فضاءات بلا حدود لأجساد مترحلة في لوحات المغربي مصطفى العرش

يعدّ العمل الفني أرضا تنمحي فيها الحدود بين الذات والعالم: الجسد والفضاء؛ تنصهر فيها الأنوات وتذوب فيها الحواجز: الجغرافيات؛ لصالح إتاحة متسع أرحب للرؤية والفكرة، مقابل جعل المادة (عناصر التكوين المادية) مجرد ذرائع لتصوير الموضوع المبتغى تسليط الضوء عليه، مع إمكانية فتح كل الأبواب والنوافذ الموصدة، من أجل تعدد التأويل وإجازة كل القراءات الممكنة. فلا يتحقق العمل الفني إلا بكونه قابلا للتأويل المفتوح على كل قراءة تتنوع باختلاف المتلقين (الناظرين) وتعددهم.
يعمل الفنان التشكيلي مصطفى العرش على تكثيف دلالته ومفرداته وجمله التشكيلية، في معرضه المقام في الرباط، أكتوبر/تشرين الأول ـ نوفمبر/تشرين الثاني 2023، ما يسمح بمطالعة لوحاته بكل إمكانية جمالية متسمة بمضاعفة المعاني، مما يُشرّع كل مُستَطاع تأويلي لمنجزه. هذا الأخير المنتصر للجسد الإنساني في تحرر من كل ملبس وغطاء، والحاضر في عري إستتيقي (nu esthétique) لا يسعى إلى أي إثارة أو استفزاز، بقدر ما يبحث عن الإعلاء من الجسد في حضوره اليومي المنتزع من أدق التفاصيل العابرة، جلوسا ومشيا ووقوفا، داخل فضاءات ذائبة ومجردة، المأخوذة من الواقع وتضاعفه (le réel et son double) دون أن تحتكم إليه كليا، ما يمنحها غموضا لا يُفكّ إلا بالتأويل، الذي لا يفتأ يتعدد ويزيدها اِلْغازاً، ما يجعل أبدان العرش تعبر الدروب وتتنوّس بين الرمزي والتعبيري والتحويل الشكل والتحجيمي للجسم البشري، من أجل اختلاق سيلويتات سيمولاكرية، تتخذ حضورها بعدها ما أوكل له أمر تمثيل الواقع، لتصير هي عينها الواقع لا مضاعفا لها فحسب.. لتبلغ التجربة التشكيلية في هذه الأعمال إلى المستويات الهندسية الجسدية المتعامدة والمتداخلة، والمندرجة ضمن خانة الإيقاع اللوني للخلفية، التي يجردها من كل مشهدية طبيعية مسبقة. وهو ما يجعل هذه الهيئات الآدمية سابحة في فضاءات سديمية مطلقة.

مصطفى العرش

ومن ناحية أخرى، تبرز شخوص العرش في خلفية – فضائية – زخرفية، تكاد تكون غريبة تماما عنها؛ غير أن الفنان يمنح للوحة طابعا تشخيصيا تجريديا، يُزاوج بين الدلالات الشكلية الممدودة، المبنية من الألوان المسطحة، والمفردات البصرية الـمُختلقة من رموز وأرقام، وحتى أشكال نباتية مُصغرة، ما ينسج عنه من تباينات مشهدية ناتجة عن حركية الأبدان وسكون المشهد الخلفي.
كل ذلك ضمن اشتغال مفاده المراوحة بين الأجساد الهلامية والفضاءات المجردة الرمزية، حيث لا تغتني بالكثير من الأشكال بقدر ما تقدم نفسها على أنها مساحات لامتناهية من تداخلات الألوان الأحادية أو المتعددة، التي تعمل على اختلاق جغرافيات موحدة تسبح فيها كل الأبدان بحُريّة مطلقة؛ لا متسع للحدود والجدران في هذه الفضاءات، ما يجعل من أجساد العرش أجسادا مترحلة (nomades).. بين عالمنا (الأصل!) هذا، وعالمها الخاص (المضاعف) دون أي اعتبار للحدود (جدران الفضاءات) هائمة في مأساتها، راضية بـ»واقعها» التي تحفه التراجيديا من كل جانب، كأنها تدعونا – بوصفها تضاعفا لنا- لاحتضان الزائل واليومي واللحظي والواقعي، بكل ما يعتريه من ملذات ومأساة.. تتنوع ملونة الخلفية في لوحات مصطفى العرش من مونوكرومية (monochrome) متدرجة النصاعة، إلى بيكورومية (bichrome) حيث تتكئ على اللعب الثنائي الناتج عن تراكبات الألوان المتكاملة، أو تضاعف لوني وصباغي مستخلص من الزخرفة الهندسية التي تفرض تعددا لونيا (polychrome) في سياق أنطولوجي لتجربة تحاول الذهاب والإياب بين عالم الخيالات والمجازات المنتزعة من مفردات الواقع، مما يشيّد أقاليم الخيال السديمي، تطفو فوقه وتغوص فيه الأجساد البشرية في مواضع مختلفة وفضاءات صباغية متنوعة. لا علاقة لهذه التجربة بأي نزعة فانتازية، بل إنها تسمو بالتجربة الحسية للصورة الذهنية والفكرة، في تجسيد صباغي تصويري، يهدف إلى وضع البدن الإنساني موضع سؤال عار من كل لُبسٍ وحجاب، ضمن مختلف الفضاءات والإمكانيات.
في مجموعة من تجاربه، يقسم العرش سطوح اللوحات إلى نطاقات أحادية اللون عريضة، ويكاد يمحو كل الإشارات إلى تفاصيل الطبيعة المصورة. متيحا كل الإمكانات للمتلقي بملئها عبر مخليته. بالتالي، فإن صباغاته (ses peintures) هذه، عبارة عن تجاور للمساحات المسطحة الكبيرة (les grands aplats) المرتبة جنبا إلى جنب، لصالح حضور مبهر للذهنية الناظر في معاينة المنجز وملئها بمخزونه البصري المستنبط من «تجربة الحواس» الذاتية في علاقتها بالطبيعة (الفضاء الواقعي) والمتخيل (الفضاء الافتراضي) على حد سواء، ما يجعل اللوحة -عنده- لا تهدأ عن الحركة الناتجة عن التنويس، مراوحة ومجيئا بين الواقعي والمتصوّر. بين ما تمثله اللوحة وما يتمثله المشاهد.

يعمد الفنان، بهذا، إلى جعل المتلقي يستبصر ويستشرف أقاليم المتخيل، دون حاجة لأي تضخمات وصفية. وكلّ ما يخسره العمل بالنسبة للجانب الوصفي، يكتسبه على المستوى التركيبي والتضاعف الخيالي المنسجم مع التجربة الحسية للمتلقي، بين فضاءات الداخل والخارج. لهذا يستخدم الفنان لجعل مناطقه الملونة أكثر نشاطا. أسلوب تتراقص عبره الألوان وتتشابك مع الخطوط الدقيقة التي تتولد عنها الأجساد الهائمة والسابحة في سديمها المزخرف. يحتفي مصطفى العرش بالخيال، في كل معانيه من حيث كونه أثر الجسد (الظل) وبعده أثر صور الواقع في الذهن (الصور الذهنية) متيحا للمتلقي كل المستطاع لتسليط المعنى الممكن على اللوحة؛ مانحا لبعض أبدان شخوصه حرية الحضور الكوريغرافي المتناغم مع الفضاءات الملقاة فيها، كأنها تتراقص على إيقاعات مرحة وغنائية موسيقية. بينما تقع أبدان أخرى ضمن بعد أنطولوجي مثير للتساؤل، حيث إنها لا تمنحنا أي نظرة عينية مباشرة. شخوص ناظرة إلى الخلف، لا نبصر منها سوى الظهر، وأخرى لا نلحظ منها سوى الجانب، بينما تستلقي بعضها دون أن ندرك تفاصيلها.
أجساد، سواء المرحة -على قلتها- أو القلقة -الأكثر حضورا- يجعل منها العرش مصوغات لاستشكال السؤال الوجودي الأهم..»من نحن؟ وما الذي نفعله في هذا العالم؟ وإلى أين نسير وإلى ما نصير؟». لا تجيب هذه الأعمال عن هذا التساؤلات الفلسفية الوجودية المضنية، لكنها تجدد منبعها الإستتيقي في سديم اللامرئي المسكون بالتناسخ الذائب والدائب للأجساد البشرية، المنذورة للقلق والفزع الدائميْن، اللذين يعدّان محرك العالم والوجود في كل ما تحيط به من مآسي لا بد منها.
تطرح بالتالي، أعمال الفنان مصطفى العرش الأسئلة أكثر من الإجابات، ساعية نحو تسليط الضوء على الإنسان والإنساني في عريه التام، من أي لباس اصطناعي لا يكشف عن جوهره، الكامن في وجوده بوصفه جسدا وبدنا، داخل فضاءات ينبغي أن تمحى عنها الجدران لصالح حرية مطلقة للترحال (الخيال). لهذا يجرد المنظر من أي إحالات طبيعية، محتفظا على بعض الزخارف والمفردات البسيطة، التي تؤثث الفضاء لبناء مشهدية تحيل على عملية الانبثاق الوجودي الناتج عن «صحراء السديم» بينما يقبع الإنسان جسدا في قلب المشهد، لكونه (هو) كنه العالم، الذي لا يوجد إلا ذهنيا (متخيلا، فضاءً افتراضيا).. لهذا كان لا بد من إدراج مخيلة وذهنية المتلقي في بناء عوالم اللوحات، بوصفه المتفاعل والصانع للعمل الفني، إذ وحده المشاهد المخولة له الإجابة عن الأسئلة المطروحة، ما يجعل المنجزات قابلة للتعدد التأويلي المفتوح على كل الإمكانات.
يرسم إذن مصطفى العرش تجربة الحدود – والفضاءات- الذائبة في قلب العمل الفني، الذي يراوح نفسه بين عالمه المصنوع من المفردات الصباغية ومخيلة المتلقي، المنوط به بناء المعنى وتشييد الفراغ بحواسه وحدسه الخاص.

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية