الأكاديمي الفلسطيني ناصر الدين الشاعر: عدم اعتقال من حاول اغتيالي رسالة خطيرة على المجتمع الفلسطيني

حاوره: سعيد أبو معلا
حجم الخط
1

رغم مواجعه وآلامه بقي الدكتور ناصر الدين الشاعر الأكاديمي الفلسطيني المعروف والقائد الفلسطيني الوطني عضو لجنة الحريات العامة نائب رئيس الوزراء وزير التربية والتعليم العالي الأسبق، محافظا على ابتسامته أثناء حديثه مع “القدس العربي” التي زارته في بيته في مدينة نابلس، وبعد 6 أسابيع من تعرضه لمحاولة اغتيال هزت الشارع الفلسطيني جعلته حبيس الفراش مواظباً على تلقي العلاج الصعب والطويل، هو الشخصية المكوكية التي تضعه دوما على تماس مع قضايا الشأن العام.
في هذا الحوار يرى الشاعر أن السلطة الفلسطينية فقدت فرصة ثمينة لملاحقة الفلتان المنظم. لكن الوقت لم يفت على تصويب الأمر وجلب المجرمين للعدالة.
يحلل الشاعر، وزير التربية والتعليم في فلسطين سابقًا في حكومة الوحدة الوطنية، الذي عمل عميدا لكلية الشريعة في جامعة النجاح الوطنية، وهو أستاذ مساعد في قسم الفقه والتشريع، تخصص فقه مقارن، وأستاذ مقارنة الأديان، يحلل أسباب محاولة اغتياله ويقرأ خطورة المرحلة التي يمر بها المجتمع الفلسطيني، وهو الذي أعلن رفضه المطلق لأي فتنة داخلية بعد أحداث محاولة اغتياله يقدم ما يرضيه ويقبل به كفلسطيني وكشخصية عامة.
ويقول أنه يخوض حاليا معركة ضمن مسارين، الأول علاجي وصحي على أمل أن تعود قدماه إلى سابق عهدهما، ومعركة حقوقية مرتبطة بمتابعة ملف اغتياله ليس بصفته الشخصية إنما بصفته شخصية عامة، وهو يعلن عن عدم رضاه على متابعة ملف التحقيق لكنه يؤكد أنه ليس في عجلة في أمره. وفيما يلي نص الحوار:

*بداية، نتمنى لك السلامة والشفاء العاجل، وأن تعود إلى سابق عهدك، لو تضعنا في آخر تطورات وضعك الصحي؟
**الحمد لله على كل حال، ولطف الله لم يغادرني منذ اللحظة الأولى. فمحاولة الاغتيال فشلت، رغم ما تركته من أذى جسدي عنيف أقعدني عن الحركة. كما أنهم فشلوا في إشعال حربٍ أهلية عائلية أو فصائلية. فالحمد لله.
في الحقيقة يجب أن أوضح أن الرصاصات التي أطلقت علي كانت عبر ثلاث محطات متتابعة. ففي البداية أطلق ملثمٌ الرصاص علي وأنا في سيارتي ولكنني تمكنت من الفرار بالسيارة رغم وابل الرصاص الذي شلَّ ساقي اليسرى. ثم لاحقوني بسيارتهم وأطلقوا الرصاص على سيارتي حتى تعطلت وتوقفت. ثم جاء ملثمٌ وأدخل يده داخل السيارة وأطلق النار على ركبتي الاثنين من مسافة صفر. وفي النتيجة، بعض الرصاصات دخلت من الباب الخارجي وبعضها كان مباشراَ ومن المسافة صفر وهذا ما يفسر حجم الضرر الكبير الذي لحق برجلي الاثنتين.
في الرجل اليسرى هناك كسر طولي في الفخذ والركبة. وقد زرع الأطباء 12 “بليت” طوليا وعرضيا من أجل مساعدة العظم المكسور على التحمل والالتئام. وحتى اليوم الركبة لا تنثني بشكل جيد وهي بحاجة إلى تمارين يومية. حيث يزورني الطبيب كل يوم من أجل العمل على استعادة حركة الرجل كاملة.
أما في الرجل اليمنى فهناك تفتت بالركبة والفخذ، وهذا يجعل من العلاج أصعب وأعقد. لقد وضع الأطباء خطة على مرحلتين للعلاج، وتم تركيب جهاز ليزاروف يعمل على فصل الأطراف وتنسيقها وشدها لإتاحة فرصة لنمو العظام وحدها تلقائيا مع الوقت، وهذا خيار جيد وسيكون أفضل من فكرة أطراف صناعية. والجهاز بشكل عام جيد لكن هناك أعراضا جانبية كثيرة تترتب على استخدامه، حيث قد يقود لتكلس الركبة وقد يترتب عليه خطر مضاعفات شديدة إن طال وضعه في الرجل. وبالتالي هناك تفكير جدي ان أدخل بعد شهرين من الإصابة في مرحلة عمليات أخرى في الفخذ والركبة ولا أعلم متى ستنتهي وماذا تحتاج.
بكل الأحوال أنا اليوم بالأسبوع السادس حيث أتدرب على نقل رجلي على جهاز المشي بألم شديد جدا، ولكني حتى اليوم لا أستطيع وضع ثقل على الرجل اليسرى. كل الرصاصات خرجت أو تم إخراجها، وتسلمتها جهات الاختصاص، أمامي معركة طويلة للعلاج على أمل أن أعود مع الوقت كما كنت قبل الإصابة بعون الله ولطفه.

*ماذا عن الوضع القانوني، هل من جديد حول الجهات أو الأشخاص الذين استهدفوك ولا سيما ونحن في الشهر الثاني على جريمة محاولة الاغتيال؟
**الجميع لاحظ وشاهد أنه ومن اللحظة الأولى للإصابة، ورغم المعاناة والنزيف الحاد، (حيث كان هناك احتمال للوفاة بسبب نقص الدم بفعل النزيف في ضوء عدد وأماكن الإصابات) حجم الحشود الكبيرة للمواطنين الغاضبين مع التواجد الأمني الكبير الذي ترافق مع حالة كبيرة من التوتر في ساحات المستشفى، لكني وبفضل الله، ضغطت على أعصابي ونفسي وأطلقت العبارات الواضحة تماما والتي مفادها أن “دمي ليس للفتنة”. وأنني لن أقبل بالفتنة الداخلية، وليس هناك خيار غير الوحدة وإنهاء الانقسام، ولن أسمح لأي فتنة بالحدوث. رأيت احتمالية الفتنة في ظل حالة الغضب العالية، وأدركت كم تلعب الأحقاد والتعبئة السلبية في المجتمع الفلسطيني.
هنا أود أن أؤكد أن التعبئة على الكراهية خطيرة وخطيئة. الكراهية عندما تزرع ببعض الناس تدفع بهم للقتل وبدم بارد كما حصل معي. فمن حاول اغتيالي جرب أول مرة وثاني مرة وثالث مرة. وهذا يدلل على مقدار الكراهية والرغبة بالقتل. فحجم الحقد الذي تعيش فيه بعض الجماعات والمجموعات أمر يجب أن نخاف منه على المجتمع. وبالتالي كل من يطلق تصريحات وخطابات كراهية يفترض أن نقف في وجهه، يجب على السلطة الفلسطينية وأجهزتها أن تكون حاسمة وصارمة مهما كان مطلق هذه الخطابات ومن كان يقف خلفهم. فهؤلاء أخطر من منفذي فعل القتل، وهم بخطاباتهم يمارسون الاغتيال المعنوي الذي يقود للاغتيال والقتل. والمصيبة إذا صدر التحريض من جهات وأشخاص لهم مسؤولياتهم ولهم كلمة مسموعة ومؤثرة. لقد سبقت محاولة اغتيالي سلسلة من البيانات والتصريحات والمؤتمرات الإعلامية التي حرضت علي وعلى السلم الاجتماعي ومن جهات معروفة ولم يتحرك الأمن ضدها، وهو ما خلق بيئة ملائمة للاغتيال، بدأت بإطلاق النار على منزلي ثم على منزل أهلي وصولاً للواقعة الأخيرة.
بعد الجريمة لم يكن أمامي سوى الدعوة للوحدة والتأكيد على أنني لن أقبل بالفتنة. حشود الناس التي ظلت لساعات طويلة جدا إلى أن استعدت وعيي بعد الإصابة سمعت ما قلته، وتلقفت رسالتي التي مفادها أنني لن أقبل أي معركة أو صراع داخلي. ولكنني أريد بالمقابل ملاحقة الجناة ومحاكمة المجرمين قانونياً.
*طلبك الخاص بالوحدة وعدم قبولك الفتنة أو ردود الأفعال على الجريمة أمر يحسب لك، وهو في السياق الفلسطيني الذي يعاني من تراجع في حالة السلم الأهلي، وبالتالي فعل يقدر في الحقيقة؟
**أعرف أن هناك أطرافاً لها مصلحة بالمعارك الداخلية فلسطينيا. ونحن شعب تحت احتلال ولا يجب أن نصرف مشاكلنا الداخلية بهذا الاتجاه. استمرار حالة الفلتان الأمني والعدوان وحتى القتل يعبر عن حالة جنون، قد تقود لما لا تحمد عقباه، لكننا لا يجب أن نسمح بذلك على الاطلاق. هذا بلدنا وهذا مجتمعنا وهذا وطننا ولن نسمح بتدميره بأيدينا. ولكننا في المقابل نريد من السلطة إجراءات حاسمة ضد الخارجين على الصف الوطني الذين يهددون الأمن والسلم الاجتماعي ورفع الغطاء عنهم مهما كانت انتماءاتهم والجهات التي يحتمون في ظلها للهروب من العدالة.
وأنا بغرفة العمليات كان أول اتصال من الأخ أبو مازن (الرئيس محمود عباس). وكان كلامه واضحا تماما. أراد أن يطمئن على صحتي أولاً. وفي المقابل أراد التأكيد على أنه لن يسمح للمجرمين بالإفلات من العقاب. وتعهد أنه سيتم محاسبتهم وجلبهم للقضاء. ما قاله الرئيس مفاده باختصار أن “حقك مش رح يروح، والمجرمين راح يتعاقبوا”. وهذا هو ما أريده. وهو أمر عزز من صحة ضغطي على الجميع للقبول بالقانون ليكون حكماً علينا جميعا.
*حجم الإدانة من جميع الأطراف الفلسطينية نادرٌ، وهو أمر نفهمه في ضوء شخصية الدكتور ناصر الدين الشاعر، وعلاقاته، ولكن نظن انه لم تتشكل حالة وطنية أو جبهة في مواجهة حالة الفلتان الأمني. وها نحن بعد أسابيع من العملية وما زال الفلتان سيد الموقف حتى أن المجرمين لم يتم القاء القبض عليهم؟
**بالنسبة لي وأمام تواصل كل الفصائل والقوى الوطنية والسياسية والمواطنين كافة وأمام حالة الغضب والتوتر والاحتقان الكبيرة التي عبرت عنها الحشود، شعرت بحجم المسؤولية الكبيرة على عاتقي. شعرت كم أن حجم التعاطف والغضب الشديد وضع علي مسؤولية منع أي احتمال للفتنة أو الحرب الأهلية. والأهم أن كل الفلسطينيين كانوا معي كأطراف مشاركة في منع الفتنة والحرب الأهلية. قيادة السلطة وفتح اتصلت مؤكدة على الموقف والاستعداد لجلب المجرمين للعدالة. وقيادة حماس وكل الجبهات والفصائل وسائر الشخصيات الوطنية أكدوا نفس الموقف تاركين المسؤولية على عاتق السلطة وأجهزتها بناء على تعهدها بذلك. فحجم التعاطف وحجم الغضب كانا هائلين. وهو ذات الغضب الذي جعلني أواصل السير على نفس الطريق رغم الجريمة النكراء. لقد حاولت وسأبقى ليكون الطريق الذي سرت عليه هو النهج الثابت لي وللشرفاء الكثيرين في هذا الوطن. وربما لهذه الأسباب تم إطلاق النار علي، مستغلين الحالة الخاصة. وهذا النهج الثابت هو خط الحفاظ على النسيج الوطني وانهاء الانقسام والدعوة لحرية الرأي والتعبير وإجراء الانتخابات العامة والخاصة واعتماد التوافق الوطني في كل قضايانا والتنازل لبعضنا كرامةً للوطن، مع ملاحقة الخارجين على الوطن والصف الوطني ومحاكمتهم. هذا مسار أؤمن به ومشيت به وسأستمر عليه. ما دامت الناس جاءت وفوداً للمستشفى بعد إصابتي وبهذه الروح العالية سأستمر. الناس قالت انها معي ومع صحة هذا الخيار. لكنها جاءت كذلك للتعبير عن غضبها على الحادثة والحوادث الأخرى، وقد طرحت السؤال القاسي والمُر: إلى متى؟
*ماذا بخصوص التحقيقات؟
**حقيقة ما زلت انتظر. زارني وزير الداخلية، وقال بأنه يعمل بناء على تعليمات الرئيس الفلسطيني وسيأتي بالمجرمين للمحاكمة والسجن. مسؤولون آخرون قالوا لي نفس الشيء. لكن الأسابيع تمر. وما يعنيني هو سؤال: هل اعتقلت الأجهزة الأمنية من أطلق النار علي ومن أرسلهم وحرضهم علي كمواطن وكشخصية عامة؟
نحن اليوم في الأسبوع السادس، كأمن يجب ان يكونوا قد وضعوا أيديهم على من نفذ الجريمة ومن خطط لها. هناك سيارات كانت تقل منفذين ملثمين. وهناك كاميرات، وموظفو أمن كثيرون في المنطقة. وقضية الجامعة تضع الجريمة في سياق ما جرى هناك. والإعلام يتحدث والمواطنون يتداولون أسماء. يعني هناك إشارات وشبهات ودوافع يمكن أن تقود لاعتقال المتهمين والتحقيق معهم. حتى لو من باب إثبات انهم أبرياء. لقد أجريت اتصالاتي وأبلغت المسؤولين عدم رضاي عن الوضع. والجميع وعد وأكد أن الإجراءات الأمنية مستمرة والحملة لم تتوقف. أنا بالانتظار. وأنا لست مستعجلاً، إلا من باب الخوف على المجتمع وأمنه وموت القضية.
*لكن أن يمر ما يقرب من شهرين من دون أي نتائج تحقيق أو أي تواصل مع الرأي العام في قضية تمس كل حياة المواطنين مسألة قد تحمل رسائل للمجتمع، ما هي برأيك؟
**الرسالة خطيرة، لو لا سمح الله، طالت الفترة ودخلنا في شهر بعد شهر، ولم يتم جلب المجرمين للمحاكمة في جريمة اغتيال تمت في وضح النهار. الرسالة الخطيرة التي ستصل المجتمع الفلسطيني مفادها أن الطريق الوحيد للحصول على حقك هو أن تأخذه بيدك. وهذه رسالة خطيرة وهي وصفة لتدمير المجتمع الفلسطيني.
ما يجري رسالة للناس كي تبتعد عن القضاء، ورفع شعار “بدي أخذ حقي بيدي”. الناس حساسة لما يجري، وهي تقرأ ما يجري وسلوك السلطات غير المقنع تجاهها إن استمر على هذا المنوال.
شخصيا أضع المسؤولية على عاتق الجهات الرسمية. هذه مسألة تخص الجهات الرسمية للتحقيق في جريمة اغتيال شخصية عامة. وهي مسؤولية واجبة وليست عملاً تطوعياً، بغض النظر من المتهم ومن المعتدى عليه.
كما أن هناك إمكانية لربط الأحداث مع بعضها البعض، فقضيتي مرتبطة بأحداث الجامعة. وهي أحداث شهدت تحريضا ممنهجا ضدي. وهناك أسماء معروفة للمحرضين وهناك من أطلق بيانات ومؤتمرات بلباس فصائلي وعسكري. لقد ذُكرت بالاسم في بعض تلك النشرات والمؤتمرات وتم التحريض علي. أنا أقول بأن عملية التحريض يجب درسها. أنا لا أستطيع اتهام المحرضين بأنهم هم القتلة، هذه مسؤولية الأمن والنيابة والقضاء لتحديد دورهم ونوع عقوبتهم. هناك من القلة النشاز الجاهلة والحاقدة من كتب بعد الحادثة “عاشت الأيادي”. والسؤال هنا متى يجب أن يحاسب هؤلاء في ضوء وجود قانون جرائم إلكترونية. أنا لست رجل أمن، أنا مواطن وبنفس الوقت شخصية عامة، وأي إنسان يُعتدى عليه يفترض أن يُنصف ويعاقب من اعتدى عليه. وهذا أبسط حق. هناك وعود. والمشكلة أننا دخلنا في الشهر الثاني ولم نعرف ما الذي تم فعله.
النقطة الثالثة المهمة هنا، أننا لا نملك كل مفاتيح المجتمع ومداخله في فلسطين الواقعة تحت الاحتلال. نحن مفتوحون على كل المؤثرات والقوى المدمرة، ونعيش تحت احتلال له مصالحه واستراتيجياته في مسألة الصراع الفلسطيني الداخلي وغيره، كما أن هناك عصابات ومصالح وصراع نفوذ وقوى وطامحون وجهلة ومسيّرون.
إزاء كل ذلك فإن الرسالة التي تخرج بعدم اعتقال المجرمين خطيرة ومدمرة المجتمع ليستغلها كل هؤلاء.
*بالعودة لأحداث الجامعة التي عاشت انفراجه بعد قرارات لجنة التحقيق حيث ساد شعور عام بانتصار الحق، وهي المسألة التي لم يتم البناء عليها مع محاولة اغتيالك. هناك عدم مواكبة من السلطة وهو أمر راكم حالة من السواد وغياب الأمل. ذلك أنها لم تقدم نموذجا إيجابيا ولم تلتقط شعلة الأمل والرغبة في التغيير التي طالب بها طلبة الجامعة كما المجتمع عامة، السلطة هنا خسرت فرصة البناء على التحول في الرأي العام المساند لصالح حماية المواطنين؟
**تقديري الشخصي أن السلطة فوّتت لحظة ذهبية كانت موجودة ومتاحة، وكان بالإمكان استغلالها والبناء عليها، بعد جريمة محاولة اغتيالي، وبعد تداعيات أحداث الجامعة. كانت هناك حالة عارمة من الرأي العام ضد حالة الفلتان الأمني، نبض الشارع كان قويا وكان يمكن استثماره والبناء عليه عبر إنجاز فعل حقيقي يعيد للمجتمع تماسكه وإيمانه بالقانون.
طبعا أنا أدرك أن هناك أحداثاً كثيرة حدثت. وهناك لاعبون وأطراف كثيرة متداخلة في الساحة الفلسطينية. كما أنه سقط شهداء وحدثت اجتياحات للمدينة وقُصفت غزة. وهذه أمور كلها أضعفت ملفي وقللت من الزخم. ولكن في الحقيقة ملفي لا يموت، إنه ملف مرتبط بحياة الناس اليومية حيث الوجع المحلي الذي يعيشه الناس يوميا. أرى أن السلطة وأجهزة الأمن خسرت فرصة إنجاز المطلوب وتقديم نفسها من خلالها على أنها الراعية لأمن المواطنين دون استثناء. ومع ذلك الناس ما زالت تنتظر، والفرصة ما زالت سانحة. لا أعرف ما هو الهدف من التلكؤ. المفروض طرح هذه الأسئلة على الأجهزة ومسؤوليها. أنا مجرد ضحية هنا في هذه الحادثة. وهناك من يمتلك زمام الأمور وهؤلاء يجب أن تطرح عليهم الأسئلة في قضيتي وقضايا الناس المختلفة. وتحديدا سؤال: لماذا لم تستفيدوا من الفرصة الذهبية عندما كان الشارع الفلسطيني كله معكم، في ظل أنني سحبت البساط من أي احتمال لفتنة داخلية، وتركت للجهات الرسمية القيام بمسؤولياتها. ومع ذلك الفرصة ما زالت قائمة لتصويب الأمر وجلب المعتدين للعدالة وحماية المجتمع من شرورهم.

*جانب من التحليلات هنا يرى أن ملف الشاعر ارتبط بملف الصراع الداخلي على السلطة وعلى من يرثها، بمعنى أنه تجاوز الشاعر وادخلت الأطراف التي كانت سببا بمحاولة اغتيالك بأطراف لها علاقة بالجهات الفلسطينية التي تتصارع على السلطة، كيف ترى هذا التحليل؟
**أنا لا أعرف الرابط بين الأمرين. ولا أرغب في زج قضيتي بهذه الملفات والظنون. وهذا الزج قد يضعف ملف التحقيق الخاص بقضيتي ويشتته، وإذا حصل ذلك فعليا فهذا خطير. لإنه يضعف السلطة نفسها، ويضعف فرض النظام في المجتمع. المفروض في الجهات الرسمية ألّا تسمح لأحد أو جهة بتوفير غطاء لأي إنسان أو مجموعة تخرق النظام والقانون وتهدد السلم الاجتماعي. لأن هذا يشكل عبئاً على السلطة التي يفترض أن تحرر نفسها من أي حمولات زائدة وضارة لها وللمجتمع. وهذا التحليل له توابع كلها خطيرة على المجتمع الفلسطيني وتماسكه وقدرته على الصمود والتحدي والتجذر في الأرض.
*البعض يقول إن استهداف ناصر الدين الشاعر كان بمثابة استهداف للسلطة أو للجهات الرسمية الفلسطينية من أطراف قررت السلطة أن تنزع الغطاء عنها بعد أن خلقت ممارساتها غضبا شعبيا كبيرا، وبالتالي كان استهداف الشاعر جانبا من رد فعل تلك الشخصيات بحق السلطة؟
**في حال ربط ملف اغتيالي بأحداث الجامعة، حيث يتم تحديد شخصيات قادت للتغيير الإيجابي، بهدف استهدافها من قِبل المتضررين، فهو تفسير يمتلك الوجاهة. وأحب أن أضيف على ذلك إلى أنه قد يكون خطر في بال بعض المخططين لاستهدافي محاولة قلب الموازين وجعل الصراع يبدو سياسيا فصائلياً بين فتح وحماس مثلاً، وهو أمر يمكن أن يوفر لهم بعض الحماية ويحقق الأغراض البعيدة التي لها ارتباطات أبعد من الجامعة وأبعد من أطراف الصراع الداخلي ذاته لجهة ضرب المجتمع وجره لفتنة داخلية تضعف مقوماته وتضرب فتح وحماس والسلطة والوجود الفلسطيني ككل. وهذا التفسير تدعم وجاهته بعضُ الأصوات التي ظلت تتحدث عن انقلاب أبيض في الضفة، وأنه لا يجوز السماح به وإنما يجب قمعه بكل قوة ولو “على جثثنا”. وهذه التصريحات ومثيلاتها قائمة على نظرية المؤامرة وخلق العدو الموهوم لتبرير الإجراءات القمعية.
على كل حال، جميع السيناريوهات واردة. سواءً لتحليل الحادثة ودوافعها أو لتفسير المواقف بعدها. والناس أحرار في تحليلاتهم. لكن هنا أود الحديث عن نفسي بأنني لست محللا سياسيا. أنا شخص يتحدث عما يعرفه. وكل النظريات والفرضيات تؤشر إلى شيء خطير ولا يجب أن نسمح به. ونبقى في النهاية أمام حادثة محددة تتمثل في محاولة اغتيال تمت في وضح النهار ونريد معرفة المعتدين ومن أرسلهم وتقديمهم للعدالة بغض النظر عن كل التحليلات.
كما أود التأكيد هنا، بأنني لست الشخص الأهم الذي وقف خلف التغييرات الإيجابية في الجامعة. إنما انحصر دوري والفريق الجامعي في البحث عن حل توافقي للأزمة التي انفجرت وعطلت الحياة الجامعية. والجامعة هي التي اتصلت بي للتدخل في حل الإشكال مع الزملاء الآخرين. وهناك مجموعة من الشخصيات الوطنية التي تتواجد في أماكن الأزمات في الوطن بفعل ثقة الناس بها. وقد انتهى دورنا في اقتراح الحل التوافقي بين الجامعة والطلبة وكفى الله المؤمنين القتال. لكن من الواضح أن هناك أطرافا متضررة من الصلح ولا تريد للأمور أن تحل بطريقة منصفة. وقد يكون بعض هؤلاء فكروا باستهدافنا وكانت البداية معي. لكن الظروف لم تخدمهم، أو أن التجربة شكلت لهم صدمة بسبب غضب الشارع واستنكار السلطة والفصائل وسائر القوى والشخصيات الحرة في الوطن، مما أشعر القتلة ومن خلفهم بأنهم فئة معزولة ومنبوذة.
*هل هناك شيء تندم عليه بعد ستة أسابيع من الجلوس على سرير الشفاء وأنت صاحب تجربة أكاديمية وسياسية مشهود لها وممتدة على مدى عقدين وأكثر؟
**أنا شخص لا ينظر للخلف كثيراً للبكاء على الأطلال. أنا شخص يفعل ما يؤمن به، ويؤمن بصوابية ما يفعله. واليوم أنا فخور بما فعلته. فأنا فخور بموقفي المناصر للحق في الجامعات، لرفع مكانتها عالياً وتصويب ما يلزم فيها من جهة، ولإنصاف طلبتها الذين يشكلون مستقبلنا الواعد من جهةٍ أخرى. وأنا فخور لكوني نجحتُ في لحظة عاطفية حادة من منع فتنة كادت تعصف بالوطن. وهذا موقف اسأل الله تعالى أن يجعله في ميزان حسناتي. هنا انا أسألك، وأنت تعرف البلد وما فيه، هل ترى أنه بعد ما تعرضت له كان صعبا أن يحصل ردة فعل قوية؟ وهل ردة الفعل تلك كان يمكن أن تكون مبررة ومقبولة أم لا؟ طبعا ستبدو مبررة ومقبولة، فنحن إزاء محاولة اغتيال ومن حق الناس أن يكون لهم ردة فعل. لكنني أبدا لم أندم على الموقف الذي اتخذته لمنع ردة الفعل. لن أقبل بالفتنة الداخلية ولن أضحي بأحد من المواطنين في الصراع الداخلي الفلسطيني. لن أسهم في الفتنة ولن أقبل لأحد أن يكون جزءاً من صراع داخلي دموي. كل شريف وحر يحب الوطن، وكل شخص يخاف الله، كان سيتخذ نفس الموقف الذي اتخذته. فلا ندم على ذلك، إنما الفخر والاستمرار على ذلك النهج. طبعاً مع الإصرار على جلب المجرمين للعدالة ومحاسبتهم على فعلتهم الخسيسة. وإلا فكيف ستقنع أهلك وأحبابك على الاستمرار في ضبط النفس وعدم الانزلاق وراء ردود الأفعال وأخذ الحق بأيديهم إذا طالت الأيام والشهور ولم يتم جلب المجرمين للعدالة؟!
*إذا ما الذي تقبل وترضى به في ملفك والملف الداخلي الفلسطيني؟
**ما أقبله لي ولكل مواطن، هو أن نكون جزءاً من عملية ديمقراطية تقوم على التنافس الحر المنضبط. أنا مع الديمقراطية السياسية. ولكن الديمقراطية تحتاج أناساً ناضجين يتقبلون الآخرين. ونحن نعيش في مجتمعات درجة الكراهية فيها عالية، وعدم قبول الآخر سمة غالبة ومسيطرة. لذلك أنا دائماً أدعم ممارسة الديمقراطية التوافقية، وأخاف من الديمقراطية الشكلية. لذلك أنا كنت من أصحاب فكرة الحكومة التوافقية، وأنا اقترحت الانتخابات التوافقية التي لا سيطرة فيها لأحد. والمطلوب تعزيز الايمان بسياسة الحلول التوافقية. وهي الحلول التي تقوم على أنصاف الحقوق لكل طرف. اليوم الحل ليس انا أو أنت. الحل أنا وأنت. وهذا شعار رفعته من عشرين سنة. وهذه لغتي ولم أغيرها ولن أغيرها ولست نادما عليها. أشعر اليوم أن من أطلق الرصاص علي هم أشخاص لا يعرفونني جيداً وغير قادرين على فهم ما أقوله إذا أردت إحسان الظن بهم. لذلك يقولون: “هذا انقلاب أبيض”. وهنا أسألهم: أهو انقلاب أبيض أم تعايش أبيض؟ ما هو الأحسن لنا كمجتمع؟ لماذا لا نعيش في وئام وتفاهم وعمل مشترك وتكامل أدوار، بدل أن يلغي بعضنا الآخر؟ وإذا أردت الأخذ بسوء الظن، فأقول بأن البعض يعرف ما نقول ولذلك يسعى للتخلص من أمثالنا.
الأمر المهم هنا، أننا ندفع ثمن أي صراع داخلي، ونحن تحت الاحتلال بشكل مركز، ونحن ناس وطنيون، لا نضحي بما تبقى من مجتمعنا ومن وطننا ووطنيتنا. ومطلبي هو أن نعمل على تعزيز البيئة الحافظة للمجتمع، بيئة تحافظ على أولادها وأبنائها داخل المجتمع. اليوم تجد مَن يلعن هذه الحياة ويريد أن يترك المكان الذي يعيش فيه، الكل يشتم الواقع في الحي والحارة والمخيم والمدينة. وسيكون السؤال المر: أين نذهب إذا؟ وما هو الحل؟ ومَن نخدم في حال هجر الناس أوطانهم في ضوء الواقع الصعب والمتردي؟ ثم نبقى نردد: على هذه الأرض ما يستحق الحياة. لكننا لا نستمع لرأي المواطنين المسحوقين. وأنا أصر على حقنا في البقاء على هذه الأرض. فوطني ليس حقيبة وأنا لست مسافرا. لكن حتى صاحب هذه المقولة قد يسافر إذا حولنا الوطن إلى بيئة ظالمة طاردة.
اللهم احفظنا جميعاً، واحفظ علينا الوطن والإيمان، وارزقنا الأمن والأمان.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول نشةشم:

    الطريق الوحيد للحصول على حقك هو أن تأخذه بيدك يا صحبي

إشترك في قائمتنا البريدية