الخبير اللبناني في الشؤون الجيوسياسية والدولية المحامي كارول سابا: لا حل دون رؤية وطنية وتراكم إيجابي لـ«اللحظة الزمنية» لإعادة ترميم «الصيغة اللبنانية»

حاورته: رلى موفّق
حجم الخط
0

يرى الخبير اللبناني في الشؤون الجيوسياسية والدولية المحامي كارول سابا أن المشكلة الأساسية في لبنان هي أننا على خط الحديد والنار جيوسياسياً، ولا نستشرف ماذا يحصل حولنا، وهناك خارج إقليمي ودولي يتحرَّك بسرعة مع خلط لكل التحالفات، وداخل لبناني فيه تراكم انهيارات، وأزمة رؤية سياسية وطنية. وهذا يتطلب التوقف عند الظروف والتحوّلات الخارجية والداخلية، والتي من خلالها لا بدَّ من إعادة ترميم الجسور اللبنانية وتركيز الصيغة ودستور الطائف وإعادة خلق التوازنات عبر حلول لا يمكن أن تكون طائفية بل وطنية.
ويعتبر سابا أنَّ «حزب الله» يَعِي أن هناك وقتاً معيّناً لإعادة إنتاج دور جديد له، وكلام أمينه العام «إننا نريد طمأنة» يحمل في طياته قلقاً، والإيجابي النوعيّ فيه هو ما يجب أن يتلقفه الآخرون، ولا بدَّ من أن نتعامل معه لكي نخرج من التراكُم السلبي الهدّام، إلى التراكُم الإيجابي.
برأي سابا، فإن المسيحيين يتحرَّكون من خلال «فائض الضعف» ومن منطق الخوف وجيوسياسية التقوقع الأقلَّوي، ولا رؤية واضحة لدورهم اليوم وعليهم أن يعملوا لإنتاجه. فهو الدور الذي يمكن أن يكون الجسر بين سنّة وشيعة لبنان، وصمّام الأمان بينهما. ويؤكد أن تركيب الصيغة من جديد غير ممكن من دون دور مسيحي واضح ودور سنّي واضح.
وحدها القراءات النقدية يمكن أن تُوصل إلى حوار. وبالنسبة إلى سابا: القوي هو مَن يذهب إلى طاولة الحوار، والضعيف هو مَن يرفض. والمطلوب إنتاج تقاطعات إيجابية، إستراتيجية ووطنية، وليس تقاطعات سلبية ظرفية ومصلحية. يلفت إلى أنَّ كل التحولات والتجاذبات والرسائل تمر عبرنا، و«اللجنة الخماسية» من أجل لبنان هي لتقطيع الوقت بانتظار نضوج التسوية بين الأضداد الإقليميين والدوليين، ويُشير إلى أن الوسيط المنزّه الوحيد هو أن تخرج المكونات اللبنانية من خطاب الكسر إلى منطق التوافق والتراكُم الإيجابي الكفيل بأن يفتح الطريق أمام المبادرة إلى حل بأنفسهم قبل أن يُفرض عليهم. وهنا نص الحوار:
○ كيف يمكن أن نقرأ الأزمة اللبنانية اليوم؟
• الأزمة اللبنانية هي أزمة مركبة ومعقدة. وتعقيداتها ليست ظرفية فحسب، بل جوهرية وأساسية نتيجة تراكمات داخلية عدة ونتيجة ظرف دولي متحرِّك ومتغيِّر. نحن نعيش في عودة زمن الجيوسياسية المتحركة التي تطبع اليوم الـ Momentum (اللحظة الزمنية المفصلية) بهدف إعادة إنتاج نظام دولي جديد في قضايا السياسة والجغرافيا كما في قضايا المناخ وخطوط التواصل والمواصلات والتكنولوجيا وحوكمة العالم من الناحية المالية والاقتصادية والبيئة والثروات الطبيعية، ومنها جيوسياسية الطاقة، الغاز والبترول. وهذا الـ Momentum الدوليّ المتحرِّك يخلط كل التحالفات ولا نعرف بعد ما هو تكوينه ومعالمه. وأفضل مثال على ذلك هو عودة «النيوإمبراطوريات» مِن روسيا، مروراً بالصين، وتركيا، وإيران. هذه متغيرات كبرى، ولكن لا شيء نهائياً بعد، فحتى ضمن المعسكرات والتحالفات هناك تجاذبات. ونحن نعيش فترة رمادية ما بين انتهاء عالم قديم وولادة عالم جديد.
المشكلة الأساسية في لبنان هي أننا على خط الحديد والنار جيوسياسياً. ولا نقرأ ولا نستشرف ماذا يحصل حولنا، وعندما نفعل تكون قراءتنا متأخرة عن الزمن كونها قراءة رجعية تعتمد على تجارب الماضي وليس على رؤية مستقبلية وتوثّب نحو المستقبل. مشكلتنا أن هناك خارجاً إقليمياً ودولياً يتحرَّك بسرعة مع خلط لكل التحالفات، وداخل لبناني فيه تراكم انهيارات مالية ـ اقتصادية ـ مجتمعية ـ وانهيارات حوكمية وأمنية، وهناك أزمة رؤية سياسية وطنية، فالكل يتحرَّك من خلال رؤية طائفية وهذا لا يخلق رؤية للبنان، الرؤية الوطنية ضرورية. وهناك أزمة في قلب الأزمة، وهي أزمة في حوكمة الأزمة، إذ لا نعرف كيف علينا أن نخرج من الأزمة وكيف يمكن أن تكون لدينا نظرة متوثبة ومنزّهة عن الطبقة السياسية الحاكمة اليوم تستطيع أن تُحدِّد ماهية خطة الإنقاذ وخطة التعافي.
ما يحصل أن هناك تعمية إلى حد ما من قِبل القوى السياسية. وهناك نكران للواقع وانفصامية سياسية وازدواجية في الخطاب وعدم قدرة للتوثب نحو المستقبل، وهناك «تعلية للسقف»، بحيث أصبح اللبنانيون قنابل موقوتة قابلة للانفجار في وجه بعضهم البعض. وهذا «السقف العالي» لا يؤدي إلى عقلانية في التعاطي مع الملف اللبناني وأزماته المعقدة والمركّبة.
○ الرؤية الوطنية التي من المطلوب أن تكون موجودة، هل هي ممكنة في ظل غياب التوافق بين القوى اللبنانية وشعور البعض بأن هناك فريقاً مسلحاً يضع مسدسه على طاولة الحوار لا بل يخطف لبنان، ومشروعه أكبر من لبنان؟
• أعتقد أن المطلوب من كل النخب السياسية والثقافية والفكرية والجامعية أن تكون لديها عقلانية معيّنة في التعاطي مع الملف اللبناني. والعقلانية تفرض ألاَّ تكون هناك تعمية على الظروف وعلاقات المكونات التي أوصلتها إلى ما نحن عليه اليوم. علينا أن نتوقف عند الظروف والتحولات التي تحدث حولنا وما هي الأزمات الموجودة اليوم داخلياً وخارجياً والتي من خلالها لا بدَّ من إعادة ترميم الجسور اللبنانية. الجسور تحتاج إلى فكر هندسي، وإعادة ترميم الصيغة، والحوكمة تتطلب عقلنة.
لا يجب أن ننظر إلى أن «حزب الله» يمتلك سلاحاً متراكماً، وأن هذا السلاح هو قوة. كل انفلاش للقوة هو في النهاية ضعف. نحن سابقاً عشنا مرحلة «القوات اللبنانية» أيام الشهيد بشير الجميّل. كانت لديها كل عناصر الدولة، ورغم ذلك لم تكن قوة مستديمة، لأن القوة المستديمة هي قوة التوثّب نحو الآخر والاعتراف به والمشاركة معه، وهذا ما ظهر من الرئيس بشير الجميل في 21 يوماً. إذا لم نُجرِ قراءة نقدية للأزمات التي تعيشها المكونات اللبنانية قبل «اتفاق الطائف» وبعده، فلن نستطيع أن نضع أُسساً جديدة وواضحة يُبنى عليها الحوار. لا يجب أن نخاف من الحوار. والقوي هو مَن يذهب الى طاولة الحوار، ولا أحد يستطيع أن يُغيِّر من قناعاته. والضعيف هو مَن يرفض الحوار. المطلوب إنتاج تقاطعات إيجابية، إستراتيجية ووطنية، وليس تقاطعات سلبية ظرفية ومصلحية.
○ ولكن هذا يحتاج إلى وجود ثقة بين المكونات وهذه الثقة غير موجودة…
• هناك برأيي ثلاثة فوائض ولا نزال في أزمة: الفائض الأول، هو الأزمة المسيحية التي انتقلت من فائض القوة ما قبل «الطائف» إلى فائض الضعف بعده. ويتحرَّك المسيحيون اليوم من خلال فائض الضعف. ونرى كيف أصبحت مثلاً العلاقات ملتبسة بين بعض المسيحيين – ولا سيما «القوات اللبنانية» – وبين فرنسا. عليهم أن يُجْـرُوا قراءة نقدية لتلك العلاقة، لأن الصورة النمطية لفرنسا بوصفها «حامية المسيحيين» منذ أيام الملك لويس التاسع قد تغيَّرت، فقد مرَّت بفترة «الحريرية السياسية» ووصلت اليوم إلى «الشيعية السياسية». كيف يمكن أن يُعاد تركيب الوطن إذا لم تكن هناك رؤية مسيحية متوثبة للمستقبل. وأستعير هنا ما قاله فارس سعيد أحد مؤسسي قوى «14 آذار»: «إن المسيحيين لا يكبرون بزعمائهم بل بدورهم». ولا أحد يدري ما هو الدور المسيحي اليوم!
الفائض الثاني، هو الأزمة «السُّنية السياسية»، التي انتقلت من فائض الغبن قبل «اتفاق الطائف» إلى فائض المراوحة. وبعد تعليق الرئيس سعد الحريري عمله السياسي ومغادرته إلى الخليج، أصبحنا اليوم في تشتّت سنّي في لبنان، ولا يمكن أن تُركّب الصيغة من جديد من دون دور مسيحي واضح ودور سنّي واضح.
أما الفائض الثالث، فهو الأزمة «الشيعية السياسية» التي انتقلت اليوم من فائض الحرمان إلى فائض القوة. أُشدِّد على كلمة «أزمة» لأن القوة الضاربة ليست حل لصاحبها، بل الشراكة المُستديمة مع الآخر اللبناني. ماذا سيفعل «حزب الله» بصواريخه في الداخل اللبناني؟ هل سيقصف الأشرفية والحدث أم طرابلس؟ هذا تكبير للحجر فيما خصَّ قوة السلاح حيال اللبنانيين. الصواريخ هي «قوة ردع». ويجب أن نُراجع النظرية القائلة بأن «قوة لبنان من ضعفه»، لأن قوة لبنان يجب أن تكون من قوته، وتراكم القوة يفيد في أحيان كثيرة، ورأينا كيف أفادت «قوة الردع» في الترسيم البحري بالأمس وفي الترسيم البري اليوم لوجود نوع من «تعادل القوة». لا بدَّ من قوننة هذه القوة لكي تكون فائضاً لمصلحة الوطن.
○ هل «فائض القوة» يصبُّ في خدمة لبنان الكيان النهائي ولبنان الدولة أم في خدمة أجندته الإقليمية؟
• «الشيعية السياسية» بُنيَت على نفس منطق «الحريرية السياسية» السُّنية، و«السُّنية السياسية» بُنيَت على نفس منطق ونموذج «المارونية السياسية»، ما معناه أن تركيبة «المارونية السياسية» التي ضربت القيمة الوطنية وأعطت للقيمة الطائفية قوة وإعلاء، وهذا ضَـرَبَ كل الدستور اللبناني، والدولة اللبنانية قامت على أساس السيطرة على الدولة المركزية وبناء تحالفات مع نخب من بقية الطوائف. ففي الجمهورية الأولى كان الموارنة هم الطائفة الملكة (رئاسة الجمهورية، وحاكم المصرف المركزي، وقائد الجيش، وقائد المخابرات… إلخ) وكان رئيس الجهورية الحاكم بأمره.
جاءت «الحريرية السياسية» وفَعلتِ الشيء نفسه. جوهر الفكرة بعد «الطائف» هو السيطرة على الدولة المركزية، ومن هنا تأتي محورية دور مجلس الوزراء. وقام الشهيد رفيق الحريري ببناء تحالفات مع النخب من كل الطوائف الأخرى لحماية «الحريرية السياسية» و«السُّنية السياسية». والشيء نفسه فَعلَـتْه «الشيعية السياسية» أي السيطرة على الدولة المركزية وأن تكون لديها تغطية مسيحية من خلال «التيار الوطني الحر» وتحالفات مع القوى والأحزاب المسيحية والدرزية والأقليات. الآن وصلوا إلى أزمة. لأن كل شيء له تاريخ استعمال وحفظ وانتهاء صلاحية. فلا تكون القوة مُستديمة، إلا إذا كانت مبينة على الشراكة الوطنية، وهي حاجة الجميع اليوم.
بالنسبة لـ«حزب الله» هو يَعِي اليوم أن هناك وقتاً معيناً لإعادة إنتاج دور جديد له. في تموز الماضي، تحدّث الأمين العام لـ«حزب الله» بما معناه «إنكم تتهموننا بأننا نريد المراكز، نحن لا نريدها لكننا نريد الطمأنة». بالرغم من القوة، هذا الكلام يحمل في طياته قلقاً. والإيجابيّ النوعيّ فيه، هو ما يجب أن يتلقفه الآخرون، لأن كل الأطراف بحاجة إلى طمأنة. يوم شعرت المقاومة في الماضي أنها في خطر، قامت بحماية نفسها في بيروت من خلال «7 أيار 2008» ولم تطلب حينها إذناً من أحد. اليوم هناك كلام آخر، وهو مَـدّ اليَد نحو «طمأنة المقاومة». وهذا هو المطلوب دولياً، وفي فترة زمنية معينة من خلال المتغيرات في عالم اليوم وخلط الأوراق. فمَحرِّكات الاتفاق الصيني ـ الإيراني ـ السعودي متجهة نحو الاستقرار الأمني والاستقرار الاقتصادي، ونحو النمو والتفاهم، ولا بدَّ في وقت من الأوقات أن يكون هناك سلمٌ ومن ثم سلام، وهذا طريق تَراكُم طويل وقد يكون متعثراً، ولكن في إطار هذا الطريق، هناك إعادة إنتاج لدور معيّن للنفوذ الإيراني في المنطقة، سواء أكان في العراق أم في اليمن أم في لبنان. الشق المتعلق بالدور الإقليمي لـ«حزب الله» لا بدَّ مِن أن يُدرس بشفافية ودقّة، ويتمّ الحوار حوله على ضوء المتغيرات التي تشي بأن هناك شيئاً يتغيّر في المنطقة، ولا بدَّ من أن ينعكس إيجاباً على لبنان. المشكلة أننا في لبنان لا نقرأ المتغيرات. نعم هناك في لبنان لاعب قوي اسمه «حزب الله»، ولديه كل مقومات الدولة، وله تاريخ معيّن في المقاومة سواء أحببناه أو لم نحبّه وهو أمر واقع، ولا بدَّ من أن نتعامل معه لكي نخرج من التراكُم السلبي الهدّام، إلى التراكُم الإيجابي.
○ جوهر المشكلة أن اللبنانيين لا يقرأون التطوّرات من حولهم؟
• اليوم الأزمة الأساسية في لبنان هي أزمة المسيحيين. وتعود الأزمة تاريخياً إلى الصراع بين فكرتين: فكرة الكتلة الوطنية (الكتلويين) بقيادة إميل إده الذي كان رافضاً للاستقلال ولصيغة الحُكم بين المسيحيين والمسلمين والداعي للبقاء تحت النفوذ الفرنسي (الأم الحنون)، وتوقيع معاهدة مستديمة مع الفرنسيين؛ وفكرة الكتلة الدستورية (الدستوريين) بقيادة بشارة الخوري القائلة بوجوب القيام بما يلزم من أجل وضع «الصيغة» على السكّة، وهو ما حصل حينها. هذا الصراع بين الفكرتين لا يزال قائماً لغاية الآن. ومنه ينبع اليوم الحديث عن الفيدرالية واللامركزية الموسّعة وغير الموسّعة، بمعنى أننا كمسيحيين نقوى أكثر إذا كنّا مع بعضنا ونستطيع أن نجابه الآخرين. هذا ينطلق من منطق الخوف وجيوسياسية التقوقع الأقلَّوِي، بينما الدور الوطني المسيحي هو الدور المطلوب وهو يمكن أن يكون الجسر بين سنّة وشيعة لبنان، وهو صمّام الأمان بينهما. وللمفارقة، يعلم السُّنة كما الشيعة في لبنان أن الدور المسيحي هو القادر على أن يكون دوراً مطمئناً.
○ هناك مَن يعتبر أنَّ تلك الطروحات – من الفيدرالية واللامركزية – نابعة من تكوُّن قناعة بعدم إمكانية التعايش مع الآخر المسلّح ورفض الخضوع لهذا الفريق، كما الذهاب إلى الحوار معه، وهو الذي سبق وانقلب على نتائج الحوارات السابقة؟
• عندما نطلب من الفريق الشيعي أن يقوم بقراءة نقدية لدور سلاحه وكيفية سيطرته على البلد، فعلينا نحن كفريق مسيحي أن نقوم بقراءة نقدية لدورنا في بنيان منطق الجحيم، كما الأفرقاء الآخرون. وتلك القراءات يمكن أن تُوصل إلى حوار. الأمور ما زالت مبهمة لأن هناك فريقاً قوياً وأفرقاء تابعين ينتظرون ماذا سيقول هذا الفريق القوي. وهذا خلق عدم توازن بين المكوّنات في مسألة الحوار. ولكن عدم التوازن لا يعني رفض الحوار. نحن في الحفرة وكلما حفرنا سنسقط فيها أكثر. لا يمكن أن تكون الحلول للبنان طائفية بل يجب أن تكون حلولاً وطنية المنطلق عبر إعادة تركيز الصيغة، وتركيز الطائف الذي لديه حداثة دستورية لا مثيل لها في العالم. حين أُقِـرَّ «الطائف»، كان المسيحيون في حالة ضعف وانكسار، ورغم ذلك استطاعوا في قلب الحوارات والمفاوضات ترميم الصيغة ودستور «الطائف» وإعادة خلق التوازنات.
لدى الخبير الدستوري أنطوان مسرّة محاضرات عدة عن «اتفاق الطائف» المبني على ركيزتين أساسيتين: الأولى هي الديمقراطية الأكثرية التي من خلالها يجب إنتاج أحزاب سياسية لا طائفية منتشرة على مستوى الوطن وتكون لديها لغة وتخاطب يمنع الطائفية. أما الركيزة الثانية، فهي الديموقراطية التوافقية التي تُطمئن المكونات التاريخية في لبنان على الأمور الجوهرية والأساسية والتكوينية. ولكن عندما يتمُّ ضرب أول ركيزة في «الطائف» ويحصل تحويل الديموقراطية التوافقية إلى محاصصة بين رؤساء وزعماء الطوائف، نكون أصبحنا في كونفدرالية الطوائف.
○ هل يمكن إعادة إحياء «اتفاق الطائف» واستعادة التوازن؟
• «اتفاق الطائف» يتضمن توازناً بين المكوّنات لا بدَّ من تثبيته، ولا يمكن الاستمرار من دونه. صيغة «الطائف «مفتوحة على التطوير. والحفاظ على الدور المسيحي لم يكن مطلباً مسيحياً فقط، بل أيضاً كانت هناك نظرة مسلمة سنيّة وشيعية لهذا الدور لضرورات التوازن. رئيس مجلس النواب آنذاك حسين الحسيني لعب دوراً مهماً في هذا الاتجاه. المشكلة تقع عندما يكون منطق الكسر هو السائد، فيسعى كل فريق لاستخدام كل قوته. مَنْ يعمل على تراكم القوة بشكل عقلاني ينجح، ومَنْ يعمل على تراكم القوة بشكل مصلحي وبعقلية السيطرة حماية لمصالحه يصل إلى «فائض من الضعف». كان دور رئيس الجمهورية فؤاد شهاب في أول عهد الشهابية هو إعادة إنتاج نخبة سياسية مسيحية تنظر إلى الدور الإستراتيجي للبنان والدور الدستوري ككتلة دستورية وليس بحنين إلى كيفية استرجاع المسيحيين والموارنة السيطرة على مقدرات البلد متناسين المشاركة مع الآخر. ولكن تمَّ في ظل الصراع الذي كان قائماً بين «النهج» و«الحلف» إسقاط الفكر الشهابيّ القائم على ضرورة ضرب الرموز التقليدية التي تتعامل مع الوضع اللبناني بشكل إقطاعي وتجديد النخب المسيحية التي تُثبت الصيغة اللبنانية من خلال المشاركة. لو تحققت مطالب رفع الغبن عبر المشاركة الإسلامية وحصل التوازن، لما كنا وصلنا إلى الحرب الأهلية وهي ليست فقط أهلية.
○ قلت إن الفريق المقابل لـ«حزب الله» لم يلتقط ما قاله نصر الله «إننا نريد الطمأنة». إذا تخيّلنا أن الفرقاء جلسوا إلى طاولة الحوار، كيف يمكن أن تكون الطمأنة لفريق لديه فائض القوة ودويلة تُسيطر على الدولة المركزية؟
• هناك نفوذ وتراكم قوة لدى «حزب الله» ولكن السيطرة النهائية على الدولة لا تتم إلاَّ إذا كان هناك شخص يُريد أن يُسيطِر، ويقابله شخص يستقيل من دوره في إمكانية مُعاكسة هذه السيطرة. طريقة معاكسة السيطرة، لا تُعطي نتائج إلا إذا بُنيت على التقاطع الإيجابي الإستراتيجي، على طريقة التفهم والتفاهم، معادلة صائب سلام. وحتى مقولة أن «حزب الله» يُسيطر على كل طائفته ليست صحيحة، لأن هناك الكثير من الشيعة يريدون أن يعيشوا حياة طبيعية ويرسلوا أبناءهم إلى الخارج لتحصيل العلم، ويكون لهم استشفاء وضمان اجتماعي وكرامة عيش… إلخ.
○ كيف ترى «سيناريو» الحل أو الخروج من الأزمة؟
• علينا أن نقتنع بأن كل المكونات اليوم هي بحاجة لبعضها البعض لإعادة الصيغة اللبنانية. ولا بدَّ من أن يترافق ذلك أولاً مع قراءة للجيوسياسية الإقليمية والدولية والتفكير في كيفية الإفادة من المشهد الدولي كي لا نبقى ملعباً وساحة ومساحة وليس دولة. وثانياً، المطلوب إعادة النظر في الحوكمة السياسية على أُسس جديدة. وإذا كانت الظروف الإقليمية السابقة أدت إلى تحوير الطائف، علينا اليوم العمل على إعادة تركيزه وتطويره. وثالثاً، لا بدَّ من رؤية وحوكمة اقتصادية ومالية رشيدة. نحن لا نريد أن يكون لبنان نسخة عن هونغ كونغ أو عن هانوي. كما لا نريد لاقتصاده أن يكون مُنكمشاً كما يراه صندوق النقد الدولي. نحن نريد أن يكون لبنان نموذجاً ريادياً يأخذ في الاعتبار تطوُّر العالم ولا يكون متمركزاً مع هذا الطرف أو ذاك الطرف.
كل المكونات اللبنانية تعتبر أن لبنان وطن نهائي. نهائية الكيان ليست مطروحة على الطاولة. المطروح هو قوننة وحوكمة التنوّع. أنا لست ضد اللامركزية بالمطلق. وهناك درجات في اللامركزية. وكل لا مركزية عندها نسب معينة من اللامركزية المالية، إنما هناك نسبة مالية لا بدَّ من أن تذهب إلى الصندوق الوطني لأن هناك سياسات وطنية تربوية وصحية ومجتمعية وهي التي تُعيد جمع اللبنانيين جميعاً.
○ ثمة علاقة ملتبسة بين المسيحيين وفرنسا، ما هي طبيعة هذا الالتباس برأيك؟
• هناك أزمة في فرنسا، وإذا لم تتمّ قراءتها لا يمكن فهم ما يجري هناك. فرنسا تفتش عن نفوذ في شرق المتوسط منذ نحو 25 سنة وتتعاون مع القوي على الأرض. كونوا أقوياء على الأرض فتتعامل معكم كما يجب. لا يُفيد البقاء في الصورة النمطية أنها «الأم الحنون» ومن ثم التساؤل عن أسباب تعاملها غير المفهوم. بالطبع هناك أخطاء في طريقة التعامل الفرنسي، ولكن على المسيحيين إعادة إنتاج الدور. اليوم لا رؤية واضحة للدور. ربما هذه هي المرة الأولى التي تحصل فيها قطيعة وطلاق بين المطالب السياسية للمكوّن المسيحي في لبنان وعدم تلاقي المجتمع الدولي والإقليمي معها.
علينا كمسيحيين إجراء قراءة نقدية للإجابة عن سؤال: لماذا أوصلنا لبنان إلى ما هو عليه اليوم؟ ما هو دور المسيحيين في سقوط لبنان إلى جهنم؟ وما هو دور الآخرين في حفر قبر لبنان أكثر فأكثر. القراءة النقدية تفتح الطريق أمامنا لأن تكون لدينا قراءة لكيفية تطوُّر العالم اليوم فنأخذ منه ما يسمح لنا أن نكون أقوياء به. لا شيء في السياسة اسمه «صداقات». هناك مصالح ودائماً ما تُقام على القوي. النقطة الأساسية هي كيف يمكن اليوم أن نقوى ببعضنا البعض. إذا كان المكوّن الشيعي الذي يعتبره بعض اللبنانيين أنه «خاطف للبنان» والقوي يقول من خلال طرحه الحوار أنه غير قادر على الذهاب أبعد مما وصل إليه، فإن المطلوب أن تتولد لدى الفريق الآخر قناعة بأن هذا «الشريك الخاطف» مستعد حقيقة لتقديم تنازلات معيّنة لأن الأزمة والتغيّرات الإقليمية تفرض هذا التحوّل والتفكير تالياً في كيفية قطف ذلك لمصلحة إعادة التوازن إلى لبنان. فبدل أن نبقى في منطق الكسر، نذهب الى منطق التراكم الإيجابي. كيف سنأتي بالشخص خاطف البلد إلى عقلنة معينة، هل من خلال شيطنته أم من خلال الحكمة في التعاطي لعقلنته؟ نحن فقدنا في لبنان ما يُسمى السردية الوطنية والتراكم الإيجابي. أصبحنا على الدوام في التراكم السلبي. هل «حزب الله» هو وحده المسؤول عن السياسات النقدية والمالية؟ هل هو أضاف على الفساد فساداً؟ لا حل إذا لم نبدأ بالخروج من التراكم السلبي والدخول في التراكم الإيجابي.
○ كُثر من اللبنانيين مقتنعون بأن تحالف مافيا – ميليشيا هو الذي يحكمهم…
• المافيا يُسمّونها «المنظومة». ما هو تعريف المنظومة؟ هل هي مذهبية فقط أم من كل الطوائف؟ وهل الكل مشاركين في المنظومة؟ هناك تحالف حيتان المال والسياسة موجود منذ العام 1927 إلى اليوم، وهؤلاء هم المسؤولون عن كل شيء. وانتهج الداخلون الجُدد، الذين فاقموا من الأزمة، نموذج الفساد والمحاصصة نفسه الذي كان قائماً.
○ هناك تراكم انهيارات والدول التي كانت داعمة للبنان سحبت يدها. اليوم هناك «اللجنة الخماسية» و«المبادرة الفرنسية» والدور الأمريكي والجيوسياسية المتحرّكة، هل يمكن أن نُنتج حلاً لبنانياً إذا لم تتبلور اتجاهات المنطقة والعالم؟
• إذا لم نُغيِّر خطابنا واستمررنا في سياسة التخوين ورفض الحوار ليس هناك من حل. إذا اعتبرنا أنَّ الآخرين يطرحون حواراً غير واضح وشفّاف وجدول أعماله غير واضح، فلنطرح المرتكزات التي على أساسها نقبل الحوار. أنا مع تطبيق الدستور ولكن أحياناً أشعر من بعض الخطابات وكأننا في ديموقراطية السويد. نحن في لبنان على خط الحديد والنار. كل التحوّلات والتجاذبات والرسائل تمر عبرنا. وآخر الرسائل كانت في مخيم عين الحلوة. نحن في أزمة وتراكم انهيارات. الوضع غير التقليدي يتطلب قراءة غير تقليدية ومناهج غير تقليدية. نحن نحتاج إلى وسيط منزّه، لا الفرنسيين ولا الأمريكيين ولا الروس ولا الغرب ولا الشرق هم بالنسبة لنا فرقاء منزّهون. الوسيط المنزّه الوحيد هو أن تخرج المكونات اللبنانية من خطاب الكسر إلى منطق التوافق والتراكُم الإيجابي.
«اللجنة الخماسية» من أجل لبنان هي لتقطيع الوقت في خضم التناقضات والتجاذبات الإقليمية والدولية الراهنة بانتظار نضوج التسوية بين الأضداد الإقليميين والدوليين. وحين تحصل التسوية، سيأتون إلى اللبنانيين ويقولون لهم: هذا ما ستفعلونه. فهل سينتظر اللبنانيون إلى أن يُفْرض عليهم الحل، أم يُبادرون هم بأنفسهم؟

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية