أعمال المغربي صلاح بنجكان… مجازات بلا تُخُوم

لا يمكن حصر العمل التشكيلي في الصباغة والتلوين، أو في مساحات البياض التي يشغلها أو يتركها شاخصةً يراها الجميع، بل إن التشكيل هو العين ذاتها، وهي تقرأ، تتملى وتتحسس، تلتقط، لكن، بانتقاءٍ خاص، تتداخل فيه أسباب وعناصر كثيرة، بينها، الحس الجمالي العالي عند الفنان، وما يتسم به هذا الحس من مفارقات، بل من نشوة ودهشة وارتعاش، لأن العالم الذي تبتنيه فيه، هو عالم مُتخيل، يوازى عالم الحقيقة ويُضاهيه.
الأعمال الفنية الأخيرةُ للفنان المغربي صلاح بنجكان، تدخل في هذا السياق، وهي أعمال فيها انزياح، بل خُروجٌ عن أعماله السابقة، وهذا، في ذاته، تعبير عن قلق العين التي تلتقط ما يجري حولها، ورغبتها الأكيدة في إحداث الاختراق، وفي تأكيد الانتقال والتحول، أو الصيرورة التي هي من شروط الجمال الذي لا يستقر على شكل أو مظهر، أو على الماء نفسه، لأن الجمال هو الماء نفسه، وهو يتدفق، لا يمكن أن نعبُره أكثر من مرة، بالمعنى الهيراقليطي الذي أُؤكد عليه باستمرار. فلا عمل فني بهذا المعنى، إلا بما هو إحداث، وتجديد وإبداع، وتشويش الخيال والمعنى البصريين. ما يشتغل هنا، هو البصيرة، بما فيها من مجازات وإيقاعات، وما فيها من قلبٍ للحقائق والوظائف، وإلا ما معنى الفن والجمال ما لم يكونا بهذا الأفق الخلاق؟
أجواءُ وفضاءاتُ ومشاهدُ مدينة مراكش وألوانها، أيضاً، لكن بما فيها من تعالُقات وتمازجاتٍ، أو ما أجراهُ عليها صلاح بنجكان من تصادٍ، جعلها تلتبس بمظاهر البهجة، وبما يُحيل على المدينة في سياقها الاحتفالي، وهو ما حاولت هذه الأعمال تمثله، بالتخييل والتعديل، وبإحداث المُفارقات، والمجازات التي لا تقتصر على اللغة، بل تتجاوزها إلى العلامة والإشارة، أو إلى الرسم والتشكيل.

صلاح بنجكان

الحلقة، وإيقاعات كناوة، والمهرجون، والحكواتية، والمُغنون، بكل تخاييلهم، ووجوه السابلة، ملامحهم الملحمية، في بعدها السحري العجائبي، الذي ليس سوى تعبير عن طبيعة الاختلاط والتمازج والتصادي، الذي ولّد هذه الكائنات الكونية، التي تلتقي في الفضاء نفسه، تلتبس بإيقاعاته وألوانه وروائحه، وما ينطبع في خلجاتها من إحساس بماضٍ ما زال يتخلق، ويخلق الفرح والفُرجة، ويبعث السرور واليقظة في النفس، دون فرق في الهويات، والألوان، والأجناس، واللغات والثقافات، ما يعني أن هذه الأعمال، لها بُعدٌ كوني وبُعد إنساني، أي أننا أمام لحظة أنطولوجية بامتياز، هذه المرة تظهر في اللون، والمساحة، وفي الإيقاعات والمظاهر، أو السطُوح التي هي تعبير عن طبقات من الجمال مُترسبةً وكامنة في كل عمل على حدة، بل في كُل تفصيل صغير ودقيق في العمل الواحد، الذي فيه العين تبقى مشدوهةً لا تعرف من أين تبدأ اللوحة، ولا أين تنتهي، فهي أرض بلا تخوم.
الفن، ليس رسماً، أو خدشاً، أو تقاسيم، أو حفراً ونحتاً، أو حتى موسيقى أو تعبيرا جسديا، بل هو كل هذه التعبيرات، وهي تتختر في العين، كما تتختر وتختلط الألوان، وتتماهى في الماء نفسه أو على القُماش نفسه، لتصير دالاً واحداً، بأكثر من معنى، وبأكثر من لغة، وبأكثر من صوت ولسان.

إذا كان صلاح بنجكان، في مرسمة أو محترفه، يستعيد ذاكرةً ما، فهذه الذاكرة عنده، وفق ما تبدو عليه بعض هذه الأعمال، هي ذاكرة مدينة فيها اجتمعت المُدُن، والحضارات، والثقافات، وفيها التاريخ حاضر، بل لا يفتأ يحضر، لأننا في ما نعيشه من انهيار شامل في القيم، وفي حسنا ووعينا الجمالي، أو علاقة العين بما يجري حولها، نحتاج أن نكون في قلب هذا التاريخ، كما أن هذا التاريخ هو نحنُ من نكتبه، ونُعبر عنه بالأشكال الفنية المختلفة، كما فعل صلاح بنجكان في هذه الأعمال الفنية الجديدة والمُدهشة.

التأمل في بعض هذه الأعمال، أخذنا إلى عوالم الفنان، وهي عوالم لا تُحيل إلا على ذاتها، على تمثلاتها وتخيُلاتها، وليست صدًى لشيء سابق عليها، وهذا في تصورنا، هو أحد نقاط قوة هذا الفنان الذي له توقيعه الشخصي، وله فراشاته التي يعرف متى يُطلقُها في بساتينه البديعة، لتعبث بانجرافات الريح والغُبار. البهجة ونشوة الألوان، هي نشوة ما نسمعُه، أيضاً، من أصوات، وما نشُمه من روائح، وما نسرح فيه من صُور وأشكال، ولعل البياضات التي تبرز من تحت الألوان، هي نفسها انبثاقات الشمس من بين الغيوم الكثيفة التي تحجُبُها، فهي بقدر ما تحجبها تكشفها وتزيدها ظهوراً وانكشافاً.
في أعمال بنجكان، هذا الانبثاق، له ما يُبررُه في هذه الأعمال، وهو تلك الرعشات التي تسكن أنامله، أو ما تعتري فُرشاته من اضطراب، هو نفسه القلق الذي يُرافق العمل إلى أن يتوقف، ولا أقول ينتهي، لأن العمل الفني، لا نهاية له، كما لا بداية له، فهو متاهٌ، وهو صيرورة لا تفتأ تحدث، بغير ما حدثت به من نشأتها الأولى، أو ما بدت به من تخلقٍ.

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية