جنوب السودان: لا تُبنى دولة بالرشوة والتهديدات

حجم الخط
0

‘هذه اهانة عظيمة وهذا يصيبني بالجنون’، قال اليكس روندوس، رئيس وفد الامم المتحدة للمحادثات بين المتمردين وحكومة جنوب السودان في أديس أبابا. كنا نقف في حديقة الشيراتون في حين كان ممثلو المتمردين وممثلو الحكومة في اللوبي وراءنا بالقرب من الموائد المختلفة يتلذذون بكل أطايب الفندق الفخم. ‘لا يهمهم أن يجلسوا هنا في وقت يقتل فيه الناس هناك في جنوب السودان. سيأكلون ويشربون ويطيلون المحادثات ويقدمون إلي الحساب آخر الامر’.
‘لكن هذا مال قليل، قلت.
‘اذا فكرنا في كل المليارات التي أنفقناها في جنوب السودان في العشرين سنة الاخيرة’، قال روندوس في استهزاء.
يوجد شيء يثير الحب في روندوس وهو يوناني من أثينا له خصلة شعر بيضاء آسرة يشتغل بتسوية الصراعات والتقريب بين وجهات النظر والتفاوض منذ سنوات غير قليلة. وهو يعرف افريقيا وجنوب السودان من قريب. وهو ايضا لا ينكر أن جنوب السودان اختراع الامم المتحدة ومنظمات الاغاثة. وقد يكون المكان الوحيد على وجه البسيطة الذي بُذل فيه جهد مركز بهذا القدر مدة سنوات كثيرة وأُنفقت مبالغ ضخمة لانشاء دولة منه. وكان يفترض أن تكون دولة يحتذى عليها فُكر فيها وخُطط لها ونُظمت لكن حينما نشأت انهارت في أقل من ثلاث سنوات أو حتى في سنتين اذا كان الحساب من تموز 2011 الى أن تمت اقالة نائب الرئيس في تموز الاخير.
جئت الى السودان لأول مرة في 1996. وكان الجنوب آنذاك جزءا من السودان الكبرى وكانت العاصمة الرسمية هي الخرطوم. لكن العاصمة الحقيقية كانت في لوكيشوكيو وهو مخيم الامم المتحدة الضخم في شمال كينيا غير بعيد عن بحيرة توركانا. فمن هناك أديرت شؤون جنوب السودان ومن هناك أدار ساسة جنوب السودان العلاقة بجيش تحرير جنوب السودان. وآنذاك كانت يوجد في أنحاء جنوب السودان 36 فقط من العاملين في منظمات الاغاثة مفرقين في مخيمات قليلة وكانت طائرات كرفان تصلهم بلوكيشوكيو التي كانت هي العالم. كان جنوب السودان آنذاك بعيدا ومعزولا. وفي الليالي كانت تأتي قاذفات أنتونوف وتلقي براميل متفجرات على قرى الجنوب، تضاف الى التهديدات العادية من ذباب التسي تسي، وديدان من أنواع مختلفة والملاريا.
وقبل بضع سنوات في 2006 أصبح الجنوب ذا حكم ذاتي فعلي، وانتقلت منظمات الاغاثة والامم المتحدة في مقدمتها واستقرت في جوبا، وأصبحت جوبا فورا من اكثر الاماكن غلاءا في العالم، فقد جاء كل شيء من الخارج وحددت جميع الاسعار بالدولار وكانت غرفة قذرة في حاوية تكلف مئات الدولارات.
وقد زرت جوبا في المرة الثانية في كانون الثاني 2011، قبل ثلاث سنوات، في استفتاء الشعب الذي قضى بصورة لا لبس فيها بانفصال الجنوب مع كل قبائله الافريقية، عن الشمال العربي المسلم الابيض نسبيا. وأجريت آنذاك سلسلة احاديث متفائلة مع شباب في جوبا ومع نائب الرئيس البسام الودود ريك متشار الذي يختبيء في هذه الايام في منطقة جوبا. كان ريك دائما حبيب وسائل الاعلام، هذا الى أنه كانت له زوجة انجليزية قتلت قبل سنوات وله الآن مع زوجة افريقية، زوجة امريكية ايضا.
ونعود الى الفندق في اديس أبابا. ‘ما الذي يقوله ذلك عن جنوب السودان؟’، تساءل اليكس روندوس، ‘هل أن كل أمر السيطرة العربية الاسلامية على الجنوب الاسود الافريقي المسيحي كانت اختراعا في الحاصل العام؟ ألم تكن مشكلة جنوب السودان في الحقيقة هي سيطرة الشمال؟’. ولم تنبه بشيء على سيطرة المسيحية على جنوب السودان الذي كان وثنيا قبل عشرين سنة وجرى عليه عملية تنصير لتمييزه عن الشمال ومنحه ‘ثقافة’.
يعلم من يعرف المكان قليلا أن ما يحدث فيه هو صراع قوة بين سائسين يريدان القوة والمال. وسيضحيان بكل من وما يجب التضحية بهم للحصول على ذلك. ولما كانا لم يستدخلا المسيرة الديمقراطية التي أُدمج فيها مقربون بحسب القانون وبحسب نظم الآداب والنفاق الدولي، فانهما يفعلان ذلك كما هي العادة في افريقيا أو في افغانستان أو في العراق أو في سوريا.
إن جنوب السودان واحد من الاخفاقات الكبرى التي منيت بها الامم المتحدة منذ تأسيسها وقد يكون أكبرها. فان فكرة أنه يمكن بالمساعدة والضغط والرشوة والتهديدات والوعود، تأسيس دولة وارغام دولة مستقلة على التخلي عن جزء غني من ارضها وجزء من سكانها وانشاء دولة جديدة كانت كما يبدو كبيرة جدا من بدئها وتفجرها متوقع.
في تموز 2011 ولدت الدولة الجديدة بفرح عظيم. وهي دولة تكلف الفنادق في عاصمتها بين 100 دولار الى 400 دولار لكل ليلة. ولا يوجد فيها شارع واحد مناسب، ولا يوجد عمل لمواطنيها، ويذكر الفساد والبيروقراطية فيها بامبراطوريات عمرها 500 سنة، ولا توجد فيها بنى تحتية وتعمل فيها مولدات كهرباء من كل حجم ونوع طول النهار وطول الليل.
في تموز 2013 أقال الرئيس سلفاكير نائب الرئيس ريك متشار وطائفة من الوزراء والساسة المقربين منه. وقبل نحو من ثلاثة اسابيع تمرد المبعدون تمردا ظاهرا على النظام ووقعت معارك شوارع في جوبا بين مؤيدي الحكومة ومؤيدي ريك. وأفادت الامم المتحدة قبل اسبوعين ان عدد القتلى يقف على ألف انسان، لكن القتال قوي في الدولة منذ ذلك الحين. وقدرت منظمة مواجهة الازمات الدولية (آي.سي.جي) في هذا الاسبوع أن عدد القتلى في الصراع في جنوب السودان بلغ 10 آلاف. وجاء ايضا أن القتال يجري في 30 موقعا مختلفا.
ما الذي حدث اذا، وكيف حدث؟ عرضت هذين السؤالين على سلفاكير رئيس جنوب السودان، وهو من قبيلة دنكا، حينما جلسنا لحديث في قصر الرئاسة في جوبا. إن القبائل الثلاثة الكبرى في جنوب السودان هي دنكا ونوار التي ينتمي اليها متشار، وشاي لوك. ‘عرفنا أن متشار يخطط للمؤامرة ولهذا كنا مستعدين. انه لا يقبل قراراتنا الدستورية. وقد قال من قبل انه سينافس في انتخابات الرئيسة في 2015 واذا لم يفز فسيفعل كل شيء ليكون رئيسا’.
ويزعم رجال متشار في مقابل ذلك أن الاقالة غير قانونية. إن ريك متشار غير موجود في جوبا منذ بدأ القتال. وتسيطر فرقة موالية له وعصابة مسلحة محلية من نوار تسمى ‘الجيش الابيض’ على عدة اقاليم من بور القريبة نسبيا من جوبا (200 كم الى الشمال) حتى بنتيو على الحدود مع السودان.
حاول الجيش الاستيلاء على بور قبل بضعة ايام ووقع في كمين فانسحب. والوضع في بنتيو غير واضح، وفي حديث مع الرئيس قال انه أمر المفاوضين في اديس أبابا أن يتوصلوا قبل كل شيء الى وقف اطلاق النار. ولم يقل الرئيس هل سيوافق على الافراج عن الساسة الذين يؤيدون ريك متشار، الذين سجنهم والافراج شرط من الشروط الاساسية لأنصار ريك الذين يخشون على سلامتهم.
في ايام الشغب الاولى قتل أكثر من ألف انسان، الكثرة الغالبة منهم مواطنون من ابناء نوار. وفي انحاء جوبا جرح آلاف آخرون ووجد كثيرون من نوار ملاذا مؤقتا بصفة لاجئين في مدينتهم في مخيم الامم المتحدة.
قام سلفاكير باجراءين سريعين لعزل ريك متشار. فقد وافق على أن يرسل البشير، وهو الرئيس السوداني من الخرطوم قوات للدفاع عن حقول النفط (وتخلى بذلك عن سيادة جنوب السودان التي حارب عنها عشرات السنين في ظاهر الامر وطلب وحصل على مساعدة من الجيش الاوغندي، الذي قصف مواقع المتمردين بالقرب من الحدود. بيد أن الزعزعة في الامم المتحدة ومنظمات الاغاثة كبيرة جدا حتى ان الولايات المتحدة أعلنت في يوم الجمعة بأنها ستعلق المساعدة لجنوب السودان. والدولة لا تقوم على رجليها وكذلك تتساءل منظمات الاغاثة ما الحاجة الى مدينة انشأتها هي نفسها بالقرب من جوبا في 2006. وما الحاجة الى كل عاملي الفريق الذين تنفق عليهم في جنوب السودان وهم يعولون الاقتصاد المحلي، اذا كانت النتيجة هي هذه؟ ان المشكلة بالطبع هي انه يجب انقاذ المواطنين البسطاء والطريقة الوحيدة التي يمكن بها انقاذهم هي التعاون مع الساسة الفاسدين. اجل انها دولة أمم متحدة يحتذى عليها.
‘ربما يجب علينا ان نفكر بصورة عملية لا قانونية’، قال روندوس في حديقة الشيراتون، ‘هذه مشكلة الاتحاد الافريقي، وقد يضطر الاتحاد الى التفكير في ارسال قوات للتدخل فيما يجري هنا كما في الصومال واماكن اخرى. فكر في دول مثل اثيوبيا أو كينيا لها جارة مثل الصومال، هل تحتاج الى مكان آخر كهذا على حدودها؟’.
وحينما عرضت مسألة الغزو المحتمل لتحالف الدول الافريقية. قال سلفاكير في حذر ان الالتزام الافريقي هو الدفاع عن نظم حكم مكلفة والقضاء على اعمال تمرد لا مساعدة المتمردين على الخصوص. لكن هل عمل الرئيس سلفاكير بحسب القانون؟ يبدو أنه لم يفعل. فقد هرب 17 ألف من ابناء نوار من اماكن سكنهم في انحاء جوبا ووجدوا ملاذا في مخيم الامم المتحدة الكبير بالقرب من المطار وهو مخيم لاجئين خالص مع اسوار وجنود من رواندا والهند وسيريلانكا واوكرانيا يحمون من يهربوا.
يوجد في جوبا منع تجول يبدأ من السادسة مساءا، لكن في كل مساء جلست فيه على النيل مع البعوض كان يمكن ان اسمع اطلاق النار. وسألت الرئيس عن التطهير العرقي الذي سمعت أن الجيش قام به. ‘في زمن محاولة الانقلاب داهموا (المتمردون) مخزن سلاح كبيرا وسرقوا سلاحا وملابس عسكرية. وهم يلبسون الملابس العسكرية ويستعملون سلاح الجيش لكنهم ليسوا جنودا’، اجاب. ربما. وحدثني آخرون أن الدنكا يمسكون بكل واحد من نوار يعرفونه ويقتلونه وانهم أمس عند مدخل الفندق الذي أسكنه امسكوا بواحد وحينما حاول ان يجد ملاذا في احد البيوت جروه وقتلوه.
وعدت وسألت الرئيس عن اعمال القتل. ‘إما أنك تكذب وإما ان من يحدثك هو الكاذب’، قال. ‘يوجد جنود في حرس الرئاسة هم من نوار وتستطيع ان تجري مقابلات معهم. وكان اربعة منهم من بنتيو. قالوا انهم جنود الحكومة وسيحاربون المتمردين حتى آخر قطرة دم من دمائهم. وسألتهم ألا يخشون التجول في شوارع جوبا فقالوا ان الملابس العسكرية تحميهم وانه لن يمسهم احد وهم يلبسون اللباس العسكري’. وماذا يكون بغير الملابس العسكرية؟ ‘لا نستطيع ان نجيب عن ذلك’، قال.
ماذا سيكون مصير جنوب السودان اذا؟ يعلم الطرفان أنهم لا يستطيعان الانتصار لان متشار له تاييده القبلي وتاييد سياسي من جهات اخرى ايضا، ولسلفاكير الجيش الموالي له. وتوجد الى جانب الرئيس الخرطوم واوغندا لكن الامم المتحدة لا تثق في الحقيقة ببراءة قصده ونيته. وفي مقابل ذلك لا يريد احد ان يعلن فشل مشروع جنوب السودان ولهذا سيتحادث ممثلو الادارة والمتمردين الى ان يتفقوا على العودة الى الحكومة نفسها عوض سلة وعود واغراءات وان يكون للدولة شبه صورة ديمقراطية وان يستمر النيل في الجريان بالفعل وان يرسل الساسة ابناءهم للدراسة في الخارج وألا يتعلم اكثر الباقين ولا ينسون.

هآرتس 14/1/2014

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية