2023 سنة المنعطف السلبي للغرب

ترحل سنة 2023 بعدما ساهمت في توضيح معالم الخريطة الجيوسياسية العالمية المقبلة والآخذة في التبلور، من خلال الحروب التي اندلعت مثل «طوفان الأقصى»، التي أكدت بدء انهيار الكيان الإسرائيلي رغم جرائمه الحالية، ثم استمرار الحرب الروسية – الأوكرانية، وسعي الصين الحثيث لتقاسم الزعامة مع الولايات المتحدة في أفق الانفراد بها.
والواقع أن حصر الأحداث السياسية الكبرى، التي تشكل منعطفا كبيرا، وتحمل تأثيرات في المستقبل، عملية صعبة نظرا لكثرتها وتأثيرها الإقليمي قبل الدولي، وإن كان المقياس الرئيسي هو مدى حضور حدث ما في وسائل الإعلام، لا من حيث الحيز الزمني، ولا من حيث تأثيره في الرأي العام الدولي، ثم كيف انشغلت دول العالم بهذه الأحداث، يبقى الحدث الأبرز هو «طوفان الأقصى»، الذي اندلع يوم 7 أكتوبر ويستمر حتى نهاية السنة الجارية، وقد يستمر خلال الأسابيع الأولى لسنة 2024.
هذا الحدث الكبير والخطير بكل تجلياته ودلالاته جاء ليبرز، رغم وحشية الكيان الإسرائيلي، بممارسة حرب الجبناء بقتل المدنيين، خاصة الأطفال، نقاط ضعف خطيرة للأمن القومي للكيان، فقد أصبح الفلسطينيون قادرين على صنع سلاحهم بأيديهم، ونعني الصواريخ، وفرض واقع جديد على كيان الاحتلال. ولا يمكن نهائيا لإسرائيل، التي تحظى بحماية مطلقة وغير مشروطة من واشنطن، القضاء على صناعة السلاح الفلسطيني، التي ستتطور خلال السنوات المقبلة. يأتي طوفان الأقصى ليؤكد أن من يصنع سلاحه بيده فهو قادر على فرض معادلات جيوسياسية جديدة، ارتباطا بهذا، يشكل حزب الله النموذج بعدما تقدم في صناعة السلاح واستيراده من إيران، وكيف جعل إسرائيل لا تهاجم لبنان، كما كانت تفعل قبل حرب تموز، كما يمكن الاستشهاد بمسيرات إيران وتركيا وكيف تفرض مشهدا حربيا جديدا في العالم، لاسيما في أكبر حرب بعد العالمية الثانية وهي الحرب الروسية – الأوكرانية. سنة 2023، جاءت لتبرز مرة أخرى حالة الهوان التي تعيش فيها غالبية الأنظمة العربية، التي تتشدق بالوحدة والمصير المشترك. جاءت عملية طوفان الأقصى لتفضح أن الكثير من هذه الأنظمة بين خانع للغرب وعميل له، بل حتى لإسرائيل من خلال التآمر ضد الفلسطينيين. أمام هذا الخنوع، يشهد العالم العربي، والبداية بقوة مع 2023، دورا أكبر للجماعات السياسية -المسلحة التي تستعيد روح التعاون، التي كانت سائدة في الستينيات وبداية السبعينيات وسط العرب في مواجهة إسرائيل. وعلاقة بهذا، انضمت حركات سياسية – مسلحة إلى النزاع مثل، حركة «أنصار الله» وحركات عراقية علاوة على الحضور الدائم لحزب الله اللبناني، لقد كانت أكبر مفاجأة في النزاع في الشرق الأوسط ليس تبادل النار الحدودي بين حزب الله وإسرائيل، بل انخراط أنصار الله في مواجهة إسرائيل، أولا عبر ضرب مناطق في الأراضي المحتلة، خاصة إيلات، ثم من خلال استهداف السفن الإسرائيلية في البحر الأحمر وخليج عدن، الأمر الذي دفع البنتاغون إلى تأسيس قوة بحرية دولية لمواجهة هذا المستجد.

2023 سنة التحولات الكبرى التي تقوض زعامة وقوة الغرب، فهو خسر أخلاقيا في القضية الفلسطينية بعدما أيد همجية إسرائيل، ولم يعد يمتلك المبادرة في أوكرانيا

هذا النزاع يأتي ليبرز مدى تفاقم الشرخ بين الغرب الرسمي، الذي تمثله عواصم مثل برلين وباريس ولندن وواشنطن وباقي العالم، وهكذا، أصبح الشرخ كبيرا بين الغرب الرسمي والرأي العام العربي والإسلامي، هذا الأخير الذي رأى كيف أن عواصم الغرب سارعت لنجدة الكيان، وكيف مارست نفوذها وحق الفيتو في مجلس الأمن لمنع أي إدانة للكيان، بل معارضة وقف إطلاق النار رغم بشاعة قتل الأطفال. شاهد الرأي العام العربي كيف أن الغرب الرسمي يقتصر فقط على «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها» ويتناسى  جذور المشكل وهو الاستعمار الإسرائيلي لفلسطين. شهد العالم سنة 2023 قفزة نوعية في عمل منظمة البريكس بانضمام دول جديدة ذات ثقل مثل، إيران والعربية السعودية والأرجنتين في قمة جنوب افريقيا خلال أغسطس الماضي. وبهذا أصبح هذا التكتل منافسا حقيقيا لمجموعة السبع الكبار. وتعد هذه القمة من الأحداث المهمة للغاية التي تبرز وتوضح معالم الخريطة الجيوسياسية المقبلة للعالم. فقد تبنت الدول الكبرى في البريكس خطابا واضحا بوضع حد لهيمنة الغرب على العلاقات الدولية، وهي الهيمنة التي دامت طويلا. ومن ضمن الملفات التي تميزت بها دول البريكس، خاصة روسيا والصين وجنوب افريقيا والبرازيل، هو رفض سياسة الغرب تجاه الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، ويكفي أن جنوب افريقيا تزعمت مبادرة تقديم دعوى ضد إسرائيل أمام المحكمة الجنائية الدولية. أبرز أعمال البريكس هو الاتفاق باستعمال العملات الوطنية في التبادل التجاري بين الدول الأعضاء، مع إعطاء الأولوية للعملة الصينية على حساب العملة الأمريكية الدولار، وهو منعطف لافت في الصراع الجيو اقتصادي. ويبقى الملف الثالث هو الحرب الروسية – الأوكرانية، إذ يتعرض الغرب لهزيمة حقيقية في هذا الملف. وخلال الشهور الأخيرة، يتعاطى الغرب بنوع من الغموض مع هذه الحرب، فقد  تبين له الفرق والفارق في وقت واحد، وفق المحلل الجيوسياسي الفرنسي باسكال بونيفاس، بين الحرب في الإعلام والمتمنيات، ومعطيات الواقع الحقيقي. سنة 2023 على خلاف سنة 2022، ضمت روسيا إلى الأبد شرق أوكرانيا إلى وحدتها الترابية، كما تبين استحالة تقدم القوات الأوكرانية نحو الشرق بعد الترويج والتهليل للهجوم المضاد، واتضح صعوبة مسايرة ليس فقط أوكرانيا لإيقاع روسيا، بل حتى الاتحاد الأوروبي في مجال التسلح، كل هذا دفع أوكرانيا والغرب إلى تخفيض كثافة المواجهات الحربية في أفق البحث عن هدنة والانتقال إلى السلام لاحقا، لكن الغرب يريد استعادة ولو ربع الأراضي التي استولت عليها روسيا ليمني النفس بانتصار ليس نسبيا فقط بل مزيفا، وذلك ليحفظ ماء وجهه أمام باقي العالم، بعدما روّج بأن روسيا ستنهزم وستصبح قوة ثانوية في الساحة الدولية.
إن سنة 2023 تبقى سنة التحولات الكبرى التي تقوض زعامة وقوة الغرب، فهو خسر أخلاقيا في القضية الفلسطينية بعدما أيد همجية إسرائيل، ولم يعد يمتلك المبادرة في أوكرانيا، وأخيرا تتقدم الصين عبر البريكس نحو مشاركة الولايات المتحدة في زعامة العالم في أفق الانفراد بها.
كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية