي مع إيران تقول اليوم إن أحد المخاطر الأساسية على النظام العالمي، وعلى العالم الديمقراطي المعتدل والحر والمستقر، هي إيران. فعنوان المرحلة اليوم هو استئصال الأديان المعسكَرة والمؤدلجة. ربما ستقوم على حمامات دماء وانهيارات ولكن لا يمكن لليمين الإسرائيلي أن ينتصر، فإسرائيل اليوم متصدعة في الداخل. أنا لا أريد النظر إلى رؤوس الأموال والإعلام، لكن الرأي العام اليهودي السائد في العالم خلع عن إسرائيل أي أخلاقية لوجودها وعدوانها، هم لا يقولون بزوال إسرائيل، لكن لا يمكن الاستمرار بهذا الشكل، ويجب أن تكون هناك دولة إلى جوار دولة. ثانيا، العالم العربي السنّي أخذ خياره، وتحديدا دول الخليج ومصر والأردن، أخذوا خيار الاعتدال. أنا لا أتكلم عن السياسة الداخلية، فهذه هم يقررونها، لكن اتجاههم السائد هو الاعتدال، وكلامهم ليس عن الدولة الدينية بل عن الدولة الوطنية. كلامهم اليوم يذهب باتجاه الحالة العربية الطبيعية التي كانت تتكلم عن دولة المواطنة وليس عن دولة الدين، ودولة العروبة المتنورة، وهنا العرب عمليا يكونون في حالة ملاقاة للحالة العلمانية الغربية، ولكن بشكل مختلف.
إذا قرأنا هذا المشهد العالمي والمنعكس على المشهد الإقليمي، فإن روسيا لن تنتصر في الحرب بل هي تُستنزف وتعيش تصدعات كبيرة وستخسر قيادتها لهذا المحور، فيما إيران تذهب لتقول للغرب والولايات المتحدة: لكم ما تريدون، فقط أعطوني دورا في المنطقة، لكن الغرب يرفض إعطاءها شيئا، ويستند إلى الآلة الإسرائيلية لتصفيتها؛ هنا يكون التطرف اليميني الإسرائيلي والتطرف لدى ولاية الفقيه يُصفّيان بعضهما من خلال أذرعهما، ولكن مَن يدفع الثمن الكبير؟ إنها فلسطين. العالم كله كان يقول منذ البداية وحتى الآن، إن القضية الفلسطينية هي القضية المركزية في الشرق الأوسط، فمنها بدأ الإشكال وبها يبدأ الحل. وسنكون أمام دولتين. لا أحد يفكّر بأنه لن تكون هناك دولتان. شكل الدولة وتمظهرها وإعادة بنائها يناقش فيما بعد، لكن ستقوم دولة فلسطينية، واليهود في العالم إضافة إلى الليبراليين سواء أكانوا مسيحيين أم مسلمين أم بوذيين، هم الذين سيخوضون معركة مع كل «الاستابلشمنت» الدولي في الأمم المتحدة حتى يؤكدوا حتمية قيام هذه الدولة. بهذا المعنى لا تعود فلسطين في حالة مركزية بمعنى الإشكالية، ولكن بمعنى بناء الحلول وإنهاء التطرف، وفي الأساس لم يكن في فلسطين كلام أبدا أن فلسطين إسلامية، بل هي فلسطينية.
مَن جعل فلسطين إسلامية، هو هذا الحلف الموضوعي بين اليهود المتطرف والإسلام المتطرف. واستفادت إسرائيل من ذلك بغية تحسين شعبيتها، واستغلت أن هناك إسلاما متطرفا، في الوقت أن «حماس» التي كانت تظن في عقلها الباطني أنها تقاوم، لم تتنبه إلى أنها بالانخراط في هذا المحور الإيراني وتشكيل ما يسمى بـ«وحدة الساحات» تكون عمليا قد خرجت من العباءة الوطنية الفلسطينية، وانخرطت في مشروع لا علاقة له جوهريا بالقضية الفلسطينية بقدر ما له علاقة بإيجاد نفوذ إيراني في المنطقة على أشلاء رفع لواء القضية الفلسطينية.
ببساطة نحن في مرحلة استئصال التطرف الديني المعَسْكَر، الذي ساهم الغرب في تشكيله خلال الـ40 عاما الأخيرة. الغرب يتعاون مع الإسلام السياسي في المنطقة، وأجهض بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية مع باراك أوباما شرارة «الربيع العربي» هو لم يقم بتنفيذها ولكن هو مَن أجهضها، لأنه عمل بفكرة أن يُعطي مجالا للإسلام السياسي ويقوم بتوازن بين الإسلام السنّي والإسلام الشيعي، وذهب إلى التحالف مع الإسلام الشيعي، باعتقاده في عقله الباطني أن الإسلام السنّي متطرف والإسلام الشيعي معتدل، وبهذه الطريقة نصل إلى توازن معه، وفجأة اكتشف أن قيادات تنظيم «القاعدة» الأساسية وقيادات تنظيم «داعش» تمَّ تدريبها بعد الـ2000 بأكثريتها في معسكرات للحرس الثوري الإيراني، وهي التي قادت كل عمليات الإرهاب في المنطقة والعالم، وبدأوا يفهمون أن ذلك كان خطأ استراتيجيا لهم عبر تعويم ما يُسمى بـ«الإسلام السياسي» وعادوا إلى الحوار مع دول الخليج التي اتهمها بأنها هي منبع الإسلام السياسي، وبدأ يفهم أن هذه الدول طوّرت تفكيرها وتعاملت ببراغماتية، وعادت إلى تظهير جذور إسلامها في مواجهة نزعة تشويه هذا الإسلام.
أيضا، هناك موجة تطرف في الغرب، لكن أعتقد أن النُخب في أوروبا تحديدا وفي الولايات المتحدة الأمريكية، قادرة على امتصاص هذا اليمين المتطرف، أو على الأقل الحد من خطورة إمساكه بزمام القرار، لأنهم بدأوا يشعرون عمليا بأن التطرف يجرّ التطرف، ويُدخل أوروبا والشرق الأوسط والعالم بتوترات. وهذه التوترات – بالمعنى الاقتصادي – لم يعد يستطيع الغرب أن يدفع أثمانها لأنه مستنزف اقتصاديا وماليا، وبدأ يخاف ليس فقط على هويته بالمعنى الوطني لأن هناك صعودا للإسلام في أوروبا، وإنما بدأ يخاف على فقدان هويته على مستوى الليبرالية الاقتصادية التي يعيشها لأن قدراته بدأت تشح، وهو لذلك يقول: أخطأنا في استراتيجيتنا وفي التكتيك، فلنذهب الآن إلى إنهاء ما يسمى الأديان المعسكَرة، أو الأديان المسلحة. الآن التطرف هو الذي يُنهي التطرف في المنطقة.
هذه ليست قراءة سياسية تقليدية، هي قراءة تأخذ المعطى الحضاري للمنطقة. إسرائيل لا يمكن أن تُكمل كما هي اليوم. «حماس» وحزب الله والجهاد الإسلامي والحشد الشعبي والحوثيون لا بد أن يفهموا أن عليهم أن يعودوا إلى أوطانهم، فهذه حالات خارجة عن المساحات الوطنية.
○ ربما تكون أهداف الغرب ضرب ما تُسمّيه الأديان المعَسْكَرة، لكن السؤال يتمحور حول ما إذا كان ذلك ممكنا، إيران مدت أذرعها في المنطقة من أجل حماية نظامها، وهذه وظيفة التنظيمات المرتبطة بها، وإذا سلمنا جدلا بالقدرة على استئصال الأديان المعسكرة، فكم من الوقت يحتاج ذلك؟
• سيتحقق سقوط كل ما يسمى «دين مُعَسْكَر ومؤدلَج» لأن الحالات الوطنية بدأت بعزل هذه المنصات المرتبطة بأجندات عابرة للحدود، وهي بحاجة لوقت. بتقديري أن ما بُني خلال أربعين عاما يحتاج إنهاؤه إلى خمس أو عشر سنوات. ولكن قد يُسرَّع الأمر في المنطقة، لماذا؟ لأن حالة الخليج العربي أخذت بجرأة مسار تطوّر سريع، لقد حسمتْ خياراتها. نحن لدينا كتلة ديموغرافية ودينية واقتصادية وعربية حسمت خيارها بالانتهاء كليا مما يسمى أيديولوجيا دينية تستعمل الدين في حالات الصراع. أعادت الدين إلى الحالة الحضارية والقيمية. إيران ستبقى معزولة الآن، وهذا الخيار الذي أخذه الغرب منذ 40 سنة واستعمل فيه إيران لمواجهة العالم العربي انتهى، وإنهاء الحالة الإيرانية لن يكون من الغرب ولن يكون من الحالة العربية، إنما من داخل إيران. علينا النظر إلى الدينامية الحيوية لهذا المجتمع الإيراني المُصادَر. أذرع إيران في الخارج سوف تعاني من داخل دولها.
○ أذرع إيران غير قادرة على الوصول إلى نهائيات في دولها لكنها قادرة على التعطيل وإطالة الأوضاع الشاذة في تلك الدول…
• القرار الغربي والقرار العربي أقله من سنة إلى الآن يسيران بوضوح بعد تعثر مفاوضات النووي، لأن الغرب قال في البداية إن المفاوضات تتمحور حول الحالة النووية في إيران، فقال لهم العرب إن هناك الأذرع والصواريخ الباليستية والتمدد. اليوم في الاتحاد الأوروبي، انتهى الكلام عن إمكانية اتفاق نووي لأن إيران أخذت قرار دعم روسيا بالاعتداء على أوكرانيا وزودتها بالأسلحة.
○ منظرو المحور يعتبرون أنه رغم أن إيران زودت روسيا بالأسلحة إنما لم تقطع مع أمريكا، وبالتالي يراهنون على اتفاق مع جو بايدن لقطع الطريق على إمكانية عودة دونالد ترامب؟
• أنا أتابع المحللين الإيرانيين وبعض كتّابهم، ويتناغم معهم الأتراك أحيانا في التنظير لهذا المحور، ولكن الدينامية الجيوسياسية الموجودة في العالم والمنطقة اليوم، والتحوّل الأساسي في البنية الفكرية لمراكز الأبحاث في الغرب وبعض مراكز الأبحاث في الخليج، وحتى في جامعاتنا اللبنانية، ولكثير من النخب في العراق والليبراليين في مصر – الحالة الليبرالية على مستوى الغرب وعلى مستوى العالم العربي- لا يمكن لها بعد الآن أن تتعايش بشكل تطبيعي مع الحالة الإيرانية ومع أي تطبيع مع حالة اليمين الإسرائيلي المتطرف، ولا يمكن أن تقبل الحالة العربية الليبرالية السنية الإسلامية أن تُصادِر سنيّتها وإسلامها الحقيقي مجموعات متطرفة. هذا كله يسقط الآن بالمعنى الحضاري. هناك تشكّل لنظام عالمي جديد على قاعدة سلم قيم جديد وسلم مصالح مشتركة جديد، والعالم يتجه لإعادة تزخيم مفهوم الديمقراطية والليبرالية والاعتدال والحوار.
هناك أمر حدث في العام 2019، هل هي صدفة أن أحد أبرز قادة الغرب الروحيين، وهو البابا فرنسيس جاء إلى أبوظبي ووقّع مع شيخ الأزهر وثيقة الأخوة الإنسانية والسلام والعيش المشترك، وبعدها بسنتين ذهب إلى العراق، أي إلى النجف، ولم يذهب إلى إيران، ووقع معهم الوثيقة نفسها، وتكلموا عن الحالة الوطنية ودولة المواطنة، حتى إن كلمة مواطنة تبرز في الوثيقة، وهذه وقعها شيخ الأزهر، وكل أدبيات الأزهر في هذا الاتجاه، ومن ثمَّ يصدر شيء اسمه «إعلان مكة». هناك من لا يتطلع إلى التحوّل الحضاري الذي ينعكس بالسياسة، ينتبهون إلى الحالة السياسية التي فيها حروب وصراعات واستنزاف ودم، ولكنها لا تعرف أيضا أن حالة الصراعات هي حالة محدودة، ستتفوق عليها – في لحظة ما – كل هذه القيم التي وردت في هذه الوثيقة ووثائق أخرى.
○ هل حرب أوكرانيا هي التي فتّحت أعين الأوروبيين والأمريكيين أم ماذا؟
• المدخل كان حرب أوكرانيا. ولكن سبقها إعادة تقييم لفشل المجتمع الدولي والعالم العربي بحل الأزمة السورية. أعادوا التقييم لما وصلوا إليه في سوريا: ميليشيات إيرانية، حرس ثوري، روسيا، تركيا، تفكيك الحالة السورية بهذه الطريقة وفشل المجتمع الدولي وانخراط روسيا وإيران فيها، جعلهم يعون أن هذه الأطراف هي محور واحد، وهم يمدون نفوذهم على كل البحر الأبيض المتوسط وهم حلفاء، وهنا بدأت أوروبا التفكير أولا بهذا الأمر، هل نستطيع أن نذهب بالاتفاق النووي إذا الدول التي على الشاطئ تحولت إلى دول لجوء وهجرة وهو المعطى الذي يُهدد أوروبا بسبب هذه الأزمات التي خلقها الإيرانيون والروس. هذه كلها أزمات مترابطة، وهذه تعمل عليها مراكز الأبحاث. قالوا لهم انتبهوا لما حدث في سوريا وفي أوكرانيا. التقييم أولا كان للوضع في سوريا ومن ثمَّ تبلور، ونذهب مباشرة إلى بدء تفكيك هذه الحالات المتطرفة انطلاقا من الذي يحدث في أوكرانيا، والآن بدأ ينعكس على فلسطين المحتلة.
○ برأيك، كيف ستنعكس على لبنان التحولات الناجمة عن استئصال الأديان المعسكرة، حيث «حزب الله» يمسك بقرار السلم والحرب، وحيث هناك قلق من أن أركان الحرب الأهلية في لبنان آخذة بالتشكّل؟
• أولا، إيران هي التي تقود الحرب في المنطقة وفي لبنان تحديدا وليس حزب الله. وقرار فتح جبهة الجنوب هو قرار إيراني، وكل تصعيد يتمّ يكون بقرار إيراني. حزب الله ينفّذ ولكنه لا يُقرّر. القول إنه إذا قاد «حزب الله» الحرب في الجنوب، فسيذهب بلبنان إلى حرب أهلية، هي سردية لا علاقة لها بالواقع، لأن الحرب تحتاج إلى أفرقاء مسلحين. غير صحيح أن هناك أفرقاء مسلحين أو يستطيعون التسلح، لأنه عندما نقول ذلك فهذا معناه أن أحدا سيؤمن لهم السلاح، ويمولهم بالمال، لكن اليوم لا ليبيا ولا العراق بهذا الوارد، والخليج أصلا لم يُموِّل حربا في لبنان، وإسرائيل منخرطة في حربها، إذا مصادر تمويل الحرب سواء أكان بالسلاح أو المال غير متوفرة. ولا يستهين أحد بحيوية المجتمع اللبناني وفهمه أنه لا يمكن أن يُعيد تجربة الحرب رغم أن هناك محاولات لزجه في حرب داخلية.
○ من أين هذه المحاولات إذا لم يكن هناك قرار بتمويل الحرب وليس هناك أفرقاء خارجيون على استعداد لتمويلها؟
• هناك تهويل بالحرب يقوم به حزب الله بأجندة إيرانية للقول: إذا لم تخضعوا لنا سنستعمل كل الأساليب بما فيها افتعال إشكالات وتوترات متنقلة، وبإمكاني تعداد بعضها: من حادثة القرنة السوداء في ميفوق، ثمَّ الإشكال في حاصبيا نتيجة نقل راجمة الصواريخ، ومع العشائر العربية في خلدة، ومن ثمَّ إشكال ساحة ساسين في عيد الميلاد، ثمَّ المناوشات خلال مباريات فريقَي الحكمة والرياضي وما يتخللها من شعارات غير لائقة، وإشكال شكا وعرب أنفه، وحرق أشجار الميلاد في طرابلس، وتكسير الصلبان في منطقة الميناء، وأخيرا، افتعال التوترات على خلفية مقتل باسكال سليمان (المسؤول القواتي في جبيل) والتهويل بأن هناك تهديدا للشيعة في قرى جبيل، فيما أبناء المنطقة الشيعة كانوا جالسين مع القواتيين للمطالبة بمعرفة مصير باسكال، و40 في المئة من أصوات الشيعة ذهبت إلى النائب زياد حواط (كتلة القوات اللبنانية) وسليم الصايغ (كتلة الكتائب) وصولا إلى محاولة زج أزمة النازحين السوريين التي تحتاج إلى حل، وربما كنا وصلنا إلى حمام دم مسيحي – سوري، سيقال لاحقا إنه مسيحي – سنّي.
في اعتقادي أن الفريق الذي يتهم الآخرين بأنه يدير فتنة وحربا أهلية هو نتيجة ضعفه في الحالة الجيوسياسية في المنطقة. «المحور» يتراجع، وهو لم يعد يستطيع أن يستفيد من حالة التطرف الإسرائيلي التي تسقط أيضا، ولا أن يتغذى منها، ولا يستطيع أن يُقنع أحدا بسرديته بمقاومة إسرائيل في وقت ليس هناك فقط عدم توازن بل هو في حالة انتحار في ظل تدمير قراه وخسارة شبابه من دون أن يُقدِّم أي خدمة لغزة. إيران محشورة في المنطقة وهي ستسعى إلى خلق توترات ليس فقط في لبنان، بل في العراق والأردن والشمال والشرق السوريَين. التهويل بالحرب الأهلية هو تهويل مكشوف ومشبوه، ومن غير الممكن أن كون هناك حرب أهلية. مَن يطالب بالحقيقة والعدالة لا يصنع الفتنة، ولكن من يُحذِّر منها، تكون في عقله فتنة.
لبنان يستطيع أن يلعب دورا سياسيا في المنطقة في المرحلة المقبلة لأنه دولة التنوّع والعيش المشترك والنظام التشاركي الوطني والدولة المدنية ودولة المواطنة، ويستطيع أن يلعب دور الحوار وبناء السلام والاعتدال. اللبنانيون – مسلمون ومسيحيون – يشبهون بعضهم. وليس صدفة أن يكون اللبنانيون هم ممن ساهموا في صياغة «وثيقة الأخوة الإنسانية» و«إعلان مكة» و«إعلان مراكش» وليس صدفة أن يكون شارل مالك واحدا من ثلاثة كتبوا الشرعة الدولية لحقوق الإنسان. لبنان في لحظة استئصال التطرف الديني في المنطقة هو الذي يستطيع أن يعود إلى تأدية دوره الحضاري وهذا هو التحدي الأساسي.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية