الانتخابات المحلية في تركيا وأهمية اسطنبول

حجم الخط
0

تجرى في تركيا، يوم الأحد المقبل، انتخابات محلية لاختيار رؤساء ومجالس بلديات المدن والبلدات ومخاتير القرى وأحياء المدن. وتتركز الأنظار أكثر من غيرها على مدينة إسطنبول التي يتنافس على رئاسة بلديتها مرشحا حزب العدالة والتنمية مراد قرم ومرشح حزب الشعب الجمهوري، رئيس البلدية الحالي، أكرم إمام أوغلو. وذلك لأنها المدينة الأكبر في تركيا، ويتركز فيها ثلث الاقتصاد الوطني، وتتمتع بلديتها بميزانية كبيرة تفتح أمام رئيسها إمكانات كبيرة، ولكن يبقى الوزن الأكبر لأهميتها الرمزية، فهي المدينة التي افتتح فيها الرئيس أردوغان مسيرته السياسية الصاعدة بدءا برئاسة بلديتها، مروراً برئاسة الوزراء، وانتهاء رئاسة الجمهورية بسلطات معززة في النظام الرئاسي الجديد الذي جاء به.
وفي الانتخابات المحلية السابقة، في العام 2019، حقق حزب الشعب الجمهوري المعارض اختراقاً كبيراً بفوز مرشحه أكرم إمام أوغلو برئاسة بلدية إسطنبول، مدعوماً بأصوات كل من حليفه -آنذاك- الحزب الجيد وحزب الشعوب الديمقراطي، إضافة إلى فوز مرشحي الحزب برئاسة بلديات أنقرة وإزمير وأضنة وغيرها من المدن الكبرى بعد سنوات كانت فيها بلديات إسطنبول وأنقرة، بصورة خاصة، حكراً على الحزب الحاكم. وحين فاز إمام أوغلو في ذلك العام، اعترض حزب العدالة والتنمية على النتائج، فتقررت إعادتها في إسطنبول. وكانت المفاجأة في انتخابات الإعادة التي جرت في 23 حزيران 2019 أن فارق الأصوات لمصلحة إمام أوغلو قد ارتفع بشكل كبير، إلى درجة أنه بات ينظر إليه بوصفه المنافس المحتمل لأردوغان في الانتخابات الرئاسية. وسبب ذلك أن أردوغان قد نزل إلى الساحات بنفسه طالباً من جمهور مؤيديه الكبير التصويت لمصلحة مرشحه بن علي يلدرم. وهكذا اعتُبر إمام أوغلو الرجل الذي هَزم أردوغان في الانتخابات، وبات ينظر إليه في الرأي العام كمرشح محتمل على منصب رئاسة الجمهورية في مواجهة أردوغان.
الرئيس أردوغان يكرر الاستراتيجية نفسها في حملة الانتخابات الحالية، فينزل إلى الساحات بنفسه طالباً التصويت لمرشحيه في مختلف المدن، وبخاصة لمرشحه في إسطنبول مراد قرم. بل إنه في جولاته الانتخابية في المدن الأخرى، يطلب من جمهور ناخبيه صراحةً أن يتصلوا بأبناء بلدهم المقيمين في إسطنبول لحثهم على التصويت لقرم. ذلك أن إسطنبول تضم مهاجرين من مختلف مدن البلاد وقراه، إلى درجة أنها تعتبر مرآة عاكسة لكل تركيا من الناحية السكانية، وثمة جمعيات لجاليات المدن التركية وتجمعاتهم في المدينة، تعتبر من أهم الخزانات الانتخابية لحزب العدالة والتنمية الذي يحرص على التواصل معها والاستماع إلى مطالبها، من خلال مقرات تلك الجمعيات والمقاهي التي يتردد عليها «أبناء البلد».

لا يمكن التكهن بنتائج الانتخابات في مختلف المدن التركية، وبخاصة في إسطنبول، على رغم التقدم الطفيف لحظوظ إمام أوغلو على منافسه قرم

يقول مصمم الحملة الانتخابية لحزب الشعب الجمهوري في الانتخابات المحلية لعام 2019 «آتيش إلياس باشسوي» في كتاب خصصه لشرح استراتيجيته في الحملة إن الجيل الثالث من المهاجرين إلى إسطنبول قد اندمج تماماً في المدينة وبات يعتبر نفسه اسطنبولياً، فغير مكان سكنه مبتعداً عن الأحياء التي يتجمع فيها أبناء بلده الأصلي، وتخرج من الجامعات وأصبحت له مهنة منتظمة، بخلاف الجيل الأول الذي كان يشعر بالغربة في الحاضرة الكبيرة، ويعمل في أعمال هامشية، ويسعى لمراكمة رأس مال صغير للخروج من حالة الفقر، ويحرص على التحاق أولاده بالمدارس والجامعات. يعتبر باشسوي أن هذا التحول السوسيولوجي هو أحد أهم العوامل في خسارة حزب العدالة والتنمية بلدية إسطنبول، وأنقرة بالمثل.
منذ فوز إمام أوغلو برئاسة بلدية إسطنبول قبل خمس سنوات واظبت السلطة، والرئيس أردوغان بالذات، انتقاد أدائه في منصبه، وها هو اليوم يبذل كل ما في وسعه من أجل استعادة هذه البلدية المهمة.
بالمقابل يخوض حزب الشعب الجمهوري هذه الانتخابات محروماً من دعم التحالف السداسي الذي خاض في إطاره الانتخابات النيابية والرئاسية في شهر أيار 2023، بعدما فرط عقد هذا التحالف بخروج الحزب الجيد وتبعته بقية الأحزاب الصغيرة. كذلك سيكون محروماً من دعم حزب الشعوب الديمقراطي الذي غير اسمه، في مؤتمره العام الأخير، إلى «حزب المساواة والديمقراطية». فقد تقدمت كل تلك الأحزاب بمرشحيها المستقلين في الانتخابات المحلية، بحيث تخصم الأصوات التي سيحصلون عليها من أصوات حليفهم السابق حزب الشعب الجمهوري.
ويقلق هذا الوضع الحزب الجمهوري بصورة خاصة في انتخابات رئاسة بلدية إسطنبول حيث تظهر نتائج استطلاعات الرأي تقارباً بين حظوظ المرشحين الرئيسيين، إمام أوغلو وقرم، على رغم أداء قرم الذي لم يرتق إلى المستوى الذي يسمح له بمنافسة إمام أوغلو. فسِرُّ التقارب في التوقعات بين المرشحَين يكمن في وضع الرئيس أردوغان لكل ثقل شعبيته وراء مرشحه ومرشحي حزبه في المدن الأخرى أيضاً. ومن العوامل الأخرى التي قد تؤثر سلباً على نسبة التصويت لإمام أوغلو وجود نوع من الشرخ الداخلي في حزبه بالذات بين أنصار زعيم الحزب السابق كمال كلجدار أوغلو وأنصار زعيمه الجديد أوزغور أوزال المدعوم من إمام أوغلو. تنعكس على وسائل الإعلام مؤشرات عدم تعافي الحزب من تداعيات التغيير الذي حدث في قيادته.
لكن أكبر تحدٍ يواجهه إعادة الانتخاب المحتملة لإمام أوغلو إنما هو الناخب الكردي في إسطنبول الذي دعمه في الانتخابات السابقة. فقد برز اتجاه جديد في حزب المساواة والديمقراطية يؤكد على استقلالية الحزب في التجاذب بين السلطة والمعارضة، في نوع من ردة فعل على المرحلة السابقة التي دعم فيها حزب الشعب الجمهوري والتحالف المعارض مجاناً في الوقت الذي يتهربان فيه من الإعلان عن أي علاقة مع الحزب الكردي. وهكذا وجهت أبرز شخصيات «المساواة والديمقراطية» جمهور ناخبيها لانتخاب مرشحي الحزب المستقلين، الأمر الذي سر حزب العدالة والتنمية لأن ذلك يصب في مصلحة مرشحيه.
لا يمكن التكهن بنتائج الانتخابات في مختلف المدن التركية، وبخاصة في إسطنبول، على رغم التقدم الطفيف لحظوظ إمام أوغلو على منافسه قرم. لكن فوزاً محتملاً لإمام أوغلو من شأنه أن يغير المشهد السياسي في تركيا والمزاج المعارض إلى حد كبير. في حين أن فوز قرم سيريح الحزب الحاكم والرئيس أردوغان في السنوات الأربع القادمة وصولاً إلى الانتخابات النيابية والرئاسية في 2028.

كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية