الغموض الشفاف في أعمال المغربي مصطفى النَّافِي

الحاجة إلى الفن، هي نفسها الحاجة إلى الجمال والإنسان. تاريخ الوجود البشري، كان يسير بهذه المُعادلة، في الحضارات والثقافات التي عرفت تطوُّراً عظيماً، وظهر فيها الخيال، باعتباره نواةً للعمران والتمدُّن، وللخلق والإبداع والابتكار.
وأنا أتأمَّل، قبل اليوم، أعمال الفنان مصطفى النافي، كنتُ أتلقَّى منها نِداءً غامضاً يُهَجِّجُنِي، وكأنَّ فيها شيئاً يَخُصُّنِي، أو يَدِي جاءت منها، بما تميل إليه من كتابةٍ لم توجد لتملأ، بل لتخلق الفراغ، والحذف والمحو، و تـُحَوِّل الصّلب إلى سائلٍ، والمُكْتَمِل إلى ناقص.
وأنا أتأمَّل بعض هذه الأعمال التي هي واحدة من أعمال معرض هذا الفنان المغربيّ، تساءلتُ، كما يمكن أن يحدث لكل من يحيا بالخيال والجمال، وما يعتريه من قلق إزاء الأشياء الجميلة الغامضة التي تتخلَّق بالتَّدْرِيج، أو تكون في حالة انْبِثاقٍ دائم، الظُّهُور فيها هو نفسُه الخفاء :
ـ «ما هذا الغموض الذي يقف على شَفَا الوضوح، يُظْهِر كل شيء، فقط، لِيُخْفِيه. وهذه الشُّقُوق والثُّلْمات، أو ما يبدو تصدُّعات، أليست، بالمعنى الصُّوفِيّ العميق، هي نفسُها ما يجري من أنفاسٍ في الجسم ليتشرَّبَ وجوده. أوَ ليست هذه الأعمال، خلقاً، ليس من طين أو تراب، كما ذهب إلى ذلك غير مصطفى النافي من الفنانين، بل من هَيُولَى، التي هي مادَّة لا تقول أي شيء، ولا تحتمل أي تعبير، أو معنى، ما لم تلمسها عين الفنَّان، باعتباره الخالِقَ، أو الخلّاق»؟

مصطفى النافي، لا يقول للشيء «كُنْ»، بل هو من يُكوِّن الهَيُولَى، باعتبارها شيئاً، هو ما ينفخ فيها من خياله، ومن جنونه، ومن فائض الكينونة التي تجري في أنفاسه، وفي رعشاتِ يده التي يتصادى فيها الصّلب مع السائل، واللون مع اللَّالَوْن، فهو لا تستغرقه الفُرشاةُ ولا الأصباغ، ما تستدعيه الهَيُولَى، بعد أن تكون عثرت على كينونتها، وعلى ما تحقَّق فيها من وجود بالأنا، بمعنى الاسم، وليس الضمير، كما كان باسكال كشف هذا المعنى في الأنا عند ديكارت، هو ما يكون في بصيرتِه، لأنَّ البَصَر، شيء عابر، وهو سطح ينظر إلى سَطْح، أما البصيرة، فهي عمق، يَسْتَجْلِي ويَسْتَشِف، بل يكتشف عُمقاً، ويسعى إلى بلوغ بعضِ ما بدا فيه من تُخوم.
فَكُلّ عمل من أعماله، بما يبدو فيها من سوادٍ مُفْعَم بالبُنِّيّ، بتدرُّجاتِه اللونيَّة، التي تنبثق من نفس اللون في أصْلِه، كأنَّها طين شَرَعَ في الإيحاء بما فيه من حياة، وحدها الثُْلْمات والشُّقُوق والفراغات، وما يظهر، فجأةً، من ضوء لا ننتظره، هي سيرةُ انبثاق عَلِقَ في لحظة غُمُوضٍ، لا يمكن اسْتِشْفافُه، إلا بالدُّخُول في الكُلّ، وتوسيع الرؤية أكثر، بما يسمح، ليس بالنَّظَر أو الإبصار، بل بالاستماع إلى الإيقاع الذي يجمَعُها، وهذا لا يحدث في التشكيل، وفي الحَفْر والنَّحْت، وفي الفنون قاطِبَةً، إلا عند الفنان الذي لا تتحرَّك أنامِلُه إلا بالموسيقى، بذلك الثَّراء المُريب الذي يُعَطِّل الانبثاق، بل يجهله مُسْتَحيلاً، حتَّى لا يفقد العمل غُموضَه.
فمصطفى النَّافِي، لا يكتفي بالتشكيل أو بالصِّباغة، ففي مرسمه، بل معمله، يخوض في صَناعَة الأشياء، ولا أقول صِناعَة، وهذه من العبارات التي كان العرب يُسَمُّون بها صِناعة الشِّعْر، بوضع الفتحة على الصاد، بإيقاظها من صَمْتِها، ومنحها حقَّ الحياة، فهي لا تبقى بين يديه صامِتَةً، تتكلَّم، وتُشير، وتُوحِي، دون أن تستهين بعين من يراها، لِتَتْرُك له بعض ما يُشْعِل به خيالَه، ويُحْييه متى كان توقَّف عن الحياة، أو مال إلى الصَّمْت والتَّكتُّم
هذه، هي زاوية النظر، أو التأمُّل في أعمال هذا الفنان الشَّفيف الغامض، وفي هذه الأعمال التي هي سَدِيمٌ، يشي بضوء ما إن نراه، حتَّى يختفي ويتَوَارَى.

شاعر وكاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية