إلى متى سيستمر الحصار الأوروبي غير المعلن على المغرب؟

يوما بعد يوم يضيق الخناق عليهم، رغم كل الكلام المعسول عن التعاون والانفتاح والاستثمار، ويشيد جيرانهم الأوروبيون المزيد من الجدران الإسمنتية والحواجز المرئية وغير المرئية على حدودهم. لكن بعيدا عنهم يستمر الرجل القوي في تحديه للمكسيكيين، غير مبال بموجات الغضب العارم أو الاحتجاجات والمظاهرات والخطابات النارية التي انتشرت منذ إعلانه العزم على بناء جدار فاصل على طول الحدود الأمريكية مع الجارة الجنوبية، وغير عابئ بمن وصفوا مشروعه بالغبي والساذج وقالوا عن صاحبه إنه بلغ حدا متقدما من جنون العظمة جعله مهوسا بارتكاب الشرور والخطايا، ومتوهما أن باستطاعته أن يطوع اي شيء ولو كانت الطبيعة والجغرافيا لإرادته وسلطانه.

بقي دونالد ترامب رغم كل الانتقادات التي وجهت له وفيا وثابتا على موقفه، ومصمما على السير في الطريق التي اختارها لنفسه، ولم يهتم أبدا للردود المستهجنة والمنددة بتصميمه على تنفيذ وعده الانتخابي الغريب بإقامة ذلك الجدار وبتمويل من المكسيكيين انفسهم، مثلما ظل يكرر باستمرار. ولأن الأمر بقي على ذلك النحو فلن يساور أحد الشك ايضا في أنه لن يهتم أو يقلق بالمرة، إذا ما وجه له أي احتجاج أو انتقاد على الفكرة التي اقترحها في وقت سابق على مسؤول إسباني رفيع، بأن يقيم الإسبان بدورهم جدارا على امتداد الصحراء الكبرى، حتى يمنعوا تدفق المهاجرين الافارقة على قارتهم، لكن وبغض النظر عما إذا كان سينجح في فرض رؤيته تلك وفي تحقيقها خلال عهدته الرئاسية الحالية أم لا؟ فإن مثل ذلك التفكير يطرح إشكالا حول ما إذا كان مجرد هلوسة فردية لرئيس أمريكي منفعل ومتعجرف؟ أم أنه نموذج مصغر لما يمكن أن يطبق ولو بأشكال أخرى في مناطق بعيدة كالمغرب العربي، ويكون جزءا ثابتا من الأجندات الأوروبية غير المعلنة للتعامل مستقبلا مع ما يصور كابوسا للهجرة المقبلة من تلك البلدان؟

لقد صدم الكثيرون لما كشف وزير الخارجية الإسباني أواخر الشهر الماضي عن أن الرئيس الأمريكي عرض عليه، في سياق نقاشهما حول أفضل الحلول لمواجهة مثل ذلك الكابوس الذي يقض مضجع الأمريكان والإسبان على حد سواء، أن تفكر مدريد أسوة بما فعله ترامب في بناء جدار على طول الصحراء الكبرى، لتمنع وصول المهاجرين إلى سواحلها. ولا شك بأن الرئيس الأمريكي، رغم كل ما قد يتهم به من قلة إلمامه بكثير من الحقائق والمواضيع التاريخية والجغرافية، كان يدرك جيدا وهو يطرح الفكرة على المسؤول الإسباني أن الإسبان يقيمون بالفعل سياجين حديديين لكن على الضفة المقابلة لشواطئهم، وفي مدينتين مغربيتين محتلتين، وان السياجين لم يعودا مجديين، ولم يحلا المشكل بشكل تام وجذري. لكن هل تراه فوجئ بردة فعل محاوره الإسباني عندما علق على المقترح بالقول إن الصحراء تمتد على مسافة تفوق الأربعة آلاف كيلومتر؟ أم إنه كان يعرف في قرارة نفسه أن حجم النفاق الأوروبي يمكن أن يجعل الوزير الإسباني لا يعترض على الفكرة من حيث المبدأ والاصل، بل يتحجج فقط بصعوبة تطبيقها على أرض الواقع؟ مهما يكن الحال فقد ورط جوسيب بوريل نفسه وحكومته لاحقا، عندما أراد الالتفاف على الموضوع، والزعم بأن الأمر لم يتعلق بمقترح ببناء جدار، بل فقط بمحادثة مع الرئيس الامريكي حول الهجرة وطالب الصحافيين بعدم “إخراج التصريحات عن سياقها”.

إن السقطة التي كشفت سوءات الإسبان والاوروبيين عموما، كانت اضافة بوريل بعد ذلك الطلب جملة قصيرة عما قال إنه الفرق بين الحالتين الامريكية والاوروبية في تأمين الحدود، ولخصه في أن “التجربة المكسيكية تتمثل في بناء جدار مادي أمام المكسيك، ونحن ايضا لدينا جدار وهو البحر المتوسط”، ما يعني أن لا حاجة للاعلان عن بناء جدران جديدة بين الضفتين، مع ما قد يحمله ذلك من ردات فعل قد لا يقدر الاوروبيون على تحملها بالشكل الذي بدا به ترامب قادرا على تحمل تبعات مقترح جداره المكسيكي، في الوقت الذي يستطيعون فيه أن يحققوا المشروع نفسه باقل جهد ممكن. ولنتأمل مليا ما يحصل في الضفة الجنوبية للمتوسط، ألا تبني أوروبا كل يوم في صمت، وبعيدا عن أي جلبة جدرانا جديدة أكثر علوا وسمكا من السابق؟ من يمكنه أن ينكر ذلك وهو يرى كل تلك المآسي التي تحصل بشكل شبه يومي في شواطئ المغرب وتونس والجزائر وليبيا؟ ثم ألم يصبح دور الحكومات المغاربية شبيها بدور الحراس الذين ينقضون على كل من يحاول اختراق تلك الجدران، ويتلقون المكافآت المالية السخية كلما قاموا بعملهم على أكمل وجه، وينالون نصيبهم من السخط والغضب الاوروبيين كلما قصروا أو تهاونوا في تنفيذ ما يطلب منهم، من قتل وإغراق متعمد في مياه المتوسط لبنى جلدتهم ممن قادهم حظهم العاثر للبحث خارج أوطانهم عن لقمة عيش مرة؟

الأوروبيون يستغلون الظروف الداخلية التي تمر بها الأقطار المغاربية وما يسود علاقات دولها ببعضها بعضا من فتور وركود أو توتر ملحوظ

إن الواقع يؤكد أن ذلك هو التوصيف الحقيقي لما يسمى تعاونا أو تنسيقا بين الجانبين، فبصفاقة المستعمر يطلب الإسبان الذين يحتلون مدنا وجزرا مغربية من سلطات الرباط أن تتعاون معهم على صد جحافل الراغبين بالدخول إلى أراض محتلة، تماما كما يفعل الإسرائيليون بعد أن شيدوا جدارا عازلا داخل الأراضي الفلسطينية وظلوا يطالبون السلطة بالتنسيق الأمني معهم لضبط أعداد من يسمح لهم بالعبور في الاتجاه المقابل له.

وبصفاقة المستعمر أيضا يحل وزير داخلية ايطاليا في ليبيا ليكرر في طرابلس على مسامع حكومتها عرضه وعرض اوروبيين آخرين باقامة معسكرات للمهاجرين المفترضين لاوروبا داخل التراب الليبي، ويقول قبلها في يونيو/حزيران الماضي وفي اول زيارة له لصقلية منذ استلامه مهامه “إن تونس بلد حر وديمقراطي لكنه لا يقوم بتصدير الاشخاص المحترمين، بل في احيان كثيرة المدانين باحكام جنائية بالسجن” ثم يضيف بخيلاء “سأتحدث إلى نظيري التونسي حول وجود المهاجرين التونسيين غير الشرعيين. إذ لا يبدو لي أن هناك حروبا أو اوبئة أو مجاعات في تونس”. إنهم يفعلون ذلك وأكثر، لأنهم يعلمون أن الطرف المقابل لا يستطيع الصمود امام تهديداتهم واغراءاتهم في الان نفسه. وفيما يجيدون اللعب بمهارة بمعادلة العصا والجزرة ليحققوا اهدافهم تلك، يستغلون الظروف الداخلية التي تمر بها الاقطار المغاربية وما يسود علاقات دولها ببعضها بعضا من فتور وركود أو توتر ملحوظ بسبب مشكلة الصحراء مثلا، أو غيرها لاستخدامها ورقة ضغط اضافية. لكن الإشكال الأكبر هو ان الدول الاستعمارية وضعت منذ اعلان الاقطار المغاربية استقلالها عنها، عشرات الحواجز والجدران السميكة بين تلك الاقطار، لتعيق أي تواصل فعلي بين ابناء المغرب الكبير، ما يجعل تلك الاقطار محرومة الان من اقوى سلاح لفك الحصار الأوروبي غير المعلن عليها وهو سلاح التعاون والتضامن المغاربي. ولأنها مغلوبة على امرها فهي تفعل المستحيل لتصدق ما يقوله لها اصدقاؤها الاوروبيون من انهم ارفق وارحم بها من ذلك المجنون ترامب الذي يفكر في بناء جدار مع جارته المكسيك.

 كاتب وصحافي من تونس

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية