الباحث التونسي في علم الاجتماع ماهر حنين: العملية السياسية في تونس منفصلة تماما عن عمق المجتمع وتطلعاته

حاورته: روعة قاسم
حجم الخط
3

تطرق الباحث التونسي في علم الاجتماع ماهر حنين في هذا الحديث لـ«القدس العربي» لمختلف الرهانات والتحديات التي تواجه المجتمع التونسي في خضم الأزمة السياسية والاقتصادية المستفحلة. وقال إن تونس اليوم تعيش وضعا صعبا في ظل تحولات سياسية بعيدة عن إعادة بناء مؤسسات على أساس ديمقراطي بمشاركة سياسية تعددية واضحة لكل الطيف السياسي أو جلب قوى سياسية جديدة خاصة شبابية للعملية السياسية، وفق قوله. وهنا نص الحوار.
○ أولا يعيش المجتمع التونسي حالة تخبط في خضم وضع سياسي صعب وأزمة اقتصادية مستفحلة فكيف تنظرون لكل هذه التحديات؟
•في الواقع المجتمع التونسي يعيش تحولات وحالة مخاض طويلة منذ الثورة وحتى ما قبل الثورة. ويمكن القول أيضا منذ تحولات الحوض المنجمي وحتى تحولات بداية القرن والثورة الرقمية، وتتضمن كل التحولات السياسية التي كان فيها للشباب دورا كبيرا في حركة الشارع الشبابية والمواطنية، بكل الزخم الذي عرفه المجتمع المدني والسياسي والحركة الثقافية والفنية والسينمائية، وطبعا في خضم كل ذلك فإن المجتمع التونسي يعيش تحولات جذرية عميقة. وهنا أريد ان ألفت إلى ان الدراسات المتعلقة بعلم الاجتماع أو العلوم السياسية بشأن إدارة الأزمات تتحدث عن حالة انسياب تمسّ كل البنى التي تنظّم المجتمع خاصة التي تنظّمه بطريقة هرمية تراتبية. أكيد هذه التحولات إيجابية بالمعنى السياسي والانثروبولوجي الواسع وهي علامة من علامات حيوية المجتمع، ولكن في المقابل هناك علاقة بين مخاض الشارع أو ما يمكن تسميته نحو الشوارع ومفرداته، وأرقام صندوق الاقتراع، والتحوّل نحو المؤسسات التي فيها تقريبا انقطاع بين القوى السياسية التي تنتصر في الانتخابات والقوى الاجتماعية التي تعبّر عن تطلعات تحررية تنادي بالعدالة والكرامة. إذ وصلت المؤسسات الجديدة ما بعد الثورة إلى مأزق كبير باعتبارها لم تعد ممثلة لا سياسيا ولا أخلاقيا ولا شعبيا لتطلعات المجتمع. وعمقّت الأزمة الصحية لوباء الكوفيد والأزمة الاقتصادية العالمية الجديدة اللاحقة من الصعوبات التي يواجهها المجتمع التونسي وجعلته غير قادر على مسايرة النسق نفسه الذي عرفه في أعوام 2013 و 2014 وهو نسق التطلع للحرية والديمقراطية. وفي الوقت نفسه التطلع لتنمية اقتصادية أو اجتماعية تقلّص من البطالة ومن الفوارق الاجتماعية وتحلّ مشكلة التنمية والفوارق بين الجهات والفئات وتستجيب لمطلب الكرامة وهو مطلب عادل لكل شرائح المجتمع .
○ كيف تقرأ الرهانات الحالية في خضم تصاعد الأصوات المعارضة لهذا التمشي السياسي بالكامل خاصة بعد استكمال الدورة الأولى من الانتخابات التشريعية وما هي دلالات العزوف برأيكم؟
•الأصوات المعارضة لهذا التمشي ليست مرتبطة فقط بموعد الانتخاب بل باتت واضحة منذ صدور المرسوم عدد 177 والذي تأكدت فيه اتجاهات النظام السياسي نحو التفرد بالسلطة مع الدستور وحتى قبل الدستور، فضلا عن المشاركة المنخفضة للاستشارة الإلكترونية ثم العزوف الذي يكاد يكون كاملا لكل الطبقة السياسية والطيف السياسي للعملية السياسية والانتخابية برمتها. وحتى الفئات التي علقت آمالا على منعرج 25 تموز/يوليو فهي تبتعد عنه تدريجيا باعتبار ان كل المؤشرات تبين بأن وعود الحرية والتنمية الاقتصادية تتبخر. فنحن اليوم لسنا في سياق إعادة بناء المؤسسات على أساس ديمقراطي بمشاركة سياسية تعددية واضحة لكل الطيف السياسي، ولا بصدد جلب قوى سياسية جديدة خاصة شبابية للعملية السياسية، ولسنا بصدد إجراءات اقتصادية واجتماعية تستجيب لتطلعات الناس، بالعكس نحن أمام سياسة تقشفية ومؤشرات قوية لرفع سياسة الدعم عن الوقود وحتى هناك حديث عن رفع الدعم عن المواد الأساسية الغذائية مع أزمات متتالية في الغذاء والحليب والسكر وفي الوقود وفي الدواء. يعني يمكن القول في المحصّلة بأن العملية السياسية منفصلة تماما عن عمق المجتمع وتطلعاته سواء الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية. وكي نكون أكثر واقعية يبدو ان المعلقين آمالا على هذه الانتخابات بعد اتمام الدورة الأولى منها يشكلون أقلية ضئيلة مقارنة بأغلبية المجتمع من الفئات المقاطعة أو المنسحبة والتي لم يعد لها أمل كبير في المنعرج الحالي .
○ لأول مرة تشهد تونس ارتفاعا غير مسبوق في حالة التضخم مع ارتفاع أسعار المواد الطاقية والاستهلاكية، كيف يؤثر ذلك على السلم الاجتماعي وما تأثيرات الاتفاق الحكومي مع صندوق النقد الدولي على الواقع المعيشي التونسي؟
•التضخم له أسباب داخلية وخارجية، وهو ظاهرة عالمية باتت مستفحلة خاصة بعد الأزمة الصحية الوبائية وحتى تداعيات الحرب الروسية. أما بالنسبة للوضع الداخلي، فإننا نجد انعكاسات كبيرة لهذا التضخم على الفئات الهشّة والفقيرة التي تشكّل قاعدة عريضة من المجتمع التونسي. وكل المؤشرات تقول بأن نسبة الفقر ترتفع ونحن نعيش في مجتمع يضم 3 ملايين فقير لا يمتلكون الحاجيات الأساسية من الغذاء والدواء والمسكن اللائق وحتى الحق في المياه النظيفة. نضيف لذلك كلفة الصحة وكلفة التعليم وكلفة النقل التي باتت مرتفعة، فهذه الفئات الشعبية تدفع ثمن السياسات المجتمعية والتي أنتجت التضخم. والطبقة الوسطى كانت تعتبر عنصر توازن داخل المجتمع ومفخرة الدولة الوطنية في الاستقلال وتتشكل من موظفين ومهن حرة وأصحاب مؤسسات صغرى ومتوسطة وصغار التجار والفلاحين وحتى هذه الطبقات الوسطى اضحملت. فهناك أزمة حقيقية في تأمين مواردها الاقتصادية، وهذه الوضعية تؤشر لتصادم اجتماعي كبير وربما لانفجار اجتماعي لا أحد يتوقعه أو ينتظر مآلاته الاجتماعية وحتى مآلاته على الاستقرار العام بصفة عامة. الحل المرتقب أو المنتظر الآن يتعلق بالأساس بوصفة صندوق النقد الدولي التي لها خلفيات سياسية واضحة نيو ليبرالية وتطبّق بطريقة عمياء من دون الأخذ بعين الاعتبار خصوصيات البلدان والمجتمعات. والهدف الأساسي منها هو تراجع الدولة عن دورها الاجتماعي وخوصصة المؤسسات العمومية والتراجع عن أداء الخدمات الاجتماعية الأساسية وعدم الانتداب في الوظيفة العمومية، إلى جانب الخضوع إلى علاقات تجارية غير متوازنة مع الشركاء الأوروبيين وهو ما يجعل الاقتصاد التونسي يعتمد على التوريد أكثر من التصدير ويخضع لاكتساح كبير للبضائع الأجنبية وهناك فرق كبير بين السوق التركية والصينية خلال السنوات الأخيرة. وكل هذه التحولات الاقتصادية تؤشّر بالفعل إلى ان الخيار الذي نسير به الآن وهو خيار التقشف والمديونية ربما سيشكل جرعة أوكسجين أولية لجسم اقتصادي منهك، لكنه على المدى البعيد قد تكون له تداعيات كبرى على الاقتصاد بصفة عامة وعلى المجتمع بصفة أكبر .
○ ظاهرة الهجرة غير النظامية ليست جديدة على المجتمع التونسي لكنها تشهد ارتفاعا غير مسبوق فكيف تقرأ ذلك؟
•الهجرة غير النظامية ظاهرة عالمية لأن العولمة التي قامت على أساس حرية حركة البضائع والأموال والاستثمارات منعت حركة البشر بل الأكثر من ذلك اختارت ان يتحرك البشر حسب خيارات السوق الرأسمالية والرأسمال العالمي. وهناك توجه لتوظيف اليد العاملة الرخيصة في بلدانها الأصلية عبر فتح استثمارات وأنشطة اقتصادية تعد مكلفة في بلدان المركز وأقل كلفة في بلدان الجنوب، باعتبار ان اليد العاملة رخيصة وليست لها آليات نقابية دفاعية وفي أنظمة تسلطية أو تنتدب وتسهّل هجرة ما يسمى بالكفاءات والإطارات والأدمغة. فما يسمى بغلق الحدود بين تونس والاتحاد الأوروبي لم يكن موجودا سابقا، ففي سنوات السبعينات كانت الحركة عادية وفي أوائل الثمانينات كانت التأشيرة لأوروبا تمنح بوقت قصير ودون عوائق وهذا يبين بالفعل بانه لا يمكن ان تتكدس الثروة في الشمال ويبقى الجنوب جائعا وفقيرا ويعيش حالة إهانة جيوبوليتيكية وإهانة سياسية واستبعاد اقتصادي واجتماعي. المشكل الأساسي في تعاطي الدولة التونسية مع ملف الهجرة غير النظامية -كغيرها من البلدان المغاربية- هو قبولها بمواصلة الدور الأمني ومراقبة الشواطئ والحدود وقبولها كذلك بترحيل التونسيين باتفاقات مع السلطات الإيطالية والسلطات الفرنسية وقبول الترحيل مقابل المقايضة بمنح نسبة التأشيرات للتونسيين والتي أصبحت فيها تضييقات كبيرة. كل هذا يبين بالفعل بانه ليست لنا لا إرادة سياسية ولا الامكانية بان نفاوض حول قضية الهجرة مع البلدان الأوروبية. وأكثر من ذلك أحد وزراء ورؤساء الحكومة السابقين وهو هشام المشيشي كان له تصريح مخزي عندما ربط الهجرة بالإرهاب وقال بان تونس يمكن ان تحمي أوروبا من المهاجرين الذين يشكلون باعتقاده رصيدا افتراضيا للإرهابيين. المطلوب إذن هو تفاوض جدي حول حركة تنقّل المواطنين بين الجنوب والشمال خاصة ان قضية الهجرة تستفيد منها القوى اليمينية في أوروبا. ونلاحظ تنامي اليمين القومي أو المتطرف في فرنسا وإيطاليا مقابل قبول هذا اليمين المتطرف في شمال أوروبا بأنظمة تسلطية تلعب دور القمع الأمني للمهاجرين وحتى قمع الحركات الاجتماعية بصفة أوسع.
○ في خضم الإضرابات والاحتجاجات التي تعيشها تونس كيف ترى الآفاق المستقبلية في البلاد؟
•أرى ان الحركات الاجتماعية أو الاحتجاجية أو الحركات الشبابية والنسائية الأفقية والمعروفة وكل الحركات التي عاشتها البلاد في مرحلة ما بعد الثورة تستمر وتتواصل بموجات تباعد متلاحقة أحيانا ووفق حالات مد وجزر. وتُضاف لها الحركات المطلبية للأجسام الاجتماعية الوسطى مثل المعلمين النواب الذين دخلوا منذ فترة في اضراب إضافة إلى إضراب أصحاب سيارات الأجرة بسبب ارتفاع سعر الوقود وإضراب موزعي الأدوية إضافة إلى الضغط المتواصل من منظومة الفلاحين. يمكن اعتبار ان كل الفئات الاجتماعية التي تشكل حيوية المجتمع وتشكل العمود الفقري لحياة كل مجتمع وتزوده بالخدمات والغذاء وتمكّنه من الاستقرار هي في حالة ارتباك وحالة غضب. وحالة الغضب هذه قد تبدو للمراقب السياسي قابلة للسيطرة باعتبارها تبدو منفصلة. ولكن إذا النار أخذت مدى أوسع فإنها ستغرق الأخضر واليابس. فمن الأفضل بالنسبة للسياسيين في السلطة بأن يواجهوا تحولات المجتمع العميقة نحو المجال السياسي والمؤسساتي حتى تصبح المؤسسات قادرة على التعبير عن تحولات المجتمع. والمجتمع التونسي كغيره من المجتمعات، من المفروض ان تكون فيه المؤسسات الديمقراطية الممثلة المنتخبة الحرة المستقلة مثل مؤسسات المجتمع المدني المستقلة والإعلام انعكاسا لمخاض المجتمع. ولكن ان تبقى القطيعة بين السياسيين الذين يعتبرون انهم يمتلكون الحقيقة المطلقة والكاملة يجعل المجتمع حاضرا وتائها وتقريبا في حالة تنافس كبيرة وتشتت حتى في داخله وكل ذلك لا يبني نظاما سياسيا ديمقراطيا .

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ابن آكسيل:

    بالعكس تماما ……!ما يقترحه الرئيس قيس سعيد هو ترجمة هذا العمق الاجتماعي و تطلعاته على ارض الواقع ……!

  2. يقول د. عيده:

    1: لايتطرق الباحث إلى جشع رجال الأعمال الذين يستغلون الطبقات المهمش برواتب مخزية وظروف عمل متردية. 2: نمط الحياة التونسية المستوحاه من أوروبا تزيد حجم الواردات. هل تونس الفقيرة بحاجة إلى متاجر لماركات أوروبيّة فاخرة، أم أنها تحتاج إلى المزيد من الاسواق الشعبية لاحتواء باعة الارصفة الذين تطاردهم الشرطة؟ 3: لم تعد الهجرة إلى دول الشمال حلّا ممكناً للتونسيين الفقراء كما كانت في الماضي، فلم يعد في أوروبا طبقة عاملة بعد هجرة المصانع إلى البلاد الرخيصة وبالتالي أصبحت تختار من المهاجرين ذوي الاختصاصات العليا. نتسائل أذاً: هل هجرة الأدمغة إلى دول الشمال تصبّ اليوم في مصالح دول الجنوب؟ (على سبيل المثال تستقبل فرنسا كل عام حوالي 800 طبيباً تونسياً وعدداً لابأس به من المهندسين والعلماء). أعتقد أن الأمر يزيد الطين بلّة في في ظروف الاقتصاد المتهافت الذي تشهده البلاد اليوم ؟

  3. يقول الساسي البنزرتي:

    ومتى كانت العملية السياسية في أي من الدول العربية بما في ذلك تونس مرتبطة بعمق المجتمع وتطلعاته ؟؟؟

إشترك في قائمتنا البريدية