يثقلها الاختلافُ الشديد بين ثقافة الناقل والمنقول عنه: الترجمة عبر لغة وسيطة

عبدالواحد لؤلؤة
حجم الخط
0

ثمة غير القليل من الأمثلة على ترجمة نصوص أدبية عن طريق لغة وسيطة، يقول العارفون بلغتها الأصلية إن هذه الترجمة لا تقل جمالاً في دقتها عن النص في لغته الأصلية. هل نذكر ترجمة الدكتور طه حسين لنصوص من الأدب الإغريقي التي لم يجرؤ أحد، على قدر ما أعلم، على القول بأنها نقل عن النص الإغريقي، بل إنها ترجمة عن الترجمة الفرنسية! فإذا كان الناقل الفرنسي يتقن الإغريقية فيضع ما ينقله بلغته الفرنسية بشكل يَعي دقّة النص الأصلي وجماله، ويأتي ناقلٌ من وزن الدكتور طه حسين فينقل إلى لغته العربية ما استطاب من الترجمة الفرنسية الوسيطة نكون نحن الرابحين في آخر المطاف.
وقد تيسّر لي شخصياً تجربة الترجمة/ النقل عَبرَ لغة وسيطة عندما كلّفني المَجمَع الثقافي في أبو ظبي بترجمة كتاب لشاعر الهند الأكبر رابندراناث طاغور بعنوان «أغانٍ وأشعار» فأنجزتُ الكتاب ونشره المَجمَع عام 1995 وكتبتُ له مقدمة قصيرة بحدود 6 صفحات وترجمتُ مقدمة براتيسما باويز بالإنكليزية، التي تزيد عن 25 صفحة، وهي من بنغلاديش أقامت في بريطانيا سنوات طويلة، وتتقن اللغة الإنكليزية إلى جانب لغتها البنغالية، لغه الشاعر وكتابه، وساعدَتها في مراجعة وتدقيق لغة الكتاب في ترجمته الإنكليزية ابنتها التي ولدت وتعلّمت في إنكلترا. وبذلك يكون الكتاب في شكله المترجَم أقرب ما يمكن إلى لغة الشاعر الأصلية.
مما يُثقِل حركة الناقل، عَبر لغة وسيطة، الاختلافُ الشديد بين ثقافة الناقل والمنقول عنه. فالنقل عن لغة أوروبية مثلا لا يشكِّل صعوبة كبرى، في الغالب، إذا كانت اللغة الوسطى إنكليزية مثلا، والنص المطلوب نقله فرنسي أو إيطالي أو إسباني أو ألماني أو حتى روسي. وبعض السبب في ذلك أن الكثير من آداب تلك اللغات الأوروبية قد نُقل إلى العربية، وشكّل بذلك أرضية ثقافية للناقل تسهِّل عليه فهم بعض الإشارات والإحالات في النص المطلوب نقله إلى العربية مثلاً. وعند صعوبة ذلك أو تعذّره يكون اللجوء إلى الهوامش أقل صعوبة من معالجة نص شديد الاختلاف عن ثقافة الناقل المعاصر. بل قد تكون الهوامش في هذه الحالة فائدة جديدة للناقل والقارئ على السواء. وقد جرّبتُ ذلك شخصياً في مقالة سابقة لي عن شعر الهنود الحمر. فأنا لم يسبق لي معرفة أن للهنود الحمر شعراً حتى قرأتُ عنه لباحثة أمريكية متخصصة في الإناسية (الأنثروبولوجيا، من الكلمة الإغريقية أنثروبوس، أي الإنسان، ولوكوس أي علم) وقد قضت مدة طويلة مع قبائل الهنود الحمر الموجودة في أطراف إحدى الولايات الأمريكية حيث كانت تعيش، وتعلّمت لغتهم وكتبت دراسات كثيرة عن لغتهم وعاداتهم، وعن ما كان لديهم من شعر هو في الحقيقة غناء في مناسبات مختلفة، حزينة دائماً. ومن أمثلة الشعر الكثيرة التي قدمتها تلك الباحثة الأمريكية استطعتُ التقاط أمثلة تفسِّر بعض ما ورد في تلك القصائد/الأغاني ما شكّل ما يشبه أرضية ثقافية للهنود الحُمر. واستطعتُ عن طريق اللغة الوسيطة، الإنكليزية في هذه الحال، إلى بلوغ فهم لتلك القصائد/الأغاني وإلى فهم بعض جوانب «ثقافة» الهنود الحُمُر ما ساعدني على نقلها إلى العربية.
وفي تجربتي ترجمة مختارات من قصائد الشاعر الهندي/البنغلاديشي الكبير طاغور صعوبات من شكل مختلف. فإلى جانب جهلي بثقافة الهند/ بنغلاديش، شأن غالبية المتأدبين العرب، سوى القليل مما تذكره الكتابات العابرة بين حين وآخر، والتي تميل في طبيعتها إلى المبالغة في الغرابة أو التزويق في الدعاوة، ثمة طبيعة اللغة التي يكتب بها الشاعر. هذه لغة مثقلة بالمجازات والصفات والإحالات إلى الديانة الهندوسية أو الديانات الأخرى الكثيرة في القارة الهندية. والترجمة التي صنعتها السيدة البنغالية توحي بأنها تظن أن كلامها مفهوم للقارئ متوسط الثقافة أو أكثر. ومثل ذلك ما تظنه الإبنة التي راجعت ودققت الترجمة الإنكليزية.
وهذا الشعور طبيعي، لأن ابن اللغة يكون منغمساً في لغته تاريخاً وثقافةً إلى درجة أنه يحسب أن القارئ، بفضل هذه اللغة الوسيطة، قد يتوصّل إلى «استيعاب» هذا الشعر، بعبارة تي. إس. إليوت، وهي الخطوة الأولى نحو الفهم! وأنا إلى اليوم لا أدري ما الفرق بين الاستيعاب والفهم!
ولكن اللغة الوسيطة لم تُسعِفني في هذه الحالة لبلوغ فهم صحيح للقصائد المكتوبة بلغة الهند البنغلاديشية، فكان لا بد من الرجوع إلى الاستعمال المفرط في الهوامش. وهذه ليست مريحة للقارئ الذي يبحث عن المتعة في قراءه الشعر الأجنبي بلغة يفهمها، ولتكن الإنكليزية أو العربية. وهنا تعود للظهور المصاعب المألوفة في النقل من لغة إلى أخرى إذا كانت اللغتان من عائلتين مختلفتين، مثل الهندية والعربية. ففي هذه اللغة التي يستعملها طاغور في هذه القصائد أكثر من 50 إسما للأزهار والأشجار والثمار ومواسم السنة والأمطار والفيضانات، وهذه جميعاً تأتي في سياقات مختلفة مما يؤثر في المعنى والإيحاء في القصيدة.
ولكن اللغة الوسيطة لا تجنّب الناقل عدم التزام الدقة في النقل إذا كان البناء النحوي في اللغة المنقول عنها لا يؤدي ما يريده الشاعر. فصيغة المثنى، مثلا، لا توجد في كثير من اللغات غير العربية، وهي صيغة جميلة تقبل الرفع والنصب والجر، وتؤدي بذلك في العربية ما لا تؤدّيه صيغة الجمع في اللغات غير العربية. ففي قول الشاعر ذي الرمّة: «وعينان قال الله كونا فكانتا/ فعولان بالألباب ما تفعل الخمرُ» من الجمال في صيغة المثنى ما لا تؤديه صيغة الجمع. فلو ورَد هذا المعنى، أو ما كان قريبا منه، في لغة أوروبية، لكان وروده في صيغة الجمع، فيجب تجنّب الدقة هنا ونقل صيغة الجمع إلى صيغة المثنى، وذلك ما لا يجعل من الناقل عضوا ًفي زمرة الخَوَنة!
من أجل ذلك كله أرى أن النقل أو الترجمة من لغة إلى أخرى يعتمد في جميع الأحوال على معرفه الناقل/المترجم باللغتين المنقول منها والمنقول إليها معرفة دقيقة، إضافة إلى ثقافة واسعة بما يتعلق باللغتين تاريخاً ومزاجاً، فلكل لغة مزاجها الخاص الذي يدركه الناقل بعد طول مِراس، فليس هناك من «نظرية» في الترجمة، إلاّ إذا كانت هناك نظرية في تعلم السباحة أو سياقة السيارات!

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية