مصر في زمن الفتنة الكبرى

حجم الخط
1

بينما هناك من يكتب الآن دستوراً عن حق المواطن المصري في التعبير عن رأيه ومحاولة النص فيه على حرية ما يعتقده وما يعتنقه من أفكار وما يعلنه من آراء، هناك آخرون في نفس الوقت يريدون أن يحرموا قطاعا عريضا من المواطنين من هذا الحق في محاولة لإبعادهم عن المشهد السياسي، ويجتهد جهابذتهم في خلق وصياغة الأسباب لجعلها تحمل أي حد من حدود الاقناع، هم يكررون دعواهم ومزاعمهم المرة تلو الأخرى على الاسماع حتى تصبح بتكرارها حقيقة واقعة لدى البسطاء. يوماً سيقول التاريخ انهم وهم يكتبون دستوراً عن علاقة الوطن بالمواطن العادي كان هناك آخرون يجردون مصريا بطلا من كل شيء لأنه تجرأ وعبر عن رأيه في ما يدور، ولأنه ظن أنه يستخدم حقه في حرية التعبير عن رأيه، كان الرد عنيفاً عاقبوه ورحلوه، بل وهناك من يطالب الآن بمحاكمته وتجريده من جنسيته ووطنيته وميداليته، لأن رأيه جاء مخالفاً لرأي أرادوا له اجماعا لم يتحقق.
أستطيع أن أجزم بأننا الآن في مصر تفجرت فينا وحولنا فجأة آبار من الشماتة المدفونة، والبلادة المقصودة والمخزونة من سنين، صار بعضنا يكره بعضنا ويعتبره هدفا، صرنا فريقين، فريقاً يُقتل ويُعتقل ويُطارد، وآخر يرى أنه يستحق القتل ويفرح ويهلل عند اعتقاله ويشجع ويحث على المطاردة.
فريق يواجه حملات تشويه إعلامي شرسة ولا يملك أدنى حقوق الرد، وفريق يملك وحده حرية الرأي، بل والساحة الإعلامية بأسرها. وبين كلا الفريقين وبسبب أحدهما أو كلاهما مصر تجتاز اولى خطواتها في طريق الفتنة.
في مصر الآن الرفض والعناد صارا هما العنوان، بينما الفتنة الكبرى تحاصرنا من كل مكان، تعبث فينا وتسخر منا تهدد ماضينا وحاضرنا ونحن نراقبها ونداعبها بكل استسلام. أقلام تكتب وتسود صفحات كانت من بضعة أيام بيضاء، أبواق صاخبة تدوي وحوارات مرضيه تعوي تنقلها قنوات فضائية وصفحات الكترونية ترسخ فكراً ليس لديه استثناء، والكل صار في الهم سواء، أقوال تتردد هنا وهناك لتوقظ فتنة نائمة بكل دهاء. كنا مغيبين، وفي الصمت غارقون، والآن صرنا أمة، معظمها فقهاء دستوريون وفلاسفة وحكماء ومبشرون، أما المنظرون فقد صاروا بالملايين. الفتنة حلت والفطنة غابت في جو مظلم غوغائي الملامح ودامس الظلام. الكل يتناقل أخبار منقوله ورؤى وحوادث، منها المصنوعة بحرفة واخرى مشغولة، ولم يعد احد يتحرى الدقة. البعض صارت تكفيه رواية جاءت على أي لسان، حتى يصنع منها القصة ويغزل منها موالا وينقلها بحبكة وكأنه في قلب الحدث، حتى لو كان على بعد الاف الأميال .
الفتنة تجتاز حدودها وحدودنا وتستعد لتستقر خلال نسيجنا، بعد أن عرفت طريقها بدقة وسطنا وبيننا، بين أبناء وبنات الوطن الواعدين، بين رفاق الدرب والأصدقاء، بل بين أفراد الأسرة الواحدة. صرنا جميعاً لا نرى من يقف هناك في الخفاء يرقب المشهد كله بدهاء مبتسماً ابتسامة صفراء تقطر أحقادا سوداء. أليس هناك من يسدي النصيحة إلى كل من ساهم ومازال يساهم في اشعال تلك الفتنة من أجل مصالحه البغيضة، أليس هناك عاقل يقول لهم عودوا إلى صوابكم فالوطن لن ينساكم وسيبقى ما تفوهت به شفاهكم وخطته ايديكم شاهدا عليكم وعلى افعالكم مدى الحياة.
أين حكماء الوطن ورافضو العنف، الأوضاع تزداد تأزماً في مصر ولم تعد هناك وسيلة ممكنه للخروج من تلك الازمة إلا بحل واحد وهو الحوار، وهذا الحل على بساطته، يبدو مستحيلا بين طرفين احدهما مقهور أو معتقل أو مقتول، لكنه يتمسك بشرعيته وما حولها من شكليات موروثة ومعروفة، والآخر يراهن على وجوده بقوة السلاح وبالدعم الإعلامي والانفلات الأمني، ناهيك عن سيل الآراء الذي بات واضحا بين أناس لم تكن تفتح فمها إلا عند طبيب الاسنان.
الحل الامني زاد الأمور تعقيداً بعد أن صارت الناس ورغم انفه تتكلم وتتظاهر وتصرخ في الشوارع والميادين، ولم تعد تخاف من المسلحين ولا تهتم كثيراً بآراء المتحاورين. الحوار يبدو صعباً جداً بين طرف يتمسك بحقه وبوجوده الذي جاء من المسار الديمقراطي، هذا الحق يشكك فيه الطرف الثاني ويتهمه بأنه يستغل العامة بشعارات دينية، وأنه سعى لإقصاء الآخرين. فريق لا يملك من أمره سوى التظاهر ورفع شعار رابعة وآخر يملك كل وسائل الميديا، فريق متهم بالأخونة وفريق يضم فصائل كلها تسعى لتصفية الحسابات قديمة وجديدة. الآن وبعد أن تم ما سموه مؤخراً بتجييش الرؤى والآراء، الوفاق صار شبه مستحيل، رغم انه الحل الوحيد وهنا تكمن الكارثة الكبرى، فأين عقلاء مصر لوأد تلك الفتنة والوقوف صفاً أمام من يسكب زيتاً على نار .
خيم الشك الآن على كل من يسعى للمصالحة وأصبح الكل يشكك في نوايا الآخر واصبح المصلح بين ليلة وضحاها في نظر البعض مصبوغاً هو ومن حوله بأفكار تآمرية، هل صرنا بالفعل مؤخراً أصحاب عقلية تآمرية؟ لا أدري من الذي أطلق مثل هذه الصفة علينا ومن الذي جعلها شبه حقيقة يستغلها البعض ضدنا ويستخدمها ويستشهد بها المغرضون عند اللزوم أمامنا، ومن الذي يكررها حتى التصقت بنا تماما لتصبح من صميم تعريف شخصيتنا امام العالم، ومن ثم أمام أنفسنا، وصرنا نحملها في كل مجال وكل مكان وعند كل مشكلة كبرى تجتاح حياتنا. في بلادنا عموماً كلما استعصت علينا الأمور أو توجس البعض خيفة من أمر ما تحولت القضية إلى أوهام مرضية وتعالت الأصوات من مدعي الحكمة والعقل، معللة ومحذرة من العقلية التآمرية التي تسيطر على عقول الكثير وتتحكم في أفكارهم. الأزمة أزمة ثقة يا سادة فنحن كنا ومازلنا نسيجا واحدا نمتلك ما يكفي من الحكمة وعار علينا الآن أن نتقاتل تحت أي مسمى أو أي شعار، والعار كل العار أن نترك اصحاب المصالح تعبث بأفكارنا وليكن شعارنا ‘المغرضون يمتنعون’.

‘ كاتب وباحث مصري من نيويورك

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول أحمد المصري امريكا:

    أصبت فعلا الوضع خطير وتحذير اتمنى ان يصل لمن يهمه الأمر

إشترك في قائمتنا البريدية